في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في عمق جبال الألب السويسرية التي تكسو قممها الثلوج كستارة بيضاء معظم فصول السنة، ويمتزج هواؤها النقي بوقع الريح الباردة، يتوارى عالم آخر من الحياة البرية عن أعين الزائرين.
فمدينة دافوس المعروفة بمؤتمراتها الاقتصادية ومنتجعاتها السياحية والعلاجية، تعتبر أيضا بوابة إلى وادٍ اسمه ديشما، وهو من أغنى المواطن الطبيعية للحيوانات البرية في المنطقة.
انطلقت رحلتنا من دافوس بالسيارة لمدة 20 دقيقة تقريبا إلى هذا الوادي. كل شيء فيه يهمس بالخفاء، وكأن الطبيعة تخبئ أسرارها الساحرة بعيدا عن أنظار وضجيج البشر.
وفي اللحظة التي يلتقي فيها نظر الغزال بعدسة المراقب، أو حين يسمع صدى عواء الذئب في الليل، يشعر المرء أنه أمام مرآة تكشف له مدى هشاشته وصلابته في الوقت ذاته، أي صلابة الانتماء إلى شبكة أكبر تتشابك خيوطها بين البشر والحيوانات والجبال والأنهار في نسيج واحد.
يبدو وادي ديشما للوهلة الأولى ساكنا، مشهد تتشابك فيه جذوع أشجار غابات الصنوبر على المنحدرات، وتنسرب جداول المياه الصافية بين الصخور.
لكن هذا المشهد الصامت للعين يخفي وراءه عالما يعجّ بالحركة، هنا يطل غزال أحمر بقرونه البارزة كرمز للحرية البرية، وهناك يظهر الماعز الجبلي (الشمواه) من حافة صخرية، بينما يتوارى اليحمور بقفزة حذرة في أطراف الجبل.
وبعد سنوات من الغياب، عادت الذئاب إلى هذه الأراضي وكأنها تأذن للوادي بأن يستعيد إيقاعه الطبيعي الذي يحكمه قانون البقاء. فالغزال لا يهرب من دون سبب، والذئب لا يقتل فريسته عبثا، إنما يمثل كل منهما سلسلة متكاملة تحفظ توازن النظام البيئي منذ آلاف السنين.
لم يكن مشاهدة هذه الحيوانات في أعالي الجبال المحيطة بالأمر السهل، وذلك لأنها خجولة بطبيعتها وتميل إلى الابتعاد عن البشر والاختفاء بسرعة، وكأنها تعي جيدا أن النجاة غالبا ما تكون مرهونة بالاختفاء.
لم نكن نسمع سوى صوت خرير الماء في الوادي وأجراس البقر من بعيد، وهو ما جعل من التجربة نادرة، أن ترى لمحة عابرة لكائن حي في محيطه الطبيعي، ثم يختفي سريعا، تاركا وراءه أثرا في الذاكرة أثمن من أي صورة فوتوغرافية أو فيديو بثوان قصيرة.
ولأن الإنسان فضولي بطبعه، لم أكتفِ بالتعرف على أنواع قرون الغزلان، وتحسس ملمسها مع الصياد السويسري صامويل ليام، والذي أخبرني أنه يعيش في دافوس منذ 45 عاما، ونشأ على تعلم أنماط حياة الحيوانات، لأن والده وأفرادا من عائلته يمارسون الصيد.
فبفضل التلسكوبات الحديثة، صار في وسعي أن أمد عيني أبعد مما تتيح لي الخطوات ولا أنتظر المصادفات النادرة. ومن خلف العدسة، تتكشف تفاصيل مدهشة، قطيع من الغزلان في الجبال الشاهقة وزوج من الطيور الجارحة يحوم فوق وادي ديشما.
حاولت استخدام تلسكوب آخر لتحديد موقع الحيوانات بنفسي لكن الأمر كان صعبا للغاية، وعند سؤال ليام أجاب "تعودنا ممارسة الصيد منذ سنوات، وهذا جعل من السهل علينا مشاهدة هذه الحيوانات بالعين المجردة، وتحديد موقعها في الجبل الشاهق بكل سهولة".
وأضاف "نذهب للصيد لمدة 3 أسابيع في سبتمبر (أيلول) من كل عام. وقبل الحصول على رخصة الصيد، التي ندفع مقابلها 800 فرنك سويسري (ألف دولار) سنويا، يجب القيام بدورات تدريبية على الرماية أولا قبل نيل شهادة رماية أولية. وبعد عام، تأخذ استراحة ثم تتدرب مرة أخرى بشكل تطبيقي".
ويبلغ طول الوادي قرابة 12 كيلومترا، وهو أحد أطول وديان الأنهار الفرعية في دافوس ووجهة ساحرة للرحلات، كما يغذي النهر الجليدي جدول ديشما، وهو بارد كالثلج وصافٍ كالكريستال.
وتعتبر مناطق كيشوت وغريال يتشهوت ومطعم تيوفي من الوجهات المثيرة للاهتمام، ويمكن الوصول إليها بسهولة بعربة تجرها الخيول
قد يبدو الأمر محض مراقبة بيولوجية ومتعة بصرية، لكن الحقيقة أعمق من ذلك. من يجلس في الوادي لساعات بينما يلف المكان برد الألب المنعش، سيشعر أنه في حضرة طبيعة تنظم قصيدتها الخاصة وتتعلم أولى دروسها، وهو الصبر ومنح الحياة البرية وقتها لتكشف عن نفسها متى أرادت.
عشت تفاصيل هذه التجربة وكأنها قصيدة بلا شاعر كُتبت بصمت وأجلست الجميع بإنصات، وهنا تذكرت مقولة للشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو "الطريق يُصنع بالمشي".
تتيح تكنولوجيا التلسكوبات للإنسان أن يكون مراقبا صامتا، لا يزعج الكائنات ولا يغير من سلوكها، وبالتالي يظل الحيوان سيد أرضه، بينما نكتفي نحن بدور الشاهد المتواضع على عظمة الخلق.
يتحول ترقبك لالتقاط حيوان في برية ديشما لمتعة تجعلك تندمج في إيقاع الطبيعة الهادئ والعميق (الجزيرة)ولعل الأجمل في هذه التجربة هو الانتظار الذي يستحق، فبمجرد أن تلتقط منظر ظهور الحيوان تشعر بنشوة غريبة وسعادة طفولية تعيدك إلى طبيعتك الأولى، عندما كان الصيد يعني البقاء، وهنا يتحول الترقب ذاته إلى متعة تجعلك تشارك الطبيعة إيقاعها الهادئ والعميق.
وفي النهاية، لا يخرج الزائر من وادي ديشما محمّلا بالصور وحدها، بل بحسّ مختلف، مراقبة هذه الكائنات تعلمه أمرا بسيطا قد نتجاهله في حياتنا اليومية بإيقاعها السريع المزدحم، وهو أن الإنسان ليس مركز الكون، وأن هناك حياة كاملة تجري حوله، متوازنة ودقيقة، لا تحتاج إلى البشر لكي تستمر.