تعطي أول جولة لعلي لاريجاني في المنطقة، بوصفه رئيسا للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، صورة عن المكانة الإقليمية المتراجعة لطهران بعد حرب السنتين في غزة ولبنان، وبعد الإطاحة بنظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد.
الرجل في أولى مهامه من موقعه الجديد، أدى زيارة لدولتين عربيتين: العراق، ولبنان- اعتادت إيران أن يكون لها فيهما نفوذ مؤثر، إن لم نقل حاسما- سعيا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذ لبلاده، بعد أن باتت مسألة "حصرية السلاح" وامتلاك الدولة "قرار الحرب والسلم"، لازمة تتكرر على ألسنة كبار المسؤولين الحكوميين في كلا البلدين، وبعد أن ضاقت هوامش المناورة أمام حلفاء إيران فيهما، إثر انفضاض جمع كبير من الحلفاء، وفي ضوء المتاعب التي تواجه "السلاح" وحامليه، لتبرير احتفاظهم به والإبقاء عليه.
في العراق، لم تنظر واشنطن، ولا بعض المكونات الاجتماعية والكيانات السياسية، بكثير من الارتياح لزيارة لاريجاني، حتى إن حكومة الدكتور محمد شياع السوداني حرصت على التقليل من أهمية "الاتفاق الأمني" الذي جرى إبرامه بين البلدين أثناء الزيارة رفيعة المستوى، وحصرته في بيان توضيحي بأمن الحدود ومكافحة التهريب.
وهو أمر شائع ومألوف بين دول متجاورة، لها حدود طويلة ونشطة مع بعضها البعض، كما هو حال الحدود العراقية- الإيرانية. لسنا هنا نتحدث عن معاهدة أمنية- دفاعية، ولا شأن بما تم التوقيع عليه بخيارات العراق الإستراتيجية الكبرى، يقول خبراء، استكمالا لنهج اتبعته الحكومة العراقية منذ "الطوفان"، بالتزام الحياد، وعدم تحويل العراق إلى ساحة أو "صندوق بريد" لتبادل الرسائل بين الأطراف المتصارعة، والكلام دائما منسوب للسيد السوداني ووزير خارجيته وأركان في حكومته.
في لبنان، بدا الوضع أكثر حرجا للزائر الضيف، بدا أن كبار المسؤولين اللبنانيين كانوا "مكرهين" على استقباله. لغة الجسد، والبيانات، والتسريبات التي أعقبت لقاءاته برئيس الجمهورية والحكومة، وضعت الزائر الكبير في خانة "الضيف الثقيل".
حتى إن وزير خارجية لبنان، المحسوب على "القوات اللبنانية"، امتنع عن استقباله، وعبّر عن ذلك بعبارات تخلو من "الكياسة الدبلوماسية"، بينما وسائل إعلام محسوبة على الفريق المناوئ لحزب الله والثنائي الشيعي، لم تتردد في المطالبة بإعلانه شخصا غير "مرغوب فيه – Persona Non Grata" في لبنان.
ولولا لقاء اتسم بالحميمية المستندة لمشتركات سياسية وعقدية، وعلاقة شخصية ممتدة إلى الزمن الذي كان فيه لاريجاني نظيرا لنبيه بري، ويشغل منصب رئيس مجلس الشورى في بلاده، لما كانت اللقاءات الرسمية التي أجراها الرجل في بيروت سوى تكريس للحظة "افتراق" مع لبنان الرسمي، وليس تدشينا لمرحلة بناء توافقات وتفاهمات بين الطرفين.
حزب الله من جهته، أدرك حجم الحرج، المعبر عن انتقال لبنان إلى موقع آخر بعد الحرب، وفي ضوء ذيولها ونتائجها المريرة عليه وعلى لبنان، حاول أن يمنح الضيف الزائر جرعة دعم ترفع من معنوياته، فقام بتنظيم استقبالات شعبية ظلت محدودة على أية حال، ورتب لقاءات مع أمين عام الحزب، بدا الطرفان بأمسّ الحاجة إليها لتبادل الرأي والمشورة من كثب، وجها لوجه، في ضوء تعذر اللقاءات رفيعة المستوى بينهما للأسباب الأمنية المعروفة، كما جهد الحزب في حشد أحزاب وشخصيات موالية للقاء المسؤول الإيراني في منزل السفير.
والحقيقة أن منشأ الحرج لم يكمن في الزيارة والزائر وحدهما فحسب، فقبيل إتمامها كان لاريجاني، ومن قبله عباس عراقجي، يدليان بتصريحات اعتبرها لبنانيون كثر، في الدولة وخارجها، "استفزازية"، تناولا خلالها بالنقد محاولات البعض نزع سلاح المقاومة، وإقدام الحكومة اللبنانية على إقرار ورقة أميركية تتمحور حول "حصرية السلاح".
إيران، كما هو متوقع، ترفض الأمرين معا، وهي لم تُبقِ موقفها داخل صدرها، بل أخرجته للعلن، ما عدّه لبنانيون تحريضا للحزب على إدارة الظهر لقرارات الحكومة وتوجه الرئاسة، وفسروه على أنه جرعة دعم للحزب في مواقفه التي وُصفت بالتصعيدية، والتي عبّر عنها بلغة غير مسبوقة مؤخرا، الشيخ نعيم قاسم، ملوحا بمعركة "كربلائية"، ومحذرا من أن محاولات إنفاذ قرارات الحكومة بالقوة لا تعني شيئا سوى تجديد "الحرب الأهلية" في لبنان.
في رحلته من بغداد إلى بيروت، اعتاد المسؤول الإيراني الرفيع سلوك طريق مختصر يحلّق فوق الأجواء السورية. هذه المرة، بدت الرحلة أطول بكثير، بعد أن منعت إدارة سوريا الجديدة طائرة لاريجاني من عبور أجوائها، ما اضطره لتغيير مساره والتحليق فوق الأجواء التركية، ومن ثم البحر المتوسط، وصولا إلى بيروت.
لكأن دمشق أرادت أن تبعث برسالة لطهران مفادها أن الزمن الذي كانت فيه سوريا "همزة وصل" بين أطراف المحور الممتد من قزوين إلى شرق المتوسط قد انتهى، وأنها اليوم "حاجز قطع" بين هذه الأطراف.
وسواء أتمّ ذلك بمبادرة ذاتية من دمشق، أم بفعل ضغط أميركي-خارجي كما يشير خصومها، فإن الأمور سارت على هذا النحو، وبصورة تعكس "الطبيعة النوعية" للتحولات التي جرت في غضون أقل من عام انقضى.
طهران وبعض من حلفائها في بغداد وبيروت ينسبون "التعقيدات" التي واجهت الزيارة، والانتقادات التي أحاطت بها، إلى "إملاءات خارجية"، أميركية على نحو خاص.
لكن، ومن دون أن ننفي وجود مثل هذه الضغوط، أو أن نقلل من شأنها، فإن الأمر الذي لا تريد أن تعترف به طهران والحلفاء، هو أن الزمن تغير، وتغيرت معه معادلات القوة وتوازناتها، وأن "إنكار" وجود غالبية وازنة من العراقيين أو اللبنانيين الذين لا يريدون لطهران ترميم نفوذها وإنقاذ حلفائها، لن يفيد أحدا، ولن يساعد، طهران أو أيا من حلفائها العراقيين واللبنانيين، على تطوير بدائل وبناء سياسات وإستراتيجيات تراعي ما استجد من حقائق جديدة في البلدين، أو على مستوى الإقليم.
لاريجاني في الإقليم مجددا، في مهمة استنقاذية، لترميم ما تبقى من عناصر القوة والنفوذ، وليس في مهمة هجومية، تسعى لإحياء أو تفعيل ما كان يُعرف بـ"محور المقاومة والممانعة". وهو يفعل ذلك في ظل تقديرات متزايدة بأن طهران قد تكون عرضة لهجمات متجددة من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة، أو كلتيهما معا.
حرب الـ12 يوما لم تنتهِ بغالب أو مغلوب، انتهت بالنقاط وليس بالضربة القاضية الفنية، كما يقال في لغة الملاكمة والمصارعة الحرة. لا الحليفتان الإستراتيجيتان نجحتا في تركيع إيران أو تدمير برنامجها النووي، ولا الأخيرة تمكنت من بناء "ميزان ردع" مع تل أبيب.
هذه وضعية ليست مثالية لإبرام اتفاق نووي جديد، والاتفاق، كما يقول الخبراء والعارفون، لم تنضج شروطه بعد، وربما يكون بحاجة لجولة جديدة من "النار"، ليستوي لصالح هذا الفريق أو ذاك، أو ليُعيد إنتاج معادلة "رابح-رابح" التي نهض عليها اتفاق فيينا 2015.
وبالعودة إلى جولة لاريجاني الأخيرة، وما شهدته وأثارته من نقاشات ساخنة وغير مألوفة، وما أعقبها من تصريحات حاول فيها المسؤول الأمني الأول "تصحيح الانطباعات" التي تسببت بها مواقف سابقة أدلى بها وزميله في الخارجية، يمكن استنتاج أن السياسة الخارجية والأمنية الإيرانية ما زالت تغرف من قاموس ما قبل حرب السنتين، وأنها تعتمد الأدوات ذاتها، برغم اختلاف المرحلة وموازينها وتغير قواعد اللعبة وأوزان اللاعبين.
صحيح أن لاريجاني شدد في ختام الجولة على أن بلاده لا تنوي التدخل في الشؤون الداخلية للبنان والعراق، وأن إبداء طهران ملاحظات هنا أو هناك، لا يعني أنها تتدخل فعليا في شؤونهما الداخلية، لكن الصحيح أيضا، أن المسؤول الإيراني ما كان ليتجشم عناء التوضيح والتصحيح، لولا تلمّسه أن مياها كثيرة قد جرت في أنهار البلدين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
فهل تتحول توضيحات لاريجاني وتصحيحاته إلى سياسة رسمية إيرانية جديدة؟ أم أنها ستظل محصورة في إطار "لزوميات" الدبلوماسية وكياساتها؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.