أحدث تعيين العميد عبد القادر وعرابي على رأس الفرع الداخلي للمخابرات الجزائرية مفاجأة كبيرة في البلاد. وأثار الكثير من التساؤل والتكهنات، بشأن هذه الخطوة، ودلالاتها السياسية، في هذه الظروف، التي تمر الجزائر والمنطقة.
ويكمن وجه "الاستغراب" وموطن التساؤل في عودة رجل قوي إلى أعلى مراكز السلطة العسكرية، بعدما اختفى اسمه عن المشهد تماماً. واعتقد الناس أن مهمته انتهت إلى الأبد.
فمن يكون هذا المسؤول الأمني الكبير، ولماذا يشغل تعيينه في هذا المنصب، بال المراقبين للشأن الجزائري محلياً وإقليمياً؟
يتولى العميد أيت وعرابي، المشهور باسم الجنرال حسان، بمقتضى قرار من رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، منصب المدير العام للأمن الداخلي. وهو قسم الاستعلامات الداخلية في جهاز المخابرات العسكرية.
ويخلف الجنرال حسان بذلك العميد عبد القادر حداد، المشهور باسم ناصر، الذي لم يعمر في هذه المسؤولية الحساسة، أكثر من 11 شهراً.
وجاء في بيان لوزارة الدفاع أن هذا التعيين "يرسم عودة فاعل أساسي في الاستعلامات الجزائرية إلى منصب استراتيجي، في إطار التغييرات الجارية على رأس الأجهزة الأمنية".
فهو مسؤول كبير في الاستعلامات العسكرية. كان له دور بارز في "الحرب"، التي خاضتها أجهزة الأمن الجزائرية على الجماعات الإسلامية المسلحة من 1990 إلى 2000. وعمل تحت إمرة رئيس دائرة الاستعلامات والأمن، العميد محمد مدين، المشهور باسم الجنرال توفيق.
ويشار إلى العميد أيت وعرابي، في الدوائر الأمنية، بأنه رجل العمليات الميدانية. وله دراية واسعة بالتنظيمات والجماعات المسلحة في الجزائر والمنطقة. واكتسب، على مر السنين، خبرة كبيرة في محاربتها وتفكيك شبكاتها، المحلية أو العابرة للدول.
ويعرف بأنه مهندس عمليات الاختراق، التي دحرت تنظيمات متطرفة مثل "الجماعة الإسلامية المسلحة"، و"الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، و"الحركة الإسلامية المسلحة"، التي كانت تنشط في مناطق واسعة من الجزائر في التسعينات.
ولاحقت وحدته المتخصصة "فلول" هذه الجماعات المسلحة، بعدما هربت إلى أعماق الصحراء الجزائرية. وانبثقت عنها هناك جماعات وتنظيمات أخرى، مثل القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، و"جماعة التوحيد والجهاد" المنتشرة شمالي مالي.
وفي عام 2006، عينه الجنرال توفيق مسؤولا عن جهاز "التنسيق الميداني واستعلامات مكافحة الإرهاب". وكان الجهاز يضم نخبة من العاملين في دائرة الاستعلامات والأمن (المخابرات العسكرية). وبقي في ذلك المنصب إلى أن أحيل على التقاعد في 2013.
وبعد حرب طويلة مع الجماعات الإسلامية المسلحة، وجد العميد أيت وعرابي نفسه في "حرب" من نوع آخر، أدت به إلى المحاكمة العسكرية ثم إلى السجن. ويتعلق الأمر بالصراع على السلطة والنفوذ داخل أجهزة الدولة.
ففي 2015 قرر الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، حل "دائرة الاستعلامات والأمن"، التي كانت تتمتع بنوع من الاستقلالية، منذ إنشائها في 1990. وشكل بدلها "دائرة المراقبة والأمن"، وهو جهاز مخابرات ملحق برئاسة الجمهورية مباشرة.
وصعد حينها نجم قائد أركان الجيش، أحمد قايد صالح، الذي أصبح الرجل القوي في المؤسسة العسكرية. وفي أغسطس آب 2015، ألقي القبض على العميد أيت وعرابي، وأحيل إلى المحاكمة العسكرية بتهمة "إتلاف وثائق ومخالفة التعليمات العسكرية".
وقضت المحكمة العسكرية في وهران، غربي البلاد، في ديسمبر كانون الثاني بسجنه لمدة 5 سنوات. قضاها كاملة في سجن البليدة، جنوب غربي العاصمة. وأفرج عنه في 2020. وقال محاموه وقتها إنه كان ضحية "ولاءات وصراعات داخل أجهزة الدولة".
وتعاطف معه سياسيون في المعارضة من بينهم رئيس الوزراء، ومنافس بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية، علي بن فليس. ودافع عنه مدير جهاز المخابرات السابق، محمد مدين، في رسالة مفتوحة يبرئ فيها الجنرال حسان من التهم المنسوبة له، ويثني على "كفاءته وإخلاصه".
ووصف بن فليس محاكمة الجنرال حسان بأنها "تصفية سياسية بتهمة عدم الولاء". وقال المحامي، خالد بورايو، إن موكله لم يستفد من "الظروف المخففة". وندد "بمعاقبة" واحد من أعلى الضباط رتبة في الجيش الجزائري.
وأعيد له الاعتبار في مارس / أذار 2021، بعدما أسقطت عنه محكمة النقض العسكرية جميع التهم، التي أدين بها. وبعد 5 سنوات من تجربة السجن، عاد، وعمره 73 سنة، إلى قيادة جهاز المخابرات الداخلية، في ظروف إقليمية استثنائية.
الولاءات والصراعات على السلطة؟
يعتقد أن العميد أيت وعرابي دفع ثمن قربه من رئيس دائرة الاستعلامات والأمن السابق، محمد مدين، الذي كان في صراع مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وبعد شهرين من إقالة مدين من منصبه في سبتمبر أيلول 2015، أدين الجنرال حسان، في المحكمة العسكرية وصدر قرار بسجنه.
أما تهمة "مخالفة التعليمات العسكرية" فتعود حسب المطلعين على ملف القضية، إلى تصادم مع قائد أركان الجيش وقتها، أحمد قايد صالح، الذي لم يكن راضيا، على غرار بوتفليقة، عن أداء دائرة الاستعلامات والأمن وطبيعة عملها.
وكان الجنرال حسان أول ضابط برتبة عميد يودع السجن في فترة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. ولكنه لم يكن الوحيد، إذ تتابعت ملاحقة مجموعة من كبار الضباط في الأجهزة الأمنية، في عملية وصفت بأنها استهداف لمعارضي استمرار بوتفليقة في الحكم.
كان هجوم مسلحين وسيطرتهم على منشأة للغاز في الصحراء الجزائرية في 2013 نهاية مرحلة في حياة العميد أيت وعرابي. فقد أحيل بعدها إلى التقاعد ثم إلى المحاكمة العسكرية. وأودع السجن.
ففي يوم 16 يناير / كانون الثاني هاجمت مجموعة مسلحة منشأة للغاز بمنطقة تيقنتورين على بعد 45 كيلومتر من مدينة عين أميناس، القريبة من الحدود الجزائرية الليبية. واحتجز المسلحون فيها مئات العمال والموظفين الجزائريين والأجانب.
وتولى جهاز التنسيق الميداني واستعلامات مكافحة الإرهاب، بقيادة الجنرال حسان، مهمة استعادة السيطرة على منشأة الغاز، وتحرير الرهائن. وتقرر شن هجوم على المنشأة، في عملية دامية ومعقدة، استمرت إلى يوم 19 يناير / كانون الثاني.
وقتل في العملية 29 مسلحا من جنسيات جزائرية، وكندية، ومصرية، وتونسية، ومالية وموريتانية. وقبض على ثلاثة منهم أحياء. وقتل من الرهائن 38، جنسياتهم يابانية وفلبينية وبريطانية ورومانية وأمريكية وفرنسية ونرويجية، وماليزية.
ونسب الهجوم إلى جماعة إسلامية مسلحة تدعى "الموقعون بالدم"، كان يقودها الجزائري مختار بلمختار، أكبر أمراء الحرب في منطقة جنوب الصحراء. وتعقبته وحدة الجنرال حسان مرات عديدة، ولكنه أفلت منها. ويعتقد أنه لقي حتفه في غارة أمريكية في ليبيا، في 2016.
ماذا حدث بعد الهجوم؟
يوصف العميد أيت وعرابي، في الأوساط الأمنية، بأنه "بطل عملية تيقنتورين". ففي نظر زملائه، هو الذي "أنقذ سمعة الجزائر"، عندما قاد عملية تحرير الرهائن والقضاء على المسلحين، دون تدخل أجهزة أجنبية. وأبطل بذلك مسعى هذه الأطراف ليكون لها دور في التعامل مع الأزمة.
ولكن يعتقد أن قائد أركان الجيش، أحمد قايد صالح، كان له رأي مختلف في التعامل مع أزمة تيقنتورين. وربما عد أسلوب الجنرال حسان في التدخل لتحرير الرهائن بالقوة، "تجاوزا لصلاحياته ومخالفة للتعليمات العسكرية". وعلى هذا أساس تحرك القضاء العسكري بالتحقيق معه.
وأدين عمداء وضباط كبار في الجيش، وسجنوا في فترة بوتفليقة، بتهم الفساد واستغلال النفوذ، والثراء غير المشروع. ولكن "جريرة" العميد أيت وعرابي الوحيدة، حسب المدافعين عنه، هي أنه كان قريباً من خصوم الرئيس السابق.
لماذا الآن؟
بدأت منذ سنوات إعادة الاعتبار لضباط الجيش وكبار المسؤولين، الذين أدينوا في فترة الرئيس بوتفليقة وقائد أركان الجيش أحمد قايد صالح. وهو مسعى ينسجم مع دعوة القيادة السياسية والعسكرية إلى "تجاوز الخلافات الشخصية ورص الصفوف لمواجهة التحديات والمخاطر الإقليمية".
ففي أغسطس / آب 2022، كرم الرئيس، عبد المجيد تبون، بمناسبة اليوم الوطني للجيش، ثلاثة من قادة الجيش السابقين، هم وزير الدفاع، خالد نزار، ورئيس دائرة الاستعلامات والأمن، محمد مدين، واللواء المتقاعد حسين بن حديد.
وتعرضوا كلهم لملاحقات قضائية وحكم عليهم بالسجن في محاكم عسكرية، أثناء فترة قائد أركان الجيش أحمد قايد صالح. واستفاد قبلهم العميد أيت وعراب من قرار محكمة النقض بإسقاط التهم، التي أدين بها بعد قضاء مدة العقوبة.
فتعيين الجنرال حسان مديراً عاماً للأمن الداخلي مؤشر على عودة جهاز الاستعلامات إلى منصب استراتيجي في المؤسسة العسكرية. وهذا في إطار "التعديلات الجارية على رأس الأجهزة الأمنية"، وفق ما جاء في بيان وزارة الدفاع.
وأشار رئيس أركان الجيش، سعيد شنقريحة، في حفل تنصيب المدير العام الجديد للأمني الداخلي، إلى أهمية "الانضباط والالتزام، في سياق إقليمي يتسم بالتهديدات الإرهابية، والتهريب العابر للحدود، والتدخل الأجنبي".
ويرى أكرم خريف، المشرف على موقع "مينا ديفانس" المتخصص في شؤون الدفاع بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حديثه مع بي بي سي أن "الجزائر تواجه تحديات خطيرة على حدودها. وتسعى إلى التعامل معها باستراتيجية متكاملة تتبع الأساليب السياسية والدبلوماسية والأمنية".
فالحدود مع مالي تشكل، منذ سنوات طويلة، هاجسا أمنيا مقلقا بالنسبة للجزائر. ويزداد هذا القلق بسبب توتر العلاقات مع السلطات في باماكو. ويؤدي الخلاف السياسي بين البلدين إلى تعقيد الأزمة الأمنية، ويعرقل التوصل إلى حل يرضي الطرفين.
ويكمن الخطر بالنسبة للسلطات الجزائرية في انتشار السلاح بشمال مالي، سواء في يد الجماعات المسلحة القادرة على التسلل عبر الحدود، أو في يد قوات عسكرية من دول أجنبية، "تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة".
ويشير خريف إلى وجود شركات عسكرية تركية في مالي، إلى جانب المرتزقة الروس من مجموعة فاغنر. ويذكر تحديداً شركتي صادات وكانيك. ويثير وجود هذه المجموعات العسكرية، بعتادها وخبرائها، مخاوف الجزائر من تهريب السلاح "والاعتداء على مصالحها".
ولا تقل مخاوف الجزائر الأمنية على الحدود مع مالي عن قلقها على حدودها مع ليبيا، على الرغم من اختلاف طبيعة الحالتين. فالقوات الأجنبية في ليبيا أكثر عددا وأقوى عتادا. وتحذر السلطات الجزائرية من انتشار السلاح الحربي في يد عصابات تهريب المخدرات على حدودها الشرقية.
التعبئة العامة
وينسجم تعيين "فاعل أساسي في الاستعلامات الجزائرية" في هذا المنصب الاستراتيجي مع مشروع قانون التعبئة العامة، الذي ينص في المادة 22 منه على "التنسيق بين وزارة الداخلية والسلطات العسكرية في إدارة المعطيات وتحسيس المواطنين".
ويرى المراقبون أن تعيين العميد أيت وعرابي على رأس جهاز الأمن الداخلي يطوي صفحة الرئيس بوتفليقة وقائد أركان الجيش أحمد قايد صالح. ويفتح صفحة جديدة يكون فيها للاستعلامات دور استراتيجي في مواجهات "التحديات الإقليمية الاستثنائية".