آخر الأخبار

الأخطل والخليفة: حين عطش الشعر للخمر

شارك

كان الصمت يلفُّ قاعة العرش، بينما جلس الخليفة عبدالملك بن مروان على كرسيه، تحيط به هيبة الملوك. لم يكن المجلس يعجُّ بالضوضاء كما في الأيام العادية، فالخليفة ينتظر شاعره المفضل، الذي اعتاد أن يُطربه بأبيات تُحيي المجد الأموي وتُخلِّد حكمه في ذاكرة التاريخ.

دوى صوت الحرس عند الباب، معلناً قدوم الضيف. دخل الأخطل التغلبي بخطوات واثقة، يجرّ رداءه الفاخر، وعيناه تحملان بريق شاعر يعلم مكانته في البلاط. كان الخليفة يقدّر شعره، لكنه لم يكن يغفل طباعه المتهوّرة وعاداته التي لا تتناسب مع وقار مجلس الحكم.

ابتسم الخليفة، وأشار إليه بالجلوس، ثم قال: "أنشدنا مما جادت به قريحتك اليوم، يا أبا مالك".

لكن الشاعر لم يبدِ حماسة، بل أطرق رأسه قليلاً، وكأنه يتحسس عطش الكلمات في حلقه. رفع بصره نحو الخليفة، وقال بصوته الجهوري: "يا أمير المؤمنين، قد يبس حلقي، فمُر من يسقيني".

رفع عبدالملك حاجبه باستغراب، لكنه أشار للخدم قائلاً: "اسقوه ماءً".

تبادل الحاضرون النظرات حين ارتسمت على وجه الأخطل ابتسامة ساخرة، ثم قال بنبرةٍ ساخطة:

"شراب الحمار؟!"

تردد بعض الضحك في المجلس، لكن الخليفة لم يُعلّق، بل أشار قائلاً: "فاسقوه لبناً".

هزّ الأخطل رأسه متأففاً وقال: "عن اللبن فُطِمت".

تقلصت ابتسامة الخليفة قليلاً، لكنه قال ببرود:

"فاسقوه عسلاً".

نظر الأخطل إلى الكأس بعين الناقد، ثم قال:

"شراب المريض!"

هنا، ضرب الخليفة الأرض بطرف عصاه، ونظر إلى الأخطل مباشرةً، وقال بلهجة صارمة:

"إذن، ماذا تريد؟"

تقدم الأخطل خطوة، وقال بثقة:

"خمراً، يا أمير المؤمنين!"

ساد المجلس صمت ثقيل، ثم انفجر الخليفة غضباً: "أوعهدتني أسقي الخمر؟! لا أمّ لك! لولا حرمتك عندنا لفعلت بك ما فعلت!"

ارتبك الأخطل للحظة، لكنه سرعان ما انسحب من المجلس بخطوات مُثقلة، كمن خسر معركة صغيرة لكنه لم يسلّم الحرب بعد.

في ردهات القصر، كان أحد الفراشين يجلس متكئاً على الجدار حين اقترب منه الأخطل وهمس:

"ويحك! لقد استنشدني أمير المؤمنين، فبحَّ صوتي، فاسقني شربة خمر!"

نظر الخادم حوله بحذر، ثم دسّ للأخطل كأساً صغيرة، شربها الشاعر بنهم. لكنه لم يكتفِ، فطلب ثانية، ثم ثالثة. وعندما انتهى من الرابعة، تمتم مترنحاً: "تركتني أمشي على واحد… اعدل ميلي بخامسة!"

لكن الخادم رفض، فقد كان يعلم أن الشاعر عليه العودة لمجلس الخليفة.

عاد الأخطل إلى القاعة بثقة، وقد علت وجهه حمرة لم تكن هناك قبل قليل. وقف في منتصف المجلس، وألقى قصيدته المذهلة التي افتتحها قائلاً:

خفّ القطين فراحوا منك وابتكروا

فأزعجتهم نوىً في صرفها غيرُ

أنصت الخليفة، ثم ابتسم أخيراً، وعرف أن ما شربه الشاعر قد أثمر شعراً لا يُقاوم. هكذا كانت مجالس بني أمية، حيث تلتقي السلطة بالفن، والمكر بالخديعة، في مشهد يخلّده التاريخ.

سبق المصدر: سبق
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا