في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
فيلم وثائقي من القناة الرابعة البريطانية عنوانه "حمض هتلر النووي: مخطط ديكتاتور"، لا يكشف فقط عن حقائق طبية عن الديكتاتور أدولف هتلر بعد ثمانين عامًا من وفاته؛ بل يحاول أيضًا تفسير سلوكه بناءً على تحليل حمضه النووي . ولكن هذا المشروع مثير جدًا للشك من وجهة نظر علمية.
كان هتلر يعاني بحسب تسلسل حمضه النووي من متلازمة كالمان النادرة، وهي حالة مرضية وراثية تؤدي إلى انخفاض في إنتاج الهرمونات الجنسية. وعواقبها عدم حدوث البلوغ أو تأخره بشكل ملحوظ، وانخفاض مستويات التستوستيرون ، وضعف في تطور حاسة الشم (فقدان الشم)، وعدم نزول الخصيتين، وكذلك زيادة احتمال صغر القضيب أو تشوهات تناسلية أخرى.
لقد كان الجنود البريطانيون يستهزئون عام 1939 بعيوب هتلر الجسدية في أغنيتهم الساخرة "هتلر لديه كرة واحدة فقط".
وهذه الاستنتاجات من تحليل الحمض النووي تتوافق بالفعل مع المعلومات المذكورة في سجل هتلر الطبي في سجن لاندسبيرغ، حيث كان مسجونًا في سنة 1923 بعد محاولة الانقلاب الفاشلة. وفي ذلك الوقت شخّص طبيب السجن لدى هتلر "اختفاء الخصية اليمنى"، أي عدم نزول خصيته اليمنى.
وبالإضافة إلى ذلك فقد كان طبيب هتلر الشخصي، تيودور موريل، يحقن الديكتاتور بحقن التستوستيرون بانتظام منذ سنة 1944، وهذا يدعم أيضًا فرضية متلازمة كالمان.
وبحسب الفيلم الوثائقي فإنَّ حمض هتلر النووي يُظهر أيضًا وجود احتمال أعلى من المتوسط لاضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه ، واحتمالًا كبيرًا للإصابة بسلوكيات توحدية والانفصام، وميلًا إلى السلوك المعادي للمجتمع.
وتوجد في الواقع مصادر وملاحظات مُوثّقة من شهود معاصرين تؤيد وجود اضطراب عقلي وكذلك "عدم استقرار نفسي" لدى هتلر. وفي كتابه "جنون من الدرجة الأولى"، درس الطبيب النفسي الإيراني الأمريكي ناصر غايمي، أستاذ الطب النفسي بكلية الطب في جامعة تافتس ومحاضر في الطب النفسي بكلية الطب في جامعة هارفارد في بوسطن، "عدم الاستقرار النفسي" لدى قادة تاريخيين - من أبراهام لينكولن إلى أهم خصوم هتلر الديمقراطيين، ونستون تشرشل. وكان هتلر هو المثال السلبي الوحيد بالنسبة للدكتور ناصر غايمي.
ويرى غايمي أنَّ نتائج الحمض النووي "مبنية على أساس علمي" وهو مقتنع بأنَّ هتلر كان يعاني من مرض الهوس الاكتئابي . وحول ذلك قال الطبيب النفسي غايمي، الذي لم يشارك في الفيلم الوثائقي، لـDW: "تعمل السمات الهوسية على زيادة الإبداع والقدرة على التحمل، وتعمل الأعراض الاكتئابية على تعزيز التعاطف والواقعية - وجميعها نقاط قوة قيادية. وهذه الصفات القيادية يمكن استخدامها لأي توجه سياسي، سواءً كان استبداديًا وطغيانيًا كما في حالة هتلر، أو ديمقراطيًا كما في حالة تشرشل".
ويقول غايمي إنَّ "الاضطراب النفسي" تفاقم لدى هتلر بعد عام 1937 بسبب حقنه يوميًا بالأمفيتامينات في الوريد لعلاج اكتئابه. وهذا التقييم تدعمه أيضًا مصادر تاريخية.
وبحسب غايمي فإنَّ احتمال إصابة هتلر بمتلازمة كالمان قد "يُفسّر لماذا لم تكن لديه على ما يبدو رغبة جنسية عالية، بعكس معظم المصابين بسمات هوسية، بينما كانت لديه الكثير من السمات الهوسية الأخرى، مثل كثرة الكلام، والطاقة الجسدية العالية، والحاجة القليلة إلى النوم ، وتقدير الذات المفرط". ولكن هذه مؤشرات وليست أدلة.
أدولف هتلر يجلس مع زوجته إيفا براون على الأريكة المزخرفة: يُقال إنَّ الديكتاتور هتلر كانت لديه علاقة مضطربة مع النساءصورة من: kpa Keystone/United Archives/picture allianceويمكن طبعًا لمثل هذه التقييمات والنتائج الطبية الجديدة أن تساعد في فهم نفسية هتلر بشكل أفضل. ولكن لا يجوز تحديد سلوكيات الفرد فقط من خلال التحليلات الجينية واستخدام "اختبارات درجات المخاطر متعددة الجينات" (PRS)، التي تُقدّر المخاطر الجينية لمرض محدّد.
وينشأ ظهور الاضطرابات النفسية دائمًا من خلال التفاعل المعقد بين الوراثة والبيئة وتاريخ الحياة والتجارب الفردية. ولا يمكن بالتحليلات الجينية تشخيص الأمراض النفسية، إذ يتطلب هذا تقييمًا شاملًا يستند إلى أعراض ومحادثات مع الشخص المعني ومحيطه.
وفي هذا الصدد يعترف عالم النفس البريطاني سيمون بارون كوهين المشارك في الفيلم الوثائقي بأنَّ "الانتقال من علم الأحياء إلى السلوك عملية هائلة". وبهذا فإنَّ علماء الوراثة وعلماء النفس المشاركين في الفيلم الوثائقي يقرّون بعدم جواز الاستنتاجات المبنية فقط على خطر أعلى يتم تحديده من خلال تحليلات الحمض النووي - ولكن مع ذلك يتكهنون حول التشخيصات أو أنماط السلوك المحتملة.
وهو سلوك ينقلب خاصة على عالمة الوراثة والآثار الكندية البريطانية توري كينغ، التي تعمل أستاذة في التفاعل العام وعلم الوراثة بجامعة ليستر البريطانية، وقد تم كسبها من قبل شركة الإنتاج للمشاركة في الفيلم الوثائقي. اشتهرت توري كينغ من خلال تحليلها الحمض النووي لريتشارد الثالث من بقايا في موقف سيارات بمدينة ليستر.
وعلى الرغم من أنَّ توري كينغ كانت تريد في الواقع تقديم نتائج بحثها حول حمض هتلر النووي إلى مجلة طبية متخصصة وإخضاعها لعملية مراجعة من قِبل الخبراء، ولكن شركة الإنتاج لم ترغب انتظار هذه العملية الأكاديمية الطويلة، وفي النهاية وافقت توري كينغ. والآن أصبحت سمعتها الأكاديمية على المحك.
بيد أنَّ تحليل الجينات تمكن على الأقل من تفنيد شائعة مستمرة: أصول هتلر اليهودية المزعومة.
وحتى في عام 2022، ادعى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أنَّ هتلر كان له جد يهودي. وبحسب تحليل حمضه النووي، يوجد الآن دليل وراثي واضح على جذور هتلر النمساوية الألمانية.
وبحسب الفليم الوثائي فإنَّ عينة الحمض النووي التي تم تحليلها تعود إلى أريكة ملطخة بالدماء، كان هتلر يجلس عليها عندما أطلق النار على نفسه في 30 نيسان/أبريل 1945.
في وقت لاحق، أخذ العقيد روزويل ب. روزنغرين، وهو الضابط المسؤال عن الصحافة والإعلام في الجيش الأمريكي، قطعة من تجنيد الأريكة من داخل "ملجأ الفوهرر" كتذكار مرعب. وهي محفوظة الآن في متحف التاريخ العسكري في جيتيسبيرغ بولاية بنسلفانيا. وهذه القصة معقولة جدًا: توجد عدة صور لهتلر والأريكة وكيف قام جنود روس وأمريكيون بقطع قطع من قماش الأريكة.
ولكن المشكلة الأكبر تكمن في التصنيف: بحسب الفيلم الوثائقي تم التحقق من صحة عينة الحمض النووي من خلال مقارنتها بعينات معروفة مأخوذة من أقارب هتلر. ولكن من غير الواضح من هم هؤلاء الأقارب. ومن غير الواضح أيضًا إن كان هؤلاء الأقرباء الأحياء لهتلر قد وافقوا على مقارنة عيناتهم.
انتصار في غرف هتلر الخاصة: جندي أمريكي يقف بجانب الأريكة التي انتحر فوقها هتلر ويجمع قطعًا تذكاريةصورة من: akg-images/picture allianceوكذلك كان الباحثون المشاركون في الفيلم الوثائقي يدركون أنَّ ربط التوحُّد واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط بهتلر باعتباره تجسيدًا للشر يعتبر إشكاليًا للغاية. ويحذّر عالم النفس سيمون بارون كوهين في الفيلم الوثائقي من "وجود خطر وصم كبير". وذلك لأنَّ مثل هذا الربط يحمل خطرًا كبيرًا في احتمال ربط الأشخاص المصابين بأمراض نفسية بالقاتل السفاح أدولف هتلر.
ويوجد بالإضافة إلى ذلك خطر في وصف هتلر بأنَّه "مجنون" قد يؤدي إلى تفسير سلوكه غير الإنساني وتبريره بنزعة وراثية، وبالتالي التقليل من خطورته. ولكن بحسب رأي الدكتور غايمي فإنَّ هذا يشكل "مصدر قلق دائم لبعض العلماء والناشطين الألمان". وحول ذلك قال غايمي لـDW إنَّ التصريحات حول حالة هتلر الصحية لا يوجد لها "أي تأثير على مسؤوليته الأخلاقية عن جرائمه". وأضاف أنَّ هتلر مسؤول أخلاقيًا وقانونيًا عن أفعاله.
ومن سخرية التاريخ أنَّ هتلر نفسه كان سيصبح بموجب قوانينه النازية ضحية لبرامجه الخاصة بالقتل الرحيم ، وذلك باعتباره "مريضًا وراثيًا" و"غير جدير بالحياة".
وطبقًا لما يعرف باسم "النظرية العنصرية" لدى النازيين فإنَّ مصير الإنسان يكمن في الدم. فقد كتب هتلر في كتابه "كفاحي" أنَّ "القدرة على اتخاذ قرار إيجابي أو سلبي هي سمة شخصية يتم تحديدها من خلال الدم".
وبحسب نظريته فإنَّ نقاء الدم يمكن الأفراد من اتخاذ قرارات "صحيحة" ويعزّز تماسك الأمة. وفي المقابل يؤدي اختلاط الدم من خلال "تزاوج الأعراق واختلاطها" إلى سلوك "غير منطقي" ويدفع الحضارات إلى الهلاك.
أي بالضبط إلى هناك، حيث دفع هتلر أجزاءً كبيرة من العالم خلال حكمه السلطوي الذي استمر اثني عشر عامًا - إلى الهلاك.
فيلم القناة الرابعة البريطانية الوثائقي "حمض هتلر النووي: مخطط ديكتاتور" متاح اعتبارًا من 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025.
أعده للعربية: رائد الباش
تحرير: عادل الشروعات
المصدر:
DW