في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في عالم يشهد تقدما غير مسبوق في مجالات التكنولوجيا والطب والاتصال، يُعاد استخدام أحد أقدم أسلحة القتل وأكثرها بدائية وقسوة، وهو التجويع ، وفقا لما ورد في مجلة فورين أفيرز الأميركية الشهيرة.
وفي مقالة مطولة نشرتها مجلة فورين أفيرز، يرى عالم الأنثروبولوجيا البريطاني أليكس دي وال أن سلاح التجويع الفتّاك عاد إلى الواجهة ليُستخدم بوحشية ضد المدنيين في النزاعات الحديثة، فيتحول الطعام -وهو أبسط مقومات الحياة- إلى أداة حرب، وسيلة إذلال، وسلاح إبادة صامت.
ويقول إن ملامح هذا المشهد القاتم لا تتجلى في مكان واحد، بل تمتد من السودان وقطاع غزة إلى اليمن وإثيوبيا وأفغانستان وسوريا، مرورا بمناطق أخرى بات فيها الجوع نتاجا متعمّدا للنزاعات المسلحة والسياسة، لا مجرد كارثة طبيعية.
ومع ذلك -يضيف وال- لم تفعل القوى العالمية الكبرى الشيء الكثير لإيقاف تلك الصراعات، في ظل انشغالها بالتحولات الجيوسياسية المتقلبة والتنافس البيني المحموم والتحديات الاقتصادية الداخلية.
وفي الوقت نفسه، جرى تقليص ميزانيات المساعدات الإنسانية في العديد من الدول الغنية بشكل كبير. والنتيجة أن الأطراف المتحاربة باتت أكثر قدرة على التسبب في مجاعات جماعية بحق الشعوب "الضعيفة دون خوف من العقاب".
ويستند الكاتب في مقالته إلى بيانات المبادرة العالمية للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي التابعة للأمم المتحدة، وشبكة نظم الإنذار المبكر بالمجاعة ومقرها الولايات المتحدة.
وكل من هذين الكيانين يستخدم معايير دقيقة يصنّف من خلالها انعدام الأمن الغذائي -التي تُعدّ المجاعة أسوأها- 5 مراحل تصاعدية، ويقع قطاع غزة في المستوى الـ5، بوصفه "أزمة صُنعت بالكامل بأيدي البشر، ويمكن وقفها وعكس مسارها".
يُعد السودان اليوم "أكبر وأعقد مجاعة في العالم"، على حد تعبير أليكس وال، الذي يعمل مديرا تنفيذيا لمؤسسة السلام العالمي التابعة لجامعة تافتس الأميركية، وخبيرا في المجاعات.
ووفقا لأحدث تقديرات التصنيف التي اعتمد عليها المقال، يعاني نحو 800 ألف سوداني الآن من مجاعة كاملة، في حين يواجه 8 ملايين آخرين ما يسميه التصنيف "حالة طوارئ" غذائية في المستوى الـ4، أي على بُعد خطوة واحدة فقط من المجاعة.
وتحت هذا المستوى مباشرة، هناك نحو 22 مليون شخص -أي ما يعادل نصف سكان البلاد تقريبا- يواجهون "أزمة" غذائية في المستوى الـ3، مما يعني أنهم يحتاجون إلى المساعدات لتجنّب الوقوع في دوامة جوع وبؤس لا مخرج منها.
ويلقي العالِم البريطاني باللائمة في أزمة الجوع في السودان على الحرب المستعرة منذ أكثر من سنتين ونصف السنة، بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي".
ويلفت الكاتب إلى أن أكثر من مليوني سوداني في إقليم دارفور كانوا قبل اندلاع الحرب الحالية يعيشون في مخيمات ويعتمدون على مساعدات برنامج الأغذية العالمي .
ومع تفاقم النزاع، انهار ما تبقى من قدرة الدولة على تأمين الغذاء، وفرضت قوات الدعم السريع حصارا خانقا على مدينة الفاشر -آخر معاقل الجيش في دارفور – لأكثر من 500 يوم، مما ترك نحو 250 ألف إنسان محاصرين بلا غذاء.
ويزعم دي وال أن البرهان يستخدم، في المقابل، اعتراف الأمم المتحدة بحكومته لعرقلة وصول المساعدات إلى المناطق التي يسيطر عليها خصومه.
الوضع الراهن في السودان سيؤدي حتما إلى موت عشرات الآلاف خلال الأشهر المقبلة
لكن الأمر لا يقتصر الأمر على دارفور، إذ يشير المقال إلى أن ثمة صراعا ثلاثيا بين الجيش، والدعم السريع، وجيش تحرير السودان-قطاع الشمال، يدور رحاه في منطقة جبال النوبة جنوبي البلاد.
وبرغم توقيع بعض الاتفاقات السياسية، لا يزال الجوع يحصد الأرواح في المدن المحاصرة والقرى المدمّرة هناك.
على أن ما يُفاقم الأزمة في السودان -في تقدير دي وال- فشل المجتمع الدولي في الاستجابة. فقد خفّضت الأمم المتحدة هذا العام خطتها الإنسانية، مستهدفة ثلثي المحتاجين فقط، ولم يُموّل هذا الهدف إلا بنسبة 25% حتى سبتمبر/أيلول المنصرم.
أما الولايات المتحدة، التي كانت تموّل 1400 مطبخ مجتمعي (تكية)، فقد قلّصت دعمها في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب ، مما أدى إلى إغلاق 900 منها. وتراجعت مساهمات بريطانيا والاتحاد الأوروبي بشكل كبير، وفق المقال.
ورغم صدور قرار من مجلس الأمن في يونيو/حزيران 2024 يلزم قوات الدعم السريع بالسماح بدخول المساعدات، يتابع المقال، استخدمت روسيا حق النقض في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ضد قرار أقوى، بحجة حماية "سيادة السودان".
وفي سبتمبر/أيلول 2025، أعلنت المجموعة الرباعية حول السودان، والتي تضم الولايات المتحدة ومصر والسعودية، عن خطة لوقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية، لكن التنفيذ ما زال بعيدا عن الواقع، بحسب مقال فورين أفيرز.
ويحذر الخبراء -من ضمنهم وال- من أن استمرار الوضع الراهن سيؤدي حتما إلى موت عشرات الآلاف خلال الأشهر المقبلة، "ما لم تُتخذ خطوات عاجلة تشمل ضمان وصول آمن وسريع للمساعدات، ومحاسبة من يستخدمون الجوع سلاحا".
إذا كان السودان يمثل أسوأ أزمة جوع من صنع الإنسان في العالم، فإن سلاح التجويع الذي تستخدمه إسرائيل في غزة هو الذي استحوذ على اهتمام العالم أكثر.
فمنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، يعيش سكان القطاع ظروفا وصفتها منظمات أممية بأنها "كارثية وغير مسبوقة".
وقد وثّقت تقارير مبادرة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي ونظام الإنذار المبكر بالمجاعة في أغسطس/آب 2025، أرقاما مرعبة تشير إلى أن نحو 30% من سكان مدينة غزة -أي أكثر من عتبة "المجاعة" الرسمية بعشر نقاط مئوية- لا يحصلون على أي غذاء.
وارتفعت معدلات سوء التغذية لدى الأطفال دون الـ5 بمقدار 6 أضعاف بين يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيين. كما أن معدلات الوفيات الناتجة عن الجوع والأمراض المرتبطة به في ازدياد مطرد.
ويعزو مقال المجلة الأميركية السبب المباشر لهذه الكارثة إلى قرار إسرائيل في مارس/آذار الماضي بفرض حصار شامل لمدة 11 أسبوعا، منعت خلاله دخول الغذاء والدواء بشكل كامل إلى قطاع غزة.
ويقول الكاتب إن إسرائيل سمحت بمرور بعض المساعدات بعد ضغوط دولية هائلة، لكنها أصرّت على تحويل إدارتها من الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الراسخة إلى كيان جديد أنشأته هو مؤسسة غزة الإنسانية الخاضعة لرقابة الجيش الإسرائيلي .
إنهاء مجاعة غزة ممكن في وقت قصير نظرا لصغر مساحة القطاع وسهولة الوصول إليه
غير أنه يرى أن النتيجة كانت كارثية، حيث استُبدلت 400 نقطة توزيع كانت تديرها الأمم المتحدة بأربعة مواقع فقط تابعة لمؤسسة غزة، 3 منها في الجنوب وواحد في الوسط، دون أي وجود لنقاط مماثلة في شمال غزة.
ووفقا لدي وال، فقد شابت عمليات التوزيع أعمال عنف واسعة، حيث قتل أكثر من ألف فلسطيني برصاص الجيش الإسرائيلي أو شركات أمنية خاصة.
ويؤكد الكاتب أن العاملين في مجال الإغاثة يدركون أن إنهاء مجاعة غزة ممكن في وقت قصير نظرا لصغر مساحة القطاع وسهولة الوصول إليه. لكن ذلك يتطلب -كما يعتقد عالم الأنثروبولوجيا البريطاني- ضغطا حقيقيا، وخصوصا من الولايات المتحدة، لإجبار إسرائيل على السماح للأمم المتحدة ووكالات الإغاثة بالعمل بحرية.
رغم أن القانون الدولي يحظر استخدام الجوع كسلاح منذ عام 1977، فإن المحاسبة تكاد تكون غائبة، إذ لم تتم إدانة أحد بهذه الجريمة أمام المحكمة الجنائية الدولية ، ولم تُطبّق قرارات مجلس الأمن إلا نادرا، كما يقول أليكس وال.
ويرى الخبراء أن العالم بحاجة إلى معاهدة دولية جديدة وصارمة مشابهة لتلك التي حظرت الألغام الأرضية والذخائر العنقودية، بحيث تشمل تعريفا واضحا وملزما للتجويع كسلاح، وآلية تحقيق ومراقبة مستقلة، وعقوبات سياسية واقتصادية رادعة على القادة والمسؤولين.
وإلى جانب ذلك، يشدد الكاتب على ضرورة إعادة النظر في طريقة تمويل المساعدات الإنسانية، بحيث تكون مستدامة وطويلة الأمد وغير خاضعة للتقلبات السياسية.
كما يمكن للتكنولوجيا الحديثة، مثل صور الأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي ، أن تساعد في رصد مؤشرات المجاعة مبكرا، مما يسمح بتدخلات أسرع وأكثر فاعلية.