الأمثال الشعبية هي بمثابة الدستور غير المكتوب بين الشعوب، فهي خلاصة تجارب وعصارة خبرات طويلة مما جعلها مكونا أساسيا من مكونات الثقافة، تبنى عليها قرارات وتتخذ على إثرها مواقف، تبدأ مع الإنسان منذ طفولته وربما ترتيبه بين إخوته إذا كان الأول أو الأخير فقد يكون "حظه كبيرا" أو العكس.
في ظل التغيرات المتسارعة في القرن الأخير بقي عدد من الأمثال صامدا لعقود، بينما تراجع استخدام أمثال أخرى على ألسنة الشعوب العربية، فما الذي يحدد عمر المثل الشعبي؟ وكيف ينتقي الوعي الحديث هذا الموروث؟
تلفت الباحثة الجزائرية نورية سوالمية في ورقة بحثية نشرتها عام 2018، عن "دور الأمثال الشعبية في التنشئة الاجتماعية" إلى أن سر بقاء بعض الأمثال لسنوات طويلة يكمن في قدرتها على التعبير عن "الحقيقة الكلية" والظرف الإنساني المستمر، أو استنادها إلى موروث عقائدي وحضاري صلب.
وهي ترى أن الأمثال التي تردد خلاصة التجربة اليومية تعد ملكا للمجموعة لأنها تريح النفس وتواسيها بحكمة وفلسفة عملية، مشيرة إلى أن المثل يظل حيا إذا نبع من صميم التركيبة الاقتصادية والاجتماعية.
من جانبه يقول رئيس لجنة الحريات في الداخل الفلسطيني الشيخ كمال الخطيب إن الأمثال التي تحث على الكرامة، مثل "الحق بالسيف والعاجز يشتكي"، تكتسب بريقا خاصا لأنها تشكل الهوية الوطنية وترفض حياة الذل والتبعية.
ويضيف أن الأمثال التي تدعو للصبر والوفاء، مثل "الراجل يتكتف من لسانه"، تظل صامدة لكونها تعزز الفضيلة وتستقبح الرذيلة.
ويوضح الخطيب أنه في المقابل، يشهد العصر الحالي تراجعا كبيرا لأمثال كانت شائعة في عصور الانحطاط، وذلك لتعارضها مع قيم الوعي والكرامة.
ويشير إلى أن الأمثال التي تعلم الخضوع تحت شعار الواقعية، مثل "حط رأسك بين الروس وقول يا قطاع الروس" أو "كف ما بتلاطم مخرز"، تراجعت أمام وعي جيل يرفض الانهزامية.
بالإضافة إلى الأمثال التي تكرس الأنانية مثل "جوز أمي هو عمي" أو "وقت حاجتي بقول للكلبة خالتي" باتت تُلفظ لكونها تعلي المصلحة الشخصية على حساب الكرامة.
كما تراجعت، بحسب الباحثة الجزائرية الأمثال التي تدعو للعنف الرمزي أو الجسدي، خاصة ضد المرأة، مثل "اضرب مارتك ديمي..". مشيرة إلى أن الوعي الحديث حاصر الأمثال التي تشرعن "قانون الغاب" مثل "الحوت ياكل الحوت".
ومن جانبه يقول الباحث المصري المتخصص في التاريخ والتدين الشعبي محمد إمام صالح إن الأمثال يمكن أن تشير إلى عدة دلالات في آن واحد، وربما يمكن تفسيرها بشكل متناقض، مثل "العين ما تعلاش على الحاجب"، فيمكن فهم أنه يدعو إلى احترام الآخر وتوقيره، فهو بمثابة العين، التي هي من أهم أعضاء الجسد، ويتشبه الناس بها فيُقال "أنت عيني"، أما الجانب الآخر له فهو بمثابة التحقير والتذلل، فلا يمكن للعين أن تعلو فوق الحاجب "سيدها".
ولفت إلى أن المصريين القدماء استخدموا الأمثال، وحدث خلط كبير بين أدب الحكمة والأمثال، ربما لأن المثل في حد ذاته حكمة، ولكن الفرق بينهما قليل.
ويشير صالح إلى أحد الأمثال المصرية القديمة في عهد الفراعنة ومنها ما جاء في لوحة الملك منتوحتب "إن أثر الرجل فضيلته أما الشرير فمآله النسيان"، والذي يشير إلى ضرورة التحلي بالأخلاق الحميدة لتظل ذكراه كالأثر.
ويضيف أنه في العصر الحالي يقول المثل: "اِللِّي فِيهْ مَا يْخَلِّيهْ"؛ أي أن ما بالمرء من خُلق لا يتركه فمن شب على شيء شاب عليه، وفي الجزائر يقولون "الخير دره وأهداه واتركه من ورائك فسوف تلقاه أمامك"، ويعني أن ما تفعله من خير ستُجازى به في الدنيا أو الآخرة. وأما الشرير فالناس تكرهه وتكره ما يتعلق به حتى وإن كان حسنا، فالمثل يقول "يغور الشهد من وش القرد" دلالة على سيئ الخُلق.
ورغم أن الأمثال تستمد ثقافتها من صميم المجتمع وتركيبته وتتنوع بحسب البيئة المختلفة، فما يصلح للأرض الصلبة والجبال قد لا يجد صداه في قسوة الصحراء. لكنّ الكثير منها بقي ثابتا ومرنا في الوقت ذاته، ومع دخول عصر "الرقمنة" واستحواذه على المجال العام لم يلغ الحكمة القديمة بل أعاد تكييفها.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة