من قادة أوروبيين إلى شخصيات إعلامية أميركية، منطق الصهيونية يتداعى. يُمثل انهيار الإجماع السابق بشأن دعم إسرائيل فرصة لليسار، وخاصة اليهود المناهضين للصهيونية، لإيصال رسالتهم.
ينبغي لهم انتهاز هذه الفرصة، والترحيب بمن بدؤوا يرون الحقيقة أخيرا.
شهد العالم تحولات مهمة عقب طوفان الأقصى واندلاع الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة. فقد عادت قضية فلسطين لصدارة الاهتمام العالمي بعد عقود من تنحيتها وطمسها وتصفيتها واختزالها.
وانطلقت حركة تضامن عالمية معها، وتحركات وقرارات هامة بمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة، واعترفت دول غربية عديدة بـ"دولة فلسطين"، وخروجها عن الموقف الأميركي.
أدى انطلاق الاحتجاجات الشعبية في الغرب والعالم ضد الإبادة والتدمير والتجويع بغزة لانهيار السردية الصهيونية وتجريم إسرائيل ونزع الشرعية عنها أخلاقيا وسياسا وقانونيا وانكشاف أباطيلها وانتهاكها بديهيات الإنسانية، لدى قطاعات مؤثرة من الرأي العام الغربي والأميركي.
كما انكسر الإجماع الأميركي السابق على دعم إسرائيل، ودخول هذه المسألة نطاق عدم اليقين مستقبلا، مما يحيل أميركا إلى تحذير توماس جيفرسون (1743-1826)، الرئيس الأميركي الثالث وأحد الآباء المؤسسين من خطورة "التعلق العاطفي" passionate attachment في العلاقات الخارجية و"التورط في مساعٍ كبرى بأغلبية هشة"!
وغدت معارضة سياسات الإدارة الداعمة للكيان الصهيوني قضية رأي عام واسع النطاق لأول مرة في تاريخ العلاقة الأميركية الإسرائيلية.
ونتيجة لدعم ومشاركة إدارة بايدن في حرب الإبادة بغزة، خسر الحزب الديمقراطي الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وعاد دونالد ترامب والجمهوريون إلى البيت الأبيض، بما يستتبع ذلك من فوضى واضطرابات تمس النظام السياسي الأميركي وأسس الدولة الأميركية ومستقبل النظام الدولي.
وتظهر اتجاهات تصويت ناخبي الحزب الديمقراطي الأميركي، والوزن النسبي لجناحه التقدمي وشبابه بين 19 و26 عاما وللعرب والمسلمين، صعوبة وصول أي مرشح رئاسي ديمقراطي مستقبلا إلى البيت الأبيض، بنفس سياسات الانحياز الأعمى لإسرائيل.
مؤخرا، التقط فيليب فايس، الكاتب اليهودي الأميركي التقدمي، خيط هذه التحولات وألقى مزيدا من الضوء عليها.
فقد تلقت إسرائيل أحد أهم التصريحات في تاريخها أغسطس/آب الماضي، إذ صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن إسرائيل تُؤجج معاداة السامية عالميا عبر جرائم الحرب التي ترتكبها.
أطلق ماكرون تصريحه بعد اتهام رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أوروبا بـ"صبّ الزيت على نار معاداة السامية" بخططها للاعتراف بدولة فلسطينية.
كتب ماكرون رسالة مطولة إلى نتنياهو، ردّ فيها الاتهام عليه، قائلا إن "حرب إسرائيل الإجرامية الدائمة وغير القانونية في غزة" تُقوّض المعركة ضد معاداة السامية في فرنسا. وإن أفعال إسرائيل "ستشجع من يستخدمونها ذريعة لمعاداة السامية، وتعرض المجتمعات اليهودية حول العالم للخطر".
تعتبر حجة ماكرون هرطقة، إذا نطق بها أحدٌ جهرا، فإنه يُتهم فورا بتبرير معاداة السامية. لكن أي شخص عاقل سيرى الحقيقة فيها.
بدوره، قال الممثل اليهودي الأميركي الكوميدي آدم فريدلاند مؤخرا، في مقابلة شهيرة مع عضو الكونغرس الأميركي المؤيد لإسرائيل، ريتشي توريس، إن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين تُشكل "تهديدا" لسلامة اليهود في الغرب.
وأضاف فريدلاند: "أعتقد أن كراهية اليهود قد اندلعت في هذا البلد (أميركا)، وأعتقد أن ذلك بسبب دعمنا لما يبدو أنه وحشية مطلقة"؛ "أقول لك كيهودي الآن إننا نتلقى كراهية أكبر بكثير بسبب ما يفعله أصحاب الراية التي تحمل نجمة يهودية، بالآخرين الآن".
بيد أن توريس اتهم فريدلاند بتبرير معاداة السامية، لكن ذلك ارتدّ عليه. "هل جننت؟" قال فريدلاند، ثم طلب من توريس لاحقا "أن يخرس" لأنه لم يكن يعرف ما يتحدث عنه.
يرى فايس أنّ القلق على سلامة اليهود في خضم إبادة جماعية للفلسطينيين هو بالطبع مؤشر على المشكلة. فمخاوف اليهود دائما ما تكون محور النقاش في الغرب.
وهذا التركيز مفهوم في ضوء التاريخ اليهودي في أوروبا. فقد أربكت "المسألة اليهودية" صانعي السياسات والمفكرين أكثر من مئة عام: ماذا نفعل بشعب بلا دولة، مضطهد ولكنه مؤثر؟ بعد محرقة الهولوكوست، قالت أوروبا إنه يجب أن يكون لليهود دولة خاصة بهم.
والآن تشهد فلسطين بدورها "محرقة" أخرى، وبدأ العالم يدرك أن القومية اليهودية هي وصفة لحروب أبدية لا تنتهي. وهذا هو الخبر السار في رسالة ماكرون.
الولايات المتحدة تقترب ببطء أكبر من هذا الفهم. والمؤسسة السياسية صامدة حتى الآن. يعتقد الناخبون الديمقراطيون بأغلبية ساحقة أن غزة تشهد إبادة جماعية، ويريدون قطع المساعدات العسكرية عن إسرائيل.
لكن قادة الحزب تبنوا موقفا لا يرى هناك شرا. إنهم ملتزمون بإرسال الأسلحة إلى إسرائيل وتجنب التصويت العام بشأن هذه المسألة. ويبدو أنهم يأملون أن تختفي قضية إسرائيل، وأن لا تؤثر عليهم ما لم يجد خطاب الإبادة الجماعية سبيله إلى صفحات "نيويورك تايمز".
لكن قاعدة الحزب الديمقراطي تُقوّض هذه الغطرسة على وسائل التواصل الاجتماعي – فالآنسة ريتشل الرائعة تتحدث عبر يوتيوب عن غزة يوميا لملايين المشاهدين.
وفي يوليو/تموز الماضي، كريستال بول، مقدمة برنامج "نقاط الانهيار" على موقع "يوتيوب"، انتقدت عضوةَ مجلس الشيوخ عن ولاية ميشيغان، إليسا سلوتكين، بشدة بسبب دعمها الإبادة الجماعية؛ فارتبكت سلوتكين وتجمدت بمكانها.
وافقت السيناتورة على أن إسرائيل تنتهج "تطهيرا عرقيا" في غزة، وهي جريمة حرب، لكنها رفضت التصريح بأنها ستصوّت لإنهاء المساعدات العسكرية لإسرائيل. كما سعت لإنكار تلقيها أموالا من اللوبي الإسرائيلي، أو لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك)، مع أنها تتلقى أموالا بالفعل.
ولم يكن لدى سلوتكين ما تقوله بينما توسلت إليها كريستال بول لحماية الأطفال الفلسطينيين. "أشعر بالذنب الشديد لأنني لا أفعل ما يكفي"، قالت كريستال بول متحسرة، وهي صرخة يفهمها كل ذي ضمير.
لكن إذلال ريتشي توريس كان أسوأ. فقد سخر فريدلاند من تركيز عضو الكونغرس على مضايقات يتعرّض لها الصهاينة. قال فريدلاند إن إسرائيل تأسست على "تطهير عرقي"، والفلسطينيون يتعرضون "للإهانة وتجريدهم من إنسانيتهم والمراقبة".
أضاف فريدلاند قائلا لتوريس "هذا ما يراه العالم. وتقول لي إن المشكلة تكمن في أن أحد [الصهاينة] يتعرض للصراخ في مطعم؟ أنا آسف" .
كما شرح فريدلاند ما وراء عنف السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 قائلا : "إذا عاملتَ الناس كالحيوانات، فسيثورون عليك أحيان ا".
يعتقد فايس أن انهيار الإجماع السائد بشأن إسرائيل يُمثل فرصة لليسار لإيصال رسالته.
كتبت دانيا راجندرا وريبيكا فيلكومرسون في صحيفة "إن ذيس تايمز": "مع انهيار إنكار "الوسط" للإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، يتفاوض كثيرون في اليسار على كيفية التعامل مع أولئك الذين كانوا- حتى وقت قريب – خصوما واضحين، والآن قد يكونون حلفاء ضروريين". ودعت الكاتبتان إلى "مواجهة بتحالف واسع النطاق".
في الوقت الحالي، يجب بذل كل جهد ممكن لبناء تحالف سياسي لوقف مذبحة وتجويع الفلسطينيين. ماكرون مؤيدٌ قديم لإسرائيل، لكن وصفه لأعمال إسرائيل بغزة بأنها "حرب إجرامية دائمة وغير قانونية" يجب أن يُشاد به.
يجب أن يرحّب اليهود المناهضون للصهيونية بهذا التحول. كما ينبغي تشجيع الصهاينة الليبراليين، مثل جيري نادلر، إما على إخلاء الطريق أو تغيير مواقفهم والانضمام إلى دعوات الديمقراطية في البلاد، كما فعل بيتر بَيْنارت. وينبغي الإشادة بآدم فريدلاند، الصهيوني السابق، لقوله إن التطهير العرقي يُولّد معاداة السامية.
نعم، هذه الحجة تجعل سلامة اليهود جوهر القضية.
ومع ذلك، لن تتوقف المؤسسة الأميركية عن دعم الإبادة الجماعية حتى ينهار المجتمع اليهودي. وسيظل اليهود الأكبر سنا الذين يدعمون إسرائيل ركيزة أساسية في الحزب الديمقراطي.
وتُعدّ مساهمات اللوبي الإسرائيلي، أو لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) دليلا على التزام الأجيال بما يُطلق عليه جيري نادلر "الحلم الصهيوني".
ولا يزال تشاك شومر، وديفيد أكسلرود، وبراد شيرمان، وبيرني ساندرز أيضا يصدقون الأوهام اليهودية حول الدولة اليهودية. ولا تزال هذه النظرة تسود وسائل الإعلام الرئيسية، بما في ذلك أصوات مؤثرة مثل توماس فريدمان، وجيك تابر، ودانا باش.
وأفادت تقارير أن شاري ريدستون، المالكة السابقة لشبكة "سي بي إس" CBS، والبالغة من العمر 71 عاما، قررت بيع الشبكة بسبب انزعاجها الشديد من تقرير في برنامج "60 دقيقة" حول استقالات بوزارة الخارجية في إدارة بايدن بسبب الإبادة الجماعية.
إن تعامي اليهود الأكبر سنا المؤيدين لإسرائيل هو عائق أمام التغيير داخل المؤسسة الليبرالية. ويشكل ماكرون وفريدلاند تهديدا لهذا التعامي.
اكسروا هذه السلطة، وستركز وسائل الإعلام الأميركية أخيرا على الإبادة الجماعية التي ترعاها أميركا، على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع.
حينها سيرى ترامب الصور، ويتحرك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.