في قلب آسيا المشتعلة، عادت شبه الجزيرة الكورية لتتصدر المشهد العالمي كأكثر البؤر توترًا وتهديدًا للاستقرار الدولي. التصعيد هذه المرة ليس مجرّد جولة في حرب بيانات، بل سباق تسلح مفتوح يجمع بين تعزيزات نووية وتحالفات عسكرية معقدة، يهدد بإعادة تشكيل خرائط الردع في المنطقة وربما إشعال مواجهة غير محسوبة العواقب.
عشية انطلاق المناورات الثلاثية التي تجمع الولايات المتحدة بكوريا الجنوبية و اليابان تحت اسم " حافة الحرية"، اختارت شقيقة الزعيم الكوري الشمالي، كيم يو جونغ، أن توجه تحذيرًا ناريا، وصفت فيه هذه المناورات بأنها "استعراض متهور للقوة" قد يقود المنطقة إلى "عواقب خطيرة".
كلماتها لم تكن مجرد تصريح عابر، بل إعلان صريح بأن بيونغ يانغ ترى نفسها مستهدفة مباشرة، وأن الرد قد يكون عسكريًا بقدر ما هو سياسي.
فهل باتت شبه الجزيرة الكورية على أعتاب مرحلة جديدة من التصعيد، حيث يختلط النووي بالصاروخي، والرسائل السياسية بالتحالفات العسكرية؟.
أجواء محمومة قبل المناورات الكبرى
الجيش الكوري الجنوبي أعلن أن بلاده، إلى جانب واشنطن و طوكيو، ستطلق تدريبات دفاعية سنوية تستمر أيامًا، تشمل عمليات جوية وبحرية وإلكترونية، هدفها رفع مستوى التنسيق العملياتي لمواجهة "التهديدات النووية والصاروخية" القادمة من الشمال.
لكن الأمر لم يتوقف هنا، فبالتوازي مع هذه المناورات، تستعد الولايات المتحدة و كوريا الجنوبية لإجراء تدريبات أخرى تحت اسم "الصولجان الحديدي"، وهي محاكاة لدمج القدرات النووية والتقليدية للبلدين في سيناريو مواجهة مباشرة مع بيونغ يانغ.
هذا النوع من التدريبات، وفق مراقبين، يحمل رسائل بالغة الخطورة: أنه في حال نشوب نزاع، فإن خيار استخدام السلاح النووي ليس مستبعدًا من جانب واشنطن.
بالنسبة لبيونغ يانغ، هذه المناورات ليست سوى استفزاز مباشر يبرر لها المضي قدمًا في اختباراتها الصاروخية، وربما الإعلان عن خطوات أكثر جرأة في مسار برنامجها النووي.
سياسة كيم الجديدة
الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون لم يترك الساحة للتكهنات. خلال اجتماعات للحزب الحاكم، كشف عن سياسة جديدة تقوم على تطوير متزامن للقدرات النووية والقدرات التقليدية.
زيارته الأخيرة لمراكز أبحاث أسلحة جاءت كإشارة إلى أن البرنامج النووي والصاروخي لم يعد مجرد وسيلة ردع، بل خيار إستراتيجي طويل الأمد.
تقارير أميركية، أبرزها ما نشرته مجلة ساينس، تشير إلى أن كوريا الشمالية تمتلك بالفعل نحو 50 سلاحا نوويا، ولديها ما يكفي من المواد الانشطارية لإنتاج ما يصل إلى 90 رأسًا نوويًا إضافيًا.
في 2023 وحده، كشفت بيونغ يانغ عن أول صاروخ باليستي عابر للقارات يعمل بالوقود الصلب، وعن رأس نووي جديد باسم "هواسون 31" بقدرة تدميرية تضاهي عشرة آلاف طن من المتفجرات.
الأخطر أن كيم أشرف بنفسه على اختبار نظام قيادة وتحكم جديد يحاكي تنفيذ هجوم نووي مضاد، في رسالة واضحة بأن الردع الكوري الشمالي بات مزدوجًا: دفاعي وهجومي في آن واحد.
التقارب مع موسكو.. تحالف يعيد رسم موازين القوى
في الخلفية، يلوح شبح روسيا. اتفاقيات الدفاع التي وقعتها بيونغ يانغ مع موسكو العام الماضي لم تكن مجرد بروتوكولات دبلوماسية، بل بداية مسار تعاون عسكري واسع.
تقارير غربية تؤكد أن كوريا الشمالية حصلت من روسيا على تقنيات متقدمة خاصة بتطوير الصواريخ الباليستية العاملة بالوقود الصلب، ما يمنحها قدرة أكبر على التنقل السريع والإفلات من الرصد.
أوضح وائل عواد، الخبير في الشؤون الآسيوية، في حديثه لبرنامج "التاسعة" على سكاي نيوز عربية، أن هذا التقارب لم يأتِ من فراغ: "كوريا الشمالية دعمت روسيا في حربها بأوكرانيا، سواء عبر إرسال معدات أو تقديم مساعدات، وفي المقابل حصلت على تكنولوجيا صاروخية متقدمة تجعلها أكثر قدرة على مواجهة الضغوط الأميركية".
هذا التبادل الاستراتيجي لا يقلق واشنطن فقط، بل يثير حفيظة بكين أيضا. فالصين، التي طالما اعتبرت نفسها الحليف الأكبر لبيونغ يانغ، تجد اليوم أن روسيا تزاحمها على النفوذ في شبه الجزيرة، في وقت حساس يتزامن مع صعود المواجهة الصينية – الأميركية في آسيا.
اليابان وكوريا الجنوبية.. نحو النووي؟
التوتر المتصاعد جعل النقاش في سول وطوكيو يتجاوز الخطوط الحمراء التقليدية. في اليابان، التي كُبلت بعد الحرب العالمية الثانية بقيود صارمة تمنعها من التحول العسكري، بدأت الأصوات تعلو بضرورة امتلاك قوة نووية ردعية. في كوريا الجنوبية أيضًا، تزداد المطالب الداخلية بضرورة السير في الاتجاه نفسه.
الولايات المتحدة، رغم رفضها العلني لانتشار نووي جديد في المنطقة، توفر ما يشبه "القبة النووية" لحلفائها. لكن بيعها المتزايد لأسلحة متطورة إلى سيول وطوكيو يفتح الباب أمام سباق تسلح نوعي قد يقلب الموازين.
وائل عواد يرى أن الاحتمال بات أكثر واقعية: " اليابان وكوريا الجنوبية قد تجدان نفسيهما مضطرتين للانتقال إلى خيار الردع النووي، خصوصًا مع استمرار بيونغ يانغ في تطوير ترسانتها ورفضها أي حلول سلمية لإعادة التوحيد بين الكوريتين."
الدور الأميركي.. عسكرة آسيا لمواجهة الصين
وراء هذه المعادلة المشتعلة، تقف الولايات المتحدة بثقلها العسكري والسياسي. أكثر من 30 ألف جندي أميركي يتمركزون في قواعد كوريا الجنوبية، إلى جانب أساطيل بحرية وقواعد جوية متقدمة. لكن واشنطن لا تتحرك ضد كوريا الشمالية فقط. فبحسب عواد: "عسكرة آسيا باسيفيك هي جزء من السياسة الأميركية، والهدف الأساسي ليس فقط ردع بيونغ يانغ، بل تطويق الصين. بيع الأسلحة لتايوان، دعم اليابان وكوريا الجنوبية، كلها حلقات في سلسلة المواجهة المقبلة مع بكين".
بهذا المعنى، فإن التصعيد في شبه الجزيرة ليس معزولا، بل جزء من صراع جيوسياسي أشمل تتداخل فيه ملفات أوكرانيا، بحر الصين الجنوبي، وتوازنات الردع النووي العالمية.
الصين.. بين الحذر وفقدان النفوذ
الصين، الحليف التاريخي لكوريا الشمالية، تتابع التطورات بقلق متزايد.. دخول روسيا كلاعب رئيسي في الملف الكوري قد يضعف نفوذ بكين على بيونغ يانغ، ويعقد حساباتها الاستراتيجية.
فأي تصعيد في المنطقة قد يتحول سريعا إلى ذريعة لتوسيع الوجود الأميركي في آسيا، وهو ما تعتبره الصين تهديدا مباشرًا لأمنها القومي. في الوقت نفسه، لا تستطيع بكين كبح جماح بيونغ يانغ بالكامل دون أن تخسر ورقة ضغط مهمة في مواجهة واشنطن.
خطر التصعيد غير المقصود
أخطر ما في المشهد هو أن التصعيد قد ينفلت من السيطرة. عواد حذر من أن: "الاستفزازات المتبادلة قد تؤدي إلى اندلاع حرب عن طريق الخطأ، خصوصًا مع وجود قوات أميركية وصينية وروسية في محيط المنطقة".
في ظل هذا التعقيد، فإن أي خطأ في الحسابات أو قراءة خاطئة لرسائل الردع قد يشعل مواجهة لا يريدها أحد، لكنها قد تصبح واقعًا بين لحظة وأخرى.
مستقبل الأزمة: سيناريوهات مفتوحة
قنبلة موقوتة في قلب آسيا
شبه الجزيرة الكورية تقف اليوم على فوهة بركان. سباق التسلح النووي والتحالفات العسكرية جعل منها ساحة اختبار لسياسات القوى الكبرى: أميركا، روسيا، والصين. وفي ظل غياب أي مسار تفاوضي جاد، تبدو المنطقة وكأنها تنتظر الشرارة الأولى، شرارة قد تأتي من مناورة عسكرية، تجربة صاروخية، أو حتى خطأ غير مقصود.
المشهد اليوم لا يعكس مجرد أزمة كورية شمالية، بل صراعًا عالميًا على النفوذ يعبر من بحر اليابان إلى أوكرانيا ومن المحيط الهادئ إلى الشرق الأوسط. والسؤال المفتوح: هل سيظل السباق محصورًا في لغة التهديدات، أم أن العالم يقترب من مواجهة نووية جديدة ستبدأ من شبه الجزيرة الكورية؟.