آخر الأخبار

"أمباز" النجاة.. كيف تحول علف الحيوانات إلى غذاء لأطفال الفاشر؟

شارك

الفاشرـ تحت شجرة جافة في أحد مراكز الإيواء بمدينة الفاشر ، جلست أم كلثوم (41 عاما) على الأرض تطعم طفلها بيديها حفنة من "الأمباز" علف الحيوانات الذي تحول إلى وجبة اضطرارية في ظل الحصار الخانق الذي تفرضه قوات الدعم السريع على المدينة الواقعة غربي السودان .

ففي الفاشر تطعم الأمهات أبناءهن بما تبقى من فتات الحياة في مواجهة يومية مع الجوع، فهنا الطعام ليس وسيلة للتغذية بل للبقاء، والطفولة تختزل في أجساد نحيلة وعيون مترقبة للخلاص، حيث تتحول أبسط تفاصيل العيش إلى معارك صامتة تخاض بأيد مثقلة باليأس.

وتقول أم كلثوم للجزيرة نت وهي تحدق في طفلها الهزيل "لم أعد أملك شيئا.. حتى علف الحيوانات أصبح نادرا، أطعمه وأنا أعلم أنه ليس طعاما، لكنه الخيار الوحيد. فهناك عشرات الأمهات حولي يقدمن لأطفالهن ما لا يؤكل عادة، فقط لإبقائهم على قيد الحياة".

منذ أبريل/نيسان 2024، تخضع مدينة الفاشر لحصار شامل فرضته قوات الدعم السريع، أغلقت خلاله الطرق وقطعت الإمدادات، مما عزلها عن محيطها، ومع مرور الوقت، تصاعدت الهجمات العسكرية لتشمل قصفا بالمدفعية الثقيلة واقتحامات برية استهدفت الأحياء السكنية والمرافق الحيوية.

ويأتي هذا التصعيد في سياق الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وحلفائه من جهة، وقوات الدعم السريع من جهة أخرى، مما فاقم الأوضاع الإنسانية في البلاد وجعل من الفاشر مركزا للأزمة المتفاقمة.

مصدر الصورة الأمهات يطعمن أبناءهن بما تبقى من فتات الحياة (مواقع التواصل)

غياب التدخل الدولي

في ظل هذا الواقع، تواجه المدينة أزمة غذائية حادة دفعت بسوء التغذية إلى مستويات خطيرة، خاصة بين الأطفال وكبار السن، ومع غياب أي تدخل دولي فعال، بات المرفق الصحي الوحيد عاجزا عن الاستجابة، وسط نقص حاد في الأدوية والغذاء العلاجي وانهيار شبه كامل في الخدمات الطبية.

وتقول مدير عام وزارة الصحة بشمال دارفور ، الدكتورة خديجة موسى أحمد، في حديثها للجزيرة نت، إن الفاشر سجلت أكثر من 10 آلاف حالة إصابة بسوء التغذية منذ يناير/كانون الثاني وحتى نهاية يونيو/حزيران الماضي، معظمهم أطفال.

إعلان

وأضافت أن فرق العلاج تمكنت من تقديم الرعاية الصحية لـ5,506 أطفال، بينما سجلت 15 حالة وفاة نتيجة تدهور الأوضاع الإنسانية، موضحة أن الحصار يعيق وصول الإمدادات الطبية والغذائية، مما يزيد من تفاقم الأزمة الصحية، خاصة مع تراجع قدرة المرافق على الاستجابة للحالات المتزايدة.

وفي تطور ميداني حديث، كشفت خديجة أن التقارير الصحية خلال الأسبوعين الماضيين سجلت دخول 4 حالات جديدة من الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد دون مضاعفات طبية، عولج معظمهم بنجاح، بينما توفي طفل واحد نتيجة المضاعفات.

وتندرج هذه الحالات ضمن برنامج العلاج الخارجي (OTP)، الذي سجل نسبة استجابة بلغت 82%، مع انسحاب 6 أطفال وبقاء 273 تحت المتابعة الطبية، أما برنامج علاج سوء التغذية الحاد بمضاعفات طبية (SC) فاستقبل خلال الأسبوع 35 حالة جديدة، تعافى منها 23 طفلا، بينما توفي طفل واحد، دون تسجيل حالات هروب أو عدم استجابة.

وفي برنامج التغذية الإضافية (TSFP) المخصص لسوء التغذية المتوسط، استقبلت 83 حالة جديدة، بينها 50 طفلا دون سن الخامسة و33 من النساء الحوامل والمرضعات، وتم علاج 81 حالة بنجاح، بينما انسحب 11 طفلا.

مصدر الصورة منظمات إنسانية تحذر من أن استمرار الحصار ينذر بانهيار كامل للنظام الصحي (مواقع التواصل)

انهيار وشيك

وتحذر منظمات إنسانية من أن استمرار الحصار ينذر بانهيار كامل للنظام الصحي في ظل تصاعد معدلات سوء التغذية وغياب الدعم الدولي الكافي، مع تراجع قدرة المرافق الطبية على الاستجابة وارتفاع خطر دخول المدينة مرحلة المجاعة .

وفي 12 يوليو/تموز الماضي، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة ( يونيسيف ) أن شمال دارفور سجل علاج أكثر من 40 ألف طفل من سوء التغذية الحاد خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، وهو ضعف العدد المسجل في الفترة نفسها من العام الماضي، مما يعكس تفاقما غير مسبوق في الأزمة الغذائية.

وأشارت المنظمة إلى أن النزاع في الفاشر بلغ مستويات خطيرة، حيث حوصرت أحياء كاملة وقصفت مستشفيات وأغلقت الطرق، بينما تتعرض قوافل الإغاثة للنهب والهجمات المسلحة، مما جعل وصول المساعدات شبه مستحيل في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى الغذاء العلاجي والرعاية الطبية.

مصدر الصورة علف الحيوانات تحول إلى وجبة اضطرارية (الجزيرة)

"أمباز" النجاة

في ظل انهيار الأسواق وغياب المواد الأساسية، ارتفعت أسعار الغذاء بشكل غير مسبوق، بحسب منظمات الإغاثة وناشطين في المطابخ الجماعية. ودفعت الندرة الحادة معظم التكايا إلى التوقف عن تقديم الوجبات اليومية، بعدما بات الحصول على الدقيق والزيت وحتى الماء تحديا هائلا.

يقول الناشط الإغاثي عبد الرحمن إسماعيل للجزيرة نت "كنا نطهو لأكثر من 300 شخص يوميا، الآن بالكاد نطعم 30. الأسعار تضاعفت، والدقيق والزيت أصبحا من السلع النادرة، وحتى الماء بات يشترى بأسعار لا تُحتمل".

ويضيف إسماعيل أن معظم المطابخ الجماعية أغلقت، بينما يعمل بعضها بشكل متقطع وسط محاولات يائسة لتوفير الحد الأدنى من الغذاء.

ومع اشتداد الأزمة، لجأ السكان إلى تناول "الأمباز"، مسحوق يُستخرج من بقايا بذور الفول السوداني والسمسم بعد عصرها لاستخراج الزيت، ويعاد طحنه لصنع عجينة تستخدم كوجبة اضطرارية. ورغم أنه يُستخدم عادة كعلف للحيوانات، فإنه أصبح وجبة رئيسية في مراكز الإيواء والتكايا.

إعلان

ويضيف إسماعيل "الناس لم تعد تبحث عن الطعام، بل عن أي شيء يسد الرمق. الأمباز كان للحيوانات، واليوم أصبح للبشر. هذا ليس فقرا فقط، إنه انهيار كامل لمفهوم الحياة". ويشير إلى أن مخزون الأمباز نفسه بدأ ينفد، مما ينذر بكارثة غذائية وشيكة.

مصدر الصورة علف الحيوانات يتناوله سكان الفاشر لندرة الغذاء (الجزيرة)

مأساة تتسع

ورغم المناشدات، لم تصل أي مساعدات دولية إلى المدينة، وسط اتهامات للجهات الدولية بالتقاعس عن التدخل وغياب التنسيق بين المنظمات العاملة في السودان.

وفي أحد مراكز الإيواء، تقول فاطمة، وهي أم لـ3 أطفال، للجزيرة نت "نغلي الماء ونخلط الأمباز، ثم ننتظر أن يهدأ الجوع. لا دواء، لا حليب، فقط الانتظار".

وتدعو الأمم المتحدة والمنظمات الدولية إلى الإسراع في إسقاط مواد غذائية ودوائية عبر الجو، بعد أن أصبح الوصول البري مستحيلا، مؤكدة أن "الأطفال يموتون بصمت، ولا أحد يستجيب".

ومع استمرار الحصار وتفاقم الأزمة، يخشى مراقبون أن تتحول الفاشر إلى نموذج مأساوي لما قد تشهده مدن أخرى في السودان إذا لم يتم التحرك العاجل لكسر الحصار وفتح الممرات الإنسانية، فالمأساة هنا لا تهدد مدينة بعينها، بل تكشف هشاشة الاستجابة المحلية والدولية أمام كارثة تتسع يوما بعد يوم.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا