"قبل أن يغادر سألته: ستقطع كل هذه المسافة سيراً على قدميك؟ قال نعم.. لدينا أطفال أريد أن أطعمهم، ثم نهض لصلاة الفجر واستمع لسورة الكهف مرتين، واصطحب سبحته وهمّ بالمغادرة، شعرت بنخزة في قلبي فبدلاً من أن أقوله له: الله يسهل عليك، قلت له: سليمان متروحش"، لكنه كان مصمماً، وغادر.
هذه تفاصيل المحادثة الأخيرة التي دارت بين لاعب الكرة الشهير سليمان العبيد وزوجته قبل مقتله بساعات قرب نقطة توزيع مساعدات، إذ تضيف الزوجة في حديثها مع برنامج "يوميات الشرق الأوسط" المذاع عبر راديو بي بي سي: "بعدها بساعات وصلني خبر أنه مصاب إصابة خطرة، لم يريدوا إخباري بنبأ مقتله دفعة واحدة، لكنني شعرت".
وتروي الزوجة: "لم تقو قدماي على حملي، أصبحت ثقيلة ثقل الخبر الذي أشعر به يحوم حولي، ظللت أردد: بدي أروح أشوف جوزي.. أشوف أبو عيالي، راح يجيب لقمة عيش، واستشهد! ليش؟"، ثّمّ انفجرت باكية قبل أن تلتقط أنفاسها وتختم حديثها: "أنا بناشد محمد صلاح ياخدنا يسفرنا برة، ولادي يتعلموا ويصيروا مثل أبوهم، وابني نسيم يخلفه في الملاعب".
طراد العبيد شقيق اللاعب الراحل كان معه في لحظات حياته الأخيرة وشهد مقتله بعينيه، ويقول: "في الخامسة فجراً تحركنا معاً لنقطة توزيع المساعدات الأمريكية، كنا عشرة أشخاص أنا وسليمان وابن عمي وأبناء أخي، وفور وصولنا اتخذنا كل الإجراءات الأمنية المطلوبة والتي اعتدنا عليها، اتخذنا من جبل صغير ساتراً يحمينا، فوجئنا بطائرة كواد كابتر تقترب منا بشدة وقامت بتصويرنا ثم انصرفت، قبل أن تعود إلينا لتداهمنا من خلف الجبل وأسقطت قنبلة كواد كابتر على سليمان مباشرة".
ويضيف: "أُصِبت بشظية في رقبتي، وأصبحت أنزف فقمت بسحب الشظية وربطت قطعة من ملابسي على الجرح كي يتوقف النزيف، وتحركت باتجاه سليمان فوجدت إصابته الرئيسية في صدره والدم ينفجر منه، فضلاً عن إصابة أخرى في قدمه، ما أدى لمقتله على الفور، وأُصيب أيضاً في نفس الواقعة أربعة من أبناء أخي ونقلوا إلى المستشفى المعمداني لتلقي العلاج".
ومضى يستذكر بلسان مثقل: "في هذه اللحظة لم يصبني انهيار، هذه كلمة مرفهة للغاية مقارنة بما شعرت به". ويصف: "صرت أطلع فيه مش مستوعب أنه استشهد.. صرت أصرخ فيه يا خو قوم.. يا خو بدنا نشرد، صح إن الموت مفيش عليه كبير، بس لسه بدري عليك يا سليمان.. بدري عليك.. رحمة الله عليك يا سليمان".
طراد العبيد لم يتوقف عند حد استذكار لحظات مقتل شقيقه أمام عينيه، بل ذهب لأبعد من ذلك بكثير، لذكريات طفولتهما معاً قائلاً: "أنا اللي علمت سليمان مهارات لعب كرة القدم، أراه أمامي الآن.. حينما كنت أصحبه إلى الملعب وأضع له الحواجز باستخدام الحجارة وأدربه على الركض والترقيص من بينها، وكيف نسدد الهدف من زوايا مختلفة، وما هو البلانتي وكيف يرفعه، وكيف يشوط الفاول، علمته هذه المهارات واحدة تلو الأخرى ويوما بعد يوم حتى أصبح بيليه الفلسطيني هنا من قلب ملعب كلية غزة، وفي نفس الملعب سأعلم ابنه كما علّمته، وكما أخرجت للملاعب بيليه الفلسطيني، سأخرج لهم أسطورة من ظهر الأسطورة إن شاء الله".
ميرفت سليمان العبيد، شقيقة اللاعب الراحل تحدّثت في تصريحات لبرنامج الشرق الأوسط المذاع عبر راديو بي بي سي كيف حولت الحرب حياة شقيقها رأساً على عقب، من لاعب كرة مرفه ميسور الحال لنازح يبحث عن مساعدات إنسانية ليفي بأبسط متطلبات الحياة لأبنائه الخمسة.
وقالت: "لم يهتم بحاله أحد، الغلاء والعمولات كانا يلتهمان مرتب شقيقي مطلع كل شهر وساءت الأمور أكثر وأكثر مع امتداد عمر الحرب، وارتفاع الأسعار والعمولات أكثر أصبح راتبه يكفي أطفاله طعاماً فقط ليوم واحد. سليمان مرّت عليه فترات قهرية غاية في الصعوبة دفعته لاستبدال الركض في الملاعب بالركض في سبيل الحصول على مساعدات، وبدلاً من أن كان يحمل على الأعناق بعد تحقيقه لبطولة رياضية أو إحرازه لهدف، حمل على الأكتاف قتيلاً غارقاً في دمه".
واختتمت تصريحاتها قائلة: "بالرغم من كل هذا لم يترك مجال كرة القدم، لأن الكرة هي معشوقته، وروحه معلقة بالبقاء في الملاعب، كان يتدرب مع نفسه ولم ينس أبداً أنه لاعب كرة، لكن كل هذا التفاني والإخلاص وكل هذه الشهرة والنجومية لم تنفع بشئ ولم تدفع عنه شر الاحتياج، لماذا وصل أخي لهذا الحد من العوز؟ سليمان كان كبير وعزيز النفس، وكان لا يعتمد على أحد سوى على الله، لم يكن هذا أبدا المصير الذي يستحق".
نسيم العبيد نجل اللاعب الراحل تحدث إلينا عن كل ما تبقى له من والده قائلا: "لم يتبق لي منه سوى حلمه بأن أصبح خليفته في الملاعب، لاعب كرة مشهور يشار له بالبنان، كان يتمنى أن أسافر معه واتفوق تعليمياً ورياضياً. سأعيش طوال حياتي المقبلة كي أحقق له ما كان يتمناه، سأكمل مسيرته حتى يقولوا اللي خلف مماتش، لكن هذا لا يعني أنني استوعبت وهضمت فكرة أنه لم يعد موجوداً، وكثيراً ما أردد: أبوي مماتش".
وأضاف: "عقلي فقد القدرة على الاستيعاب، لم استوعب أبداً ما حصل لوالدي، والدي نجم الكرة الشهير الذي لعب مباريات في الكثير من دول العالم قتل بهذه الطريقة! والدي الذي كان يركض في الملاعب مات وهو يركض خلف حفنة من المساعدات! والدي الذي لم أفوت له مباراة طوال حياتي، كنت أحضر معه كل مبارياته، واهتف باسمه بعد كل هدف يحققه، واحتفل معه بكل بطولة يحرزها لم يبق لي منه سوى ذكريات أنه ذهب لنقطة توزيع مساعدات كي لا أموت أنا وإخوتي جوعا! نحن لا نريد شيئا نريد فقط أن نراه واقفا على قدميه.. يتنفس ويتحدث.. أن يكون بخير".
عماد هاشم مدرب ومحاضر فلسطيني تابع للاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يقول: "قمت بتدريب سليمان مرتين؛ الأولى في نادي غزة الرياضي والثانية في نادي خدمات الشاطئ، وبالنسبة لي هو الوحيد الذي يستحق لقب اللاعب المثالي من بين كل من قمت بتدريبتهم من لاعبين، كان شخصية فريدة الطراز، محب وعاشق لكرة القدم لدرجة التفاني، هو وبحق بيليه الفلسطيني، لأنه كان هدّافاً بالفطرة، كانت الكرة تحبه وتطاوعه، ورغم كبر سنه حاز المركز الأول في الاختبارات البدنية عندما أجريناها في نادي خدمات الشاطئ آخر مرة، وعلى المستوى الشخصي كان سليمان اجتماعياً وخدوماً، وطوال الحرب كان يقدم خدماته في مساعدة الناس على النزوح بمنطقة دير البلح".
ويضيف: "خبر استشهاده كان فاجعة لنا كرياضيين، لكنني أحمد الله أنه مكننا من أن نواري جثمانه الثرى ونشيعه بطريقة تليق به، لأن الحصول على مقبرة في هذه الأيام أمر ليس بالسهل، فالأمر مكلف جداً من الناحية المادية كما أن المقابر امتلأت عن بكرة أبيها ولم يعد هناك متّسع لجثة جديدة.
وأكمل المدرب قبل أن يفصح عن مكان دفن الجثمان قائلاً: "تم دفنه في مقبرة الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة، لأنه لا يوجد متسع في المقبرة الرئيسية لمدينة غزة والموجودة شرقاً".
وتطرق هاشم لتغريدة اللاعب العالمي محمد صلاح عن مقتل سليمان العبيد قائلاً: "هذه التدوينة هي التي عرفت العالم بما تعرض له سليمان، الكل نعاه دون أن يذكر السبب، وحده صلاح فعلها فعرف العالم كيف وأين ولماذا قتل اللاعب الفلسطيني سليمان العبيد".
واستدرك قائلاً: "لكن ما نأمله ونطمح له هو أن تكون تغريدة صلاح سبباً في أن يلتفت العالم لمعاناة الرياضيين في غزة، وأن تفعل الاتحادات الرياضية شيئاً من أجلنا حتى لا يلقى أحدنا نفس المصير، فجميعنا من مدربين ولاعبين لم يعد يشغلنا سوى هم تأمين لقمة العيش لأطفالنا، أنا شخصياً لو كلفني الذهاب لنقطة توزيع المساعدات أن أضحي بحياتي من أجل توفير الطحين لأبنائي سأفعل كما فعل العبيد".
وبالعودة للحديث عن بيليه الفلسطيني وطموحاته وأحلامه قال المدرب: "سليمان كان يحلم بأن يكون مدرباً فذاً كما كان لاعباً ماهراً، وكثيراً ما كان يحلم بأن يشهد الموسم الكروي 2023 – 2024 وداعه للملاعب كهداف كي يبدأ مسيرته في التدريب. لم يكن يعلم أنه سيودع الدنيا بأكملها، ولكنني أعده في حال انتهت الحرب وأنا من بين الأحياء سأقيم له حفل تأبين ضخم يليق بفخامة اسمه وجميل ذكراه".
وبحسب أحدث البيانات الرسمية، فقد بلغ عدد ضحايا مجتمع الرياضة في قطاع غزة منذ بداية الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 نحو 808 رياضيين، وفق ما أعلن عنه اتحاد الإعلام الرياضي الفلسطيني، من بينهم 421 لاعب كرة قدم، ونحو نصفهم من الأطفال.
وكانت اللجنة الأولمبية الفلسطينية قد أفادت أن شهر يونيو/ حزيران وحده شهد مقتل 115 رياضياً، ليرتفع الإجمالي في حينه إلى 615.
وتشير جمعية الإعلام الرياضي الفلسطيني إلى تدمير ما لا يقل عن 273 منشأة رياضية خلال الحرب، وهو ما يعكس الأثر العميق للنزاع على البنية التحتية الرياضية في غزة وعلى مستقبل آلاف الشبان من مختلف الفئات الرياضية.
وكان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي قد قال، إنه لم يتم العثور على سجلات تتعلق بسليمان العبيد، المعروف بـ"بيليه الفلسطيني"، مشيراً إلى أن الجيش يطلب مزيداً من المعلومات والتفاصيل للتحقق من ملابسات وفاته. ويأتي هذا الرد في أعقاب التدوينة التي نشرها النجم المصري محمد صلاح، التي أثارت جدلاً واسعاً حول ظروف مقتل اللاعب الفلسطيني.