أظهرت دراسات عديدة وجود صلة بين حدوث الاضطرابات النفسية في منتصف العمر وتطور الإصابة بالخرف ، ووجد باحثون من جامعة نوتنغهام من المملكة المتحدة -في دراسة نشرت أواخر مايو/أيار الماضي- أن نوبات الاكتئاب المستمرة على مدار الحياة يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بالخرف.
ومن جانب آخر، أدرجت لجنة لانسيت -في تقرير جديد صدر العام الماضي- الاكتئاب كواحد من 14 عامل خطر قابل للتعديل، وهي عوامل يمكن التحكم فيها وتغييرها، على عكس عوامل الخطر غير القابلة للتعديل مثل العمر أو الوراثة، والتي تمثل نصف حالات الخرف.
ومن ناحية أخرى، صرح بيتر جيرارد استشاري طب الأعصاب والأستاذ في جامعة سانت جورج من المملكة المتحدة أنه تعامل خلال سنوات عمله مع العديد من الحالات لأشخاص يعانون في عمر السبعين والثمانين من أعراض الخرف، والذين عانوا سابقا في مرحلة ما من منتصف عمرهم من تدهور خطير في صحتهم العقلية .
ويقول الدكتور جيرارد "يخفي العديد من هؤلاء الأشخاص عن وجود تاريخ مرضي سابق. ربما بسبب شعورهم بالخجل، لذا لم يذهبوا إلى الطبيب أصلا. ولكن في حضور الزوج أو الزوجة، يمكن أحيانا اكتشاف تاريخ مرضي، يعود عادة لعمر الثلاثينيات أو الأربعينيات، يمتد من 5-10 سنوات من الاكتئاب الحاد، وهو ما يسمّونه الانهيار العقلي أو العصبي. لقد رأيت هذا عشرات المرات، وأعتقد أن هناك رابطا بيولوجيا بين الاثنين".
وتشارك صحيفة تلغراف البريطانية نتائج أبحاث ودراسات وآراء بعض الخبراء حول: ماذا تعرف عن العلاقة بين الاكتئاب والخرف، وكيف يمكن الوقاية من المرضين؟
أجرت آمبر جون، الباحثة في علم النفس بجامعة ليفربول، وفي مركز أبحاث ألزهايمر في المملكة المتحدة عددا من المشاريع في هذا المجال. وكان من أبرز نتائجها أن الأشخاص الذين عانوا من اضطرابات نفسية مزمنة هم الأكثر عرضة للإصابة بالخرف في مراحل متقدمة من العمر. وفي المقابل، كان الذين عانوا من نوبات اكتئاب متفرقة أقل عرضة للخطر.
وتقول الباحثة "يبدو أن مشاكل الاكتئاب المزمنة هي التي تسبب الضرر للدماغ، خاصة إذا لم تعالج".
وتشير إلى وجود عدة أسباب وراء ذلك، فقد تبين أن الذين يعانون من اكتئاب حاد أكثر عرضة لمواجهة صعوبة في اتباع نمط حياة صحي من حيث النشاط الجسدي والحصول على نوم جيد والحفاظ على العلاقات الاجتماعية، وهي أمور تعرف بدورها في الحفاظ على سلامة الدماغ بصورة عامة.
ويمكن وبطرق مختلفة -من خلال فهم بيولوجيا الاكتئاب المزمن نفسه- إثبات مدى ضررها على الدماغ، حيث تظهر الدراسات البحثية أن الذين يعانون من اكتئاب مزمن يكون لديهم مستويات مرتفعة من الالتهاب العصبي، والذي يمكن أن يؤثر سلبيا على خلايا الدماغ. وتبين في دراسة أخرى ارتفاع مستوى هرمون الكورتيزول المرتبط بالتوتر بشكل مفرط لدى المصابين بالاكتئاب، والذي تعتقد أمبر وآخرون أنه يؤدي لحدوث ضمور أو انكماش للحصين، وهو جزء من الدماغ يرتبط عادة بالخرف.
وتقول جوليا دادلي رئيسة قسم الأبحاث بمركز ألزهايمر في المملكة المتحدة "لطالما ارتبط ارتفاع مستوى هرمون الكورتيزول بانكماش الدماغ وحدوث التدهور المعرفي".
ولا يزال الباحثون غير متأكدين تماما من تأثير هذا الارتفاع، وهناك المزيد من الدراسات الجارية لفهم ما يحدث بدقة، ولمعرفة المرحلة العمرية التي يكون التأثير فيها أكبر.
وجد باحثون، في وقت سابق من هذا العام، أن احتمالية إصابة الشخص بالاكتئاب تزداد بشكل مستمر خلال العقد الذي يسبق تشخيص الخرف.
ويقول جوناثان شوت أستاذ علم الأعصاب بجامعة لندن في المملكة المتحدة "يشير أطباء الأعصاب بالعيادات في الوقت الحاضر إلى أن حالات القلق والاكتئاب المفاجئة، التي تظهر على الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما، تعد علامة تحذير محتملة على تفاقم خطر الاصابة بالخرف".
ولذا، يمكن أن يعد الظهور المفاجئ للاكتئاب والقلق -عند الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما ولم يمروا بأي اضطرابات نفسية من قبل- علامة مبكرة على الإصابة بالخرف.
ويتحدث الدكتور جيرارد عن وجود حالات مختلفة لمرضى تزيد أعمارهم على 80 عاما قد عانوا في البداية من أعراض الاكتئاب، وشخصوا لاحقا بالخرف.
ويضيف "الأمر ليس مؤكدا تماما. فهناك العديد من الأسباب تؤدي للإصابة بالاكتئاب أو القلق في مراحل متقدمة من العمر. ولكن في بعض الحالات، يمكن أن يرتبط ذلك بتغيرات تطرأ على الدماغ تحدث في الفترة التي تسبق الإصابة بالخرف".
ويوجد سببان رئيسيان يقودان للإصابة بالخرف: أولها أمراض الأوعية الدموية، يليها تراكم البروتينات غير الطبيعية التي تسبب حدوث تغيرات بآلية تواصل خلايا الدماغ. وبشكل أساسي، يبدأ حدوث ضرر بالدماغ، وتغيرات في المزاج والحالة النفسية.
وتبين أمبر أن هذا السبب يستدعي الحاجة إلى القيام باختبارات أفضل تمكّن الأطباء من التمييز بين حالات الاكتئاب أو القلق أواخر العمر، والتي تعتبر مجرد اضطرابات مزاجية، والحالات التي تمثل انعكاسا أكثر خطورة لحدوث تلف لخلايا الدماغ.
ويمكن اعتبار الذين يعانون من أعراض مبكرة للخرف هدفا محتملا للتجارب السريرية المستقبلية للأدوية المعدّلة للمرض، مثل علاجات ألزهايمر المعروفة أو أدوية تجريبية أخرى.
يرى الخبراء الآن أن العلاج المبكر لحالات الاضطرابات النفسية الممتدة في منتصف العمر يمكن أن يجنب حدوث التدهور المعرفي بمراحل عمرية متقدمة، وبالتالي الحد من خطر الإصابة بالخرف.
إذن، ما الذي يمكن فعله بشأن حصول الاضطرابات النفسية وتأثيرها المحتمل على المدى الطويل على الإدراك وسلامة الدماغ؟
ويمثل تناول الأدوية المضادة للاكتئاب أحد الخيارات، على الرغم من أن الأدلة على مدى فعاليتها فيما يتعلق بالخرف متباينة حاليا، كما تعتمد على نوع مضادات الاكتئاب المستخدمة.
وأشارت بعض الأبحاث التي أُجريت على حيوانات المختبر إلى أن أدوية مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (Selective Serotonin Reuptake Inhibitors) -وهي نوع من الأدوية المضادة للاكتئاب- يمكن أن تقلل من تراكم بروتين الأميلويد السام بالدماغ، وهو عامل رئيسي في تطور مرض ألزهايمر.
ومع ذلك، وجدت دراسة أخرى ممولة من جمعية ألزهايمر أن بعض الأدوية المضادة للكولين، وهي فئة أخرى من مضادات الاكتئاب تعمل عن طريق تثبيط عمل مادة كيميائية معينة في الدماغ تسمى الأسيتيل كولين، يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بالخرف. وما زال الباحثون بحاجة إلى معرفة المزيد.
وتقول دادلي "ليس من الواضح حاليا ما إذا كان ذلك يعود إلى التغيرات التي حدثت في الدماغ قبل العلاج أم إلى العلاج نفسه".
وتبدي أمبر اهتماما خاصا بدور العلاجات النفسية بمنتصف العمر في الحد من خطر الإصابة بالخرف على المدى الطويل. وتشير إلى دراسة أجرتها باستخدام بيانات خدمة الصحة الوطنية (National Health Service) من جميع أنحاء المملكة المتحدة، والتي وجدت أن استخدام العلاجات النفسية لتحسين أعراض الاكتئاب والقلق لدى من هم في منتصف العمر تظهر ارتباطا بانخفاض معدلات الإصابة بالخرف في المستقبل.
وتضيف "الأدلة المبكرة مشجعة للغاية، فهي تشير إلى أن طلب المساعدة في علاج أعراض الاضطرابات النفسية يمكن أن يكون خطوة فعّالة في الحفاظ على سلامة الحالة الإدراكية والسلوك المعرفي مستقبلا".
وتوضح دادلي أن المعاناة لفترة طويلة من الاكتئاب لا تعني فوات الأوان أبدا من أجل اتخاذ إجراء.
وتقول أيضا إن الخرف ليس نتيجة حتمية للشيخوخة كما يعتقد البعض. فالأدلة والنتائج تظهر أكثر فأكثر مدى صحة ذلك، وأنه من الممكن التدخل وتقليل المخاطر.