في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
"أوروبا تحت الحصار؛ لا تحاصرها الجيوش، بل سلاسل التوريد والخوارزميات". تلك العبارة كانت افتتاحية تقرير نُشر في نهاية شهر مارس/آذار الماضي في مجلة فورين بوليسي. تلخص هذه العبارة الوضع الإستراتيجي لواقع اقتصادي وتقني وأمني قائم في أوروبا. حيث اعتادت القارة العجوز أن تلقي بكل ثقلها على العقل التقني الأميركي، وكذلك الكثير من الواردات التكنولوجية الأجنبية، ولطالما أسندت أوروبا بنيتها التحتية الرقمية إلى سلاسل توريد عبر المحيطات وخوادم بيانات في قارات أخرى.
وكانت ترى في نفسها أنها تمتلك القدرة على إدارة هذه التحديات والتعامل معها بسلاسة، ولا سيما أنها تمتلك بيئة علمية ممتازة، تمكنها من تطوير وتوطين تلك التقنيات المستوردة.
لكن مؤخرا بدأت دول كثير أوروبية تنظر إلى هذا الاعتماد بكثير من الريبة، ولا سيما بعد الزلازل الجيوسياسية الأخيرة، كتحول الحليف الأميركي -بقيادة الرئيس دونالد ترامب – أو الصعود التكنولوجي الصيني، والتهديد العسكري الروسي، حيث قلبت هذه التحولات، التصورات الأوروبية، رأسًا على عقب، لتغدو التبعية الرقمية أزمة أمن قومي قد تُهدد جوهر السيادة الأوروبية، ومصدر قلق وجودي، وبات كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي يعتبرون التبعية الرقمية خطرًا أمنيًّا إستراتيجيًّا لا يمكن تجاهله، ويتحدثون عن هذه الأزمة بنفس نبرة القلق التي يتحدثون بها عن أمن الطاقة والدفاع.
لذا طرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مفهوم "السيادة التكنولوجية" محورًا رئيسيًّا في إستراتيجية أوروبا المستقبلية.
فهل يشكّل اعتماد أوروبا على التكنولوجيا الأميركية مجرد معضلة تنافسية، أم أنه ثغرة خطيرة تمسّ أمنها القومي؟ من المتحكم الحقيقي في البنية التحتية الرقمية التي تُدير كافة المجالات الأوروبية، من إنتاج الصواريخ إلى إدارة المستشفيات؟ وماذا لو كانت مفاصل تلك الشبكة بأيدي حليف سياسي متقلب مثل حكومة ترامب؟ وماذا لو تحوّلت المنصات التي تدير المستشفيات والمصارف وشبكات الطاقة إلى كيانٍ معادٍ؟ ماذا لو انقلبت إلى سلاح يضغط على أوروبا؟
الأسئلة السابقة لم تكن افتراضية، بل تحقق بعضها فعلًا. سنبدأ بأوضح وأحدث مثال، أكد لأوروبا ضرورة أن تشرع في استقلالها الرقمي الحقيقي عن الولايات المتحدة، لاسيما بعد الدور المحوري لشركة خدمات الإنترنت الفضائي "ستارلينك" المملوكة ل إيلون ماسك في حرب أوكرانيا. كان هذا الحدث تأكيدًا على تحول التقنية الأميركية إلى سلاح ضغط محوري في أيدي حكومة واشنطن، حتى ضد أقدم وأهم حلفائها.
خدمة ستارلينك هي منظومة متقدمة من الأقمار الاصطناعية التجارية، تمتلكها شركة "سبيس إكس"، وتوفر خدمة إنترنت عالية السرعة. وتعتمد الشبكة على أقمار اصطناعية تدور في المدار المنخفض للأرض، مما يمنحها إمكانية توفير اتصال مستقر وسريع حتى في أكثر المناطق الجغرافية عُزلة.
ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، برزت منظومة ستارلينك الفضائية أحدَ الأعمدة الرئيسية لصمود البنية التحتية للاتصالات في أوكرانيا، لأن البنية التقليدية، بما فيها أبراج شبكات الهاتف وشبكات الألياف الضوئية، سرعان ما انهارت تحت ضربات موسكو العسكرية والهجمات السيبرانية، مما أدى إلى انقطاع واسع في الاتصالات.
أما الدور المحوري الأهم لأقمار ستارلينك ، فقد ظهر في ساحة المعركة؛ إذ اعتمدت الوحدات العسكرية الأوكرانية على الاتصالات الفضائية لتأمين التواصل القيادي والتنسيق الفوري للعمليات. وعادةً ما تُجهز معظم وحدات الجيش الأوكراني بمحطة ستارلينك، لتأمين الاتصال الثابت لمهام القيادة والتحكم. ويستخدم الجنود في الخطوط الأمامية أقمار ستارلينك للتواصل بينهم وبين قياداتهم، بهدف تنظيم العمليات القتالية في أرض المعركة.
كذلك أسهمت خدمة الإنترنت الفائق السرعة، التي توفرها أقمار ستارلينك، في رفع كفاءة الطائرات المسيّرة الأوكرانية التي تنفذ مهام الاستطلاع الفوري، وتحديد الأهداف بدقة، بجانب تنفيذ عمليات هجومية ضد القوات الروسية.
في فبراير/شباط 2023، أعلنت شركة "سبيس إكس" أنها اتخذت خطوات لمنع الجيش الأوكراني من استغلال خدمات ستارلينك للتحكم في الطائرات المسيّرة أثناء حربه مع روسيا، إذ قرر إيلون ماسك إيقاف الخدمة فوق شبه جزيرة القرم، كي لا يستخدمها الجيش الأوكراني في التحكم في الطائرات المسيّرة الانتحارية "الكاميكازي" لمهاجمة الأسطول الروسي.
من جانبها، اعتبرت أوكرانيا هذه القيود الأحادية تدخلا مستفزا في شؤونها، واتهم مسؤولون أوكرانيون ماسك بتجاوز صلاحياته وعرقلة العمليات العسكرية الأوكرانية في لحظة حاسمة من المعركة.
وحين رغبت الولايات المتحدة في الضغط على أوكرانيا لدفعها نحو مفاوضات محتملة لإنهاء الحرب مع روسيا، لوّح البيت الأبيض بحرمان أوكرانيا من خدمات منظومة "ستارلينك". هنا انتبهت دول أوروبية أخرى لهذا التلويح بقلق، إذ بدأت تخشى بدورها أن تُضحّي بها الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب مؤقتة، فهي أيضًا تعتمد على "ستارلينك" وغيرها من البرمجيات والمعدات والتقنيات الأميركية في تسيير شؤونها اليومية.
يرسم الحاضر تشبيهًا تاريخيًّا مؤلمًا، ومفارقة واضحة؛ في الحقبة الاستعمارية، كانت قارة أوروبا تقود توسّع الإمبراطوريات، فارضة سيطرتها على مناطق شاسعة من العالم لامتلاكها الموارد الإستراتيجية، محوّلة إياها إلى مستعمرات أو شبه مستعمرات خاضعة لنفوذها. أما اليوم، فقد انقلب المشهد، إذ أصبحت أوروبا نفسها مهدّدة بأن تقع في فخ التبعية التكنولوجية، وربما تتحول إلى مستعمرة رقمية بدورها.
بعض الأرقام قد تكشف جزءا من ملامح الأزمة؛ بدايةً، يقع ما يقارب 80% من البنية التحتية الرقمية في أوروبا تحت سيطرة شركات أجنبية، من العتاد الداخلي إلى البرمجيات، ومن الحوسبة السحابية إلى شبكات البيانات، كلها تُدار خارج حدود السيطرة الأوروبية.
في قطاع الخدمات السحابية، تهيمن ثلاث شركات أميركية -أمازون ومايكروسوفت وغوغل- على السوق الأوروبي، مستحوذة على نحو 72% من هذا السوق حتى الربع الثاني من عام 2022، في حين لم تتجاوز حصة الشركات الأوروبية 13% خلال نفس الفترة. قد يعني هذا التفاوت أن معلومات بالغة الحساسية، من بيانات حكومية وسجلات صحية إلى أسرار شركات، تُخزن على خوادم بيانات تخضع للقانون الأميركي.
أما في قطاع أشباه الموصلات، فتعتمد الصناعات الأوروبية على رقائق تُصنّع في آسيا باستخدام تصاميم وبراءات اختراع أميركية. كما تضاءلت حصة أوروبا من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات إلى نحو 9% فقط، ومعظمها تقليدي، في حين تُصنّع الرقائق المتطورة في مصانع آسيوية مثل "تي إس إم سي"، أو تأتي من شركات أميركية عملاقة كشركة "نفيديا". حتى إن شركة "إيه إس إم إل" الهولندية، درّة الصناعة الأوروبية في مجال إنتاج آلات الرقائق، تستورد مكوناتها من أميركا وموادها الخام من الصين، فتغدو عالقة بين مطرقة واشنطن وسندان بكين.
وفي مجال الذكاء الاصطناعي، يتبين أن نحو 70% من النماذج والمنصات مصدرها الولايات المتحدة. كذلك أنظمة تشغيل الهواتف والحواسيب، ومحركات البحث، وشبكات التواصل الاجتماعي تظل حكرًا على عمالقة التكنولوجيا الأميركية، في ظل غياب بدائل أوروبية حقيقية.
أما على صعيد البيانات والاتصالات، فالوضع لا يقل خطورة، وهو ما ظهر في اعتماد الجيوش الأوروبية على معدات اتصالات أميركية مؤمَّنة، كما شهدنا في لجوء الجيش الأوكراني إلى خدمات "ستارلينك" في حربه الجارية ضد روسيا.
لذا، فمن دون تحرك حاسم، قد تواجه أوروبا فعلًا خطر التحول إلى مستعمرة رقمية تابعة للولايات المتحدة. الملاحظ أن الأوروبيين يعيدون النظر فعلًا في اعتمادهم على مزوّدي الخدمات السحابية والمنصات الرقمية والأقمار الاصطناعية من شركات أميركية.
فمثلًا، كان الاعتماد المكثف على "ستارلينك" دافعًا لأوكرانيا وحلفائها إلى البحث عن بدائل أوروبية تزوّدهم بالاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية، وتُعد منظومة "يوتلسات ون ويب" (Eutelsat OneWeb) الأوروبية خيارًا محتملًا، حتى وإن لم توفر نفس خدمات وجودة منظومة "ستارلينك".
لكن، هل يكفي أوروبا أن تجد بدائل محلية للشركات الأميركية، أم إن الأمر أعقد من مجرد استبدال شركة بشركة؟
لتجاوز هذا الانكشاف التقني، تحاول أوروبا رسم معالم مشروع طموح يُعرف باسم "يوروستاك". لا يدّعي هذا المشروع الانعزال أو الاكتفاء الذاتي الكامل، بل يسعى إلى إعادة هندسة البنية التحتية الرقمية للقارة، طبقة تلو أخرى، بما يضمن وجود خيارات آمنة ومستقلة وغير خاضعة لنفوذ خارجي، كما يشير إليه تقرير فورين بوليسي.
يرتكز مشروع "يوروستاك" على تقسيم البنية التحتية الرقمية إلى سبع طبقات مترابطة، لا يمكن لأي منها أن تعمل بمعزل عن الأخرى. إذ لا يمكن الحديث عن سيادة تقنية في البرمجيات إذا كانت رقائق الأجهزة مستوردة، ولا عن أمان البيانات إذا كانت الشبكات تعتمد على خوادم أو أقمار صناعية أجنبية.
تبدأ أولى الطبقات بالمواد الخام، الأساس الذي تُبنى عليه مختلف تقنيات العصر، إذ تفتقر أوروبا اليوم إلى السيطرة على الموارد الإستراتيجية مثل الليثيوم والكوبالت والعناصر الأرضية النادرة، التي تهيمن الصين وحدها على إنتاج ما بين 60٪ إلى 80٪ منها.
هذا الواقع يجعل القارة العجوز في مهب أي أزمة في سلاسل التوريد. لذا، تتجه الخطط الأوروبية نحو تنويع مصادر التوريد، وإبرام شراكات مع دول غنية بالموارد مثل نامبيا وتشيلي، إلى جانب الاستثمار في إعادة التدوير وتخزين المعادن الحيوية.
أما الرقائق الإلكترونية فتمثّل الطبقة الثانية، وهي عصب الصناعات التقنية الحديثة. كما ذكرنا، لا تنتج أوروبا سوى 9٪ من هذه الرقائق، بينما تتربع شركات أميركية كشركة نفيديا وآسيوية كشركة تي إس إم سي على عرش التصميم والتصنيع. ومن هنا تأتي أهمية تعزيز الصناعة المحلية لهذه الرقائق، خاصة في القطاعات التي تملك فيها أوروبا ميزة نسبية، مثل صناعة السيارات والآلات الصناعية.
الطبقة الثالثة تتمثل في شبكات الاتصال، فمع اعتماد أوروبا الحالي على أقمار اصطناعية ومعدات أجنبية، يصبح المشروع الأوروبي مُلزمًا بتعزيز استقلالية هذه الشبكات، وتوسيع نطاق تغطية شبكات الجيل الخامس والسادس باستخدام بنى تحتية أوروبية.
الطبقة الرابعة تركز على إنترنت الأشياء، وهي الأجهزة المتصلة التي تخترق حياة المستخدم اليومية والمرافق الحساسة. وتكمن خطورتها في أن كثيرًا منها يُصنّع في بيئات قد لا تضمن الأمان السيبراني، مما يجعلها عرضة للاختراق. لذا، تدعم أوروبا التحوّل إلى إنتاج محلي آمن، خاصة في مجالات الروبوتات والسيارات الذكية، مع وضع معايير صارمة لحماية شبكات الكهرباء والنقل والمصانع.
وفي الطبقة الخامسة تأتي البنية التحتية السحابية، تلك المخازن الرقمية التي تسيطر عليها شركات أميركية عملاقة تستحوذ على نحو 70% من هذا السوق العالمي. هذا الواقع يجعل الشركات والحكومات الأوروبية مضطرة إلى استئجار خوادم سحابية خارج نطاق سيادتها، ولذا تبرز الحاجة إلى خدمات سحابية أوروبية مستقلة.
أما الطبقة السادسة، فهي البرمجيات والمنصات، إذ تتجلى أوجه العجز الأوروبي في أوضح صورها. من وسائل التواصل الاجتماعي إلى أنظمة التشغيل المختلفة، تهيمن الشركات الأميركية على هذا المجال، وتبقى أوروبا في موقع التبعية، باستثناءات نادرة كمنصة ساب (SAP) الألمانية، التي أصبحت تعتمد بدورها بشكل كبير على الولايات المتحدة. تسعى المبادرة الأوروبية إلى كسر هذه المعادلة عبر تشجيع تطوير البرمجيات المحلية والمفتوحة المصدر، واعتمادها في قطاعات التعليم والحكومة.
الطبقة السابعة، العليا في هذا البناء، هي طبقة البيانات والذكاء الاصطناعي. هنا يحتدم الصراع العالمي، فالدول التي تملك البيانات والقدرة الحوسبية تسيطر على قوانين السباق. وفي حين احتلت الولايات المتحدة والصين صدارة مبكرة عبر تقنيات أوبن إيه آي وأنثروبيك وديبسيك، فإن الساحة تظل مفتوحة.
ورغم امتلاك أوروبا لقاعدة بحثية قوية وحواسيب فائقة الأداء، فإنها لم تُترجم هذه الإمكانات بعد إلى منصات تنافسية. لذا، يقترح مشروع "يوروستاك" إنشاء "مصانع ذكاء اصطناعي" تُزوّد الشركات والباحثين بالبيانات والطاقة الحوسبية اللازمة لتطوير تطبيقات ذكاء اصطناعي تراعي المتطلبات والقيم الأوروبية.
قد لا يعكس مشروع "يوروستاك" مجرد محاولة للاستقلال الرقمي، بل يمكن اعتباره محاولة لبناء هوية تقنية أوروبية مستقلة. فالدولة التي لا تؤسس بنيتها التحتية الرقمية بنفسها -من مراكز بيانات محلية إلى دفاعات إلكترونية وشركات تقنية وطنية- ستستخدم بنية تكنولوجية أجنبية. وببساطة، فمن يملك هذه البنية التحتية، هو من يضع قواعد السيطرة.
وقد لخّص تقرير فورين بوليسي الوضع الأوروبي بعبارة ختامية لافتة: "مشروع يوروستاك هو آخر وأفضل فرصة لأوروبا كي تحدد مصيرها: إمّا أن تبنيه، أو تتحوّل إلى مستعمرة رقمية".
إذا نجحت تلك المبادرات، فربما تمثل بداية نهاية الإمبراطورية التكنولوجية الأميركية التي فُرضت على القارة العجوز خلال السنوات الماضية.
سنحاول أن نبتعد قليلًا وننظر إلى الصورة الكبرى. يشهد العالم انقسامًا تقنيًّا متسارعًا بين الولايات المتحدة والصين، وسط تصاعد هيمنة شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة على معظم الخدمات الرقمية. في تسعينيات القرن الماضي، انطلقت موجة الإنترنت والخدمات المرتبطة بها، لتتضخم أحجام تلك الشركات إلى مستويات غير مسبوقة، والمثال الأوضح هو شركات مثل مايكروسوفت، وغوغل، وأمازون، وميتا.
وعلى الجهة المقابلة من العالم، شرعت الصين منذ عقود في تشييد فضاء رقمي مغلق على طريقتها الخاصة عبر ما يُعرف بـ"جدار الحماية العظيم"، الذي شكّل حاجزًا منيعًا أمام المنصات الغربية، مفسحًا المجال أمام تطبيقات ومنصات محلية مثل وي تشات، وعلي بابا، وبايدو، لتفرض سيطرتها على سوق داخلي ضخم، منعزل فعليًّا عن المنافسة العالمية.
وفي السنوات الأخيرة، شددت بكين رقابتها على التقنيات الناشئة، واضعة إياها ضمن أطر تنظيمية صارمة. على سبيل المثال، لوائح الذكاء الاصطناعي الجديدة منعت دخول روبوتات المحادثة الغربية القائمة على النماذج اللغوية الضخمة، مما عجّل بظهور بدائل صينية معتمدة رسميًّا من الدولة.
لكن هذا الانغلاق الداخلي لم يمنع الصين من التطلع إلى الخارج، فعبر مبادرة "طريق الحرير الرقمي"، بدأت بكين تصدير بنيتها التحتية الرقمية إلى الدول الشريكة، من الألياف الضوئية إلى شبكات الجيل الخامس والخدمات السحابية. وبهذه الخطوة، لا تكتفي بكين بمد شبكاتها التقنية حول العالم، بل تسعى أيضًا إلى ترسيخ معاييرها الرقمية ونموذجها السيبراني على الساحة الدولية.
هذا الانقسام لا يقتصر تأثيره على أوروبا فحسب، بل يصل إلى دول عديدة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، إذ اعتادت تلك الدول الاعتماد على عدد محدود من مزوّدي الخدمات الرقمية. فوسائل التواصل الاجتماعي الأميركية أصبحت القناة الرئيسية للتواصل، والمعدات الصينية تُستخدم على نطاق واسع في البنية التحتية للاتصالات، وشركات الحوسبة السحابية العالمية تخزن كميات هائلة من البيانات الحيوية لتلك الدول.
قد يكشف هذا الاعتماد المفرط على التقنيات الأميركية والصينية عن نقاط ضعف عميقة، إذ إن سحب هذه الخدمات أو تقييدها أو حتى توظيفها سياسيًّا في نزاعات جيوسياسية، قد يؤدي إلى اضطرابات تتجاوز حدود أوروبا، لتصيب بنية الاتصالات والمعرفة في مناطق متعددة من العالم.
أصبحت الدول الآن تنظر إلى التقنيات الرقمية كأصول استراتيجية، تمامًا كما تنظر إلى الطائرات المقاتلة أو احتياطيات النفط؛ وذلك لأنها تمنح من يمتلكها ميزة تفاضلية في ميزان القوى، وبالتالي لا بد من السيطرة عليها أو تأمينها أو حتى حرمان الخصوم منها.
وربما أدرك حلفاء الولايات المتحدة أخيرًا أن تغيّر موازين القوى قد يهدّد شرايينهم الرقمية الحيوية، إذ يمكن استخدامها كورقة ضغط أو تُقطع فجأة. وهكذا، لم تعد تشققات الإمبراطورية تقتصر على الامتداد الأفقي بين القوى العظمى المتنافسة، بل باتت تمتد عموديًّا أيضًا، بين الدول ذات السيادة وشركات التقنية الضخمة العابرة للحدود.
ما تواجهه أوروبا مع الشركات الأميركية يعبّر عن أزمة عالمية، خصوصًا في مناطق التبعية التقنية مثل العالم العربي والشرق الأوسط، لا سيما بعد اتضاح دور تلك الشركات في الحروب الجارية. وربما جاء اكتشاف أوروبا متأخرًا، لأن الحليف الأميركي هذه المرة انقلب على أقرب حلفائه. أما نحن -في العالم العربي- فقد تأكدنا من أن تلك الشركات العملاقة تحولت إلى أدوات في يد الإمبراطورية الأميركية، كما شهدنا خلال حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023.