مع دخول قطاع التعدين مرحلة جديدة من التطوير والتوسع، تتضح ملامح رؤية إستراتيجية تسعى من خلالها سلطنة عُمان إلى جعل هذا القطاع إحدى القاطرات الرئيسة للتنويع الاقتصادي. فالمعادن التي تختزنها الجبال والأودية والسهول العُمانية باتت اليوم في صميم الخطط الحكومية الهادفة إلى جذب الاستثمارات وتعظيم القيمة المضافة، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية "عُمان 2040".
وتتوالى المبادرات والقرارات الرامية إلى تعزيز جاذبية القطاع، من خلال طرح مناطق امتياز جديدة، وتوقيع اتفاقيات استثمارية نوعية، وتأسيس كيانات وطنية لتنظيم عمليات التسويق والتصدير. وبينما يسجل القطاع تطورا ملحوظا على مستوى الإنتاج والصادرات، تتجه الجهود إلى بناء صناعة تعدين متكاملة تركز على تعظيم القيمة المضافة وتحويل الموارد الطبيعية إلى رافد مستدام للاقتصاد الوطني.
تعمل وزارة الطاقة والمعادن على توفير بيئة استثمارية قائمة على الشفافية والتنافس، إذ طرحت مناطق امتياز للتنافس بين الشركات المحلية والدولية. ووفقا لمدير عام المديرية العامة للاستثمار بالوزارة الدكتور صلاح بن حفيظ الذهب، فقد أعلنت السلطنة عن مناطق امتياز تعدينية جديدة لعام 2025، موزعة على محافظات مختلفة، وتحتوي على مؤشرات لخامات إستراتيجية مثل النحاس، والكروم، والذهب، والفضة، إلى جانب السيليكا والكاولين.
وأشار الدكتور الذهب إلى الجهود المكثفة التي قامت بها وزارة الطاقة والمعادن خلال الفترة الأخيرة لتنمية هذا القطاع من خلال مناطق الامتياز، والتي تمثلت في إرساء 14 منطقة امتياز للمعادن الفلزية، و4 مناطق امتياز لأملاح البوتاس، و4 مناطق أخرى لأملاح البحر، و5 مناطق امتياز غير فلزية في محافظتي الوسطى وظفار، إضافة إلى البدء في الأبحاث والدراسات المتعلقة بإمكانية استغلال الأملاح في باطن الأرض، تشمل بعضها المياه المنتجة والمصاحبة للنفط.
وأوضح أن هذه الخطوة تأتي ضمن إستراتيجية شاملة لتطوير القطاع، مشيرا إلى أن التوسع في طرح هذه المناطق يعكس الإقبال الكبير من الشركات المحلية والدولية، ويؤكد جدية المستثمرين في دخول السوق العُماني. كما أشار إلى أن الوزارة تعمل على تسريع عمليات استغلال هذه المواقع من خلال توفير البيانات الأساسية حول الموارد والاحتياطات المتاحة.
وفي خطوة عملية نحو تعزيز القطاع، وقعت وزارة الطاقة والمعادن 3 اتفاقيات جديدة للتنقيب والتعدين مع شركتين متخصصتين، تغطي مناطق امتياز في كل من محافظتي البريمي والوسطى.
الاتفاقية الأولى منحت شركة الخليج لمواد المعادن حقوق التنقيب في منطقة الامتياز بمحافظة البريمي، على مساحة 1089 كيلومترا مربعا، وتتميز بوجود صخور الأفيولايت ومؤشرات على خامات النحاس والكروم.
وتشمل المرحلة الأولى من المشروع، الممتدة بين سنتين إلى ثلاث سنوات، أعمال المسوحات الطبوغرافية والجيوكيميائية والجيوفيزيائية، إضافة إلى الحفر والخنادق الاستكشافية.
أما الاتفاقيتان الثانية والثالثة فقد وُقعتا مع شركة نوفل مسقط العالمية في منطقتي الامتياز بمحافظة الوسطى. وتغطي هذه المشاريع إنشاء مصنع لإنتاج الأملاح وكربونات الصوديوم (رماد الصودا)، ومصنع آخر لإنتاج الجير المطفي، إلى جانب أعمال استكشافية في مناطق غنية بالسيليكا والحجر الجيري والأطيان.
ويُقدَّر إجمالي استثمارات هذه المشاريع بنحو 192 مليون ريال عُماني (500 مليون دولار)، بما يشمل المصانع والدراسات وخطط التعدين.
وأوضح وزير الطاقة والمعادن سالم العوفي أن الوزارة تعمل على استقطاب استثمارات نوعية قادرة على إحداث أثر اقتصادي ملموس، ليس فقط من خلال استخراج الثروات المعدنية، بل عبر تحويلها إلى صناعات تحويلية متقدمة تدعم سلاسل القيمة وتفتح فرصًا جديدة أمام الكفاءات الوطنية، منوها إلى أن الاتفاقيات التي جرى توقيعها اليوم تأتي في إطار هذا التوجه، حيث تتركز على توظيف المعرفة والخبرة التقنية للشركات المتخصصة، وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لضمان الاستغلال الأمثل للموارد.
تُظهر البيانات أن حجم الاستثمارات المخصصة لأعمال الاستكشاف في مناطق الامتياز التعديني بلغ نحو 50 مليون دولار، مما يعكس رغبة متزايدة لدى الشركات في استكشاف واستغلال الموارد المعدنية.
وقد بدأت بالفعل مشروعات إستراتيجية، مثل مشروعي الواشحي والغزيين، الدخول في مرحلة الإنتاج منذ العام الماضي، مما يُعد مؤشرا على نجاح خطط الحكومة في جذب الاستثمارات وتحويلها إلى مشاريع واقعية على الأرض.
ويؤكد الدكتور الذهب أن التعاون بين الشركات المحلية والعالمية يمثل ركيزة أساس في هذه الإستراتيجية، إذ تُسهم الشركات المحلية في المشروعات الحيوية، بينما توفر الشركات العالمية قيمة استثمارية مباشرة ونقلا للمعرفة والتقنيات الحديثة، بما يفتح آفاقا جديدة أمام الكوادر الوطنية.
في تصريح سابق، كشف وزير الطاقة والمعادن، عن تغيير جوهري في إستراتيجية الاستثمار بقطاع التعدين، وأوضح أن الوزارة أعادت تصنيف القطاع إلى قسمين رئيسيين:
وأشار الوزير إلى أن مناطق الامتياز في السابق كانت محدودة المساحة (لا تتجاوز 5 كيلومترات مربعة)، وغالبا ما يُمنح الامتياز لمعدن واحد فقط، مما تسبب في عزوف العديد من المستثمرين، لا سيما الشركات العالمية.
أما اليوم، فقد منحت الوزارة الشركات مساحات واسعة، مع فترة استكشاف تمتد إلى 5-6 سنوات، تليها فترة استثمار طويلة الأمد تصل إلى 25 عاما، وهو ما ساهم في زيادة الإقبال على هذه المناطق.
وفي ترجمة فعلية لإستراتيجية الوزارة، شهدت سلطنة عُمان في أواخر 2024 لحظة فارقة في قطاع التعدين، مع إعلان شركة تنمية معادن عُمان تصدير أول شحنة من مركزات النحاس بوزن 900 طن من منجم الأسيل بولاية صُحار (شمالي البلاد) عبر ميناء صحار، وذلك بعد توقف استمر أكثر من 30 عاما.
ويُعد منجم الأسيل، الواقع ضمن منطقة الامتياز "بي 11″، أحد أبرز المشروعات التي تجسد عودة السلطنة إلى الساحة الدولية لتصدير النحاس. وتنتج الشركة مركزات نحاس بجودة عالية ونسب تركيز تصل إلى 22%، في حين يبلغ متوسط الإنتاج السنوي نحو 500 ألف طن من خام النحاس.
وتُخطط الشركة للتوسع بتطوير منجم البيضاء في ولاية لوى (شمالي البلاد) خلال 2025-2026، والذي يُقدر احتياطيه بنحو 2.78 مليون طن. كما يتواصل العمل على مشروع "مزون للنحاس"، الذي يُعد أكبر مشروع متكامل لإنتاج مركزات النحاس في السلطنة، ضمن رؤية تهدف إلى استدامة القطاع وتعظيم عوائده الاقتصادية.
ويكتسب النحاس أهمية متزايدة عالميا، كونه يدخل في صناعات إستراتيجية مثل الطاقة المتجددة، والبطاريات، والسيارات الكهربائية، وهو ما يمنح سلطنة عُمان موقعا تنافسيا قويا في السوق العالمية.
تشير الإحصائيات إلى أن عُمان أنتجت نحو 67.7 مليون طن من الخامات المعدنية خلال عام 2024، في حين بلغت كمية المبيعات 62.5 مليون طن، بقيمة 114.3 مليون ريال عُماني.
كما صدرت البلاد نحو 36 مليون طن من خامات متنوعة، مثل الجبس والحجر الجيري ومواد البناء.
ويُظهر أن عدد الشركات المشغلة لمناطق الامتياز التعديني بلغ 10 شركات حتى نهاية 2024، تعمل في 21 منطقة امتياز تغطي خامات النحاس، والكروم، والدولومايت، والجبس، والنيكل، والكوبالت.
وقد شهد العام نفسه توقيع اتفاقيات جديدة لاستخراج الملح البحري في محافظة الوسطى، باستثمارات تجاوزت 29 مليون دولار، وبطاقة إنتاجية تصل إلى 4 ملايين طن سنويًا.
أحد أبرز التحولات المؤسسية تمثل في قرار إنشاء "الشركة العُمانية لتجارة المعادن"، التي ستتولى مهمة تعزيز القيمة المحلية المضافة، وتعزيز أعمال التسويق، وتنظيم التصدير.
ويؤكد المسؤولون أن هذا الكيان سيساهم في ترسيخ مكانة السلطنة كمركز إقليمي رائد في الصناعات التعدينية، مع التركيز على تعظيم القيمة المضافة من خلال تشجيع الصناعات التحويلية، بدلًا من الاقتصار على تصدير المواد الخام.
وتشدد وزارة الطاقة والمعادن على أن الاستثمار في التعدين ليس سهلا، إذ يتطلب عمليات استكشاف مكثفة ومكلفة. ففي بعض المناطق التي وُقعت بشأنها اتفاقيات حديثة، تجاوزت تكلفة المرحلة الاستكشافية ما بين 11 و25 مليون دولار.
ومع ذلك، فإن الاستثمارات النوعية لا تهدف إلى استخراج الموارد فحسب، بل تسعى أيضا إلى نقل التكنولوجيا والمعرفة، وتدريب الكفاءات الوطنية، وتطوير قدرات الشركات المحلية على المنافسة إقليميا ودوليا.