في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
كنتُ أعدُّ مع الروائي الفلسطيني يسري الغول مشاركته في ملتقى "تورنتو" الدولي لفن اليوميات في جلسة خاصة بفلسطين، عندما أرسل إليّ في ليلة رسالة بالعربية والإنجليزية يقول في مطلعها "لا أعرف كم يومًا سأعيش بعد الآن، فالموت يحاصرني كما يحاصر هذه المدينة التي تنزف بلا توقف، لا أعرف بأي شكل سأموت، ربما برصاصة من طائرة "كواد كابتر" صغيرة تحوم في سماء ملبدة بالدخان، وربما من شظايا مدفعية "هاوتزر" تُطلق قذائفها عشوائيًا، وربما من بارجة حربية ترمي حممها على منطقتنا المحاذية للبحر، وربما سيقتلني صاروخ غادر تطلقه طائرة استطلاع أو "إف-16″ (F-16) لكن كل ما أعرفه أنني لم أعد أفكر بكيفية الموت، بل بمكان جثتي: هل سأسقط بين الركام، قريبًا من بيتي بينما أجري مع أطفالي هربًا من القذائف، أم ستتناثر أشلائي على الطريق الترابي المتكدس بالخيام، وربما سأُدفن بلا وداع حتى من زوجتي ومن تبقى من عائلتي، أتخيل المشهد الآن".
وجَّه يسري دعوة منذ أشهر إلى الفلسطينيين ليسجِّلوا عبر الفن والأدب اللحظة الفلسطينية الراهنة لإنقاذ السردية الفلسطينية أمام سطوة السردية الإسرائيلية.
وطرحتُ عليه إجراء حوار، وكنت في الحقيقة أريد أن أشغله عن التفكير في الموت ولو لساعة، طلب أن تكون إجاباته صوتية، وكان هذا التدفق الذي نقل فيه يسري معاناة الفلسطيني داخل غزة الآن، وقد صار الموت أليفًا حتى كتب فيه ذلك النص الشعري الذي نشره بعد ذلك على صفحته كاملًا.
وفي هذا الحوار نكتفي بأن نجعل من السؤال قادحًا لكي يتحدث ابن غزة بكل أفكاره التي تتناقض أحيانًا ككل تناقضات العالم، والعالم كله في حيرة من بشاعة ما وصل إليه البشر، فلا يقين يمكن الاهتداء به، لذلك فهو في هذا الحوار يتجاذبه قطبان: اليقين من جهة، والشك من جهة أخرى، وشك في كل شيء إلا في أن الحق الفلسطيني حق أبدي، وأن القضية ستنتصر يومًا.
ويسري واحد من أهم الأصوات السردية الفلسطينية وصوت صامد في غزة، يكتب سرديتها دون اصطفاف مع أحد كما يقول في هذا الحوار. ونُشرت قصصه في عدد كبير من المنابر العربية والعالمية، وتُرجمت نصوصه إلى العديد من اللغات.
صدر له إلى الآن:
شكرًا لك يا صديقي، أولًا أنا اليوم مثلي مثل أبناء شعبي، لأن المثقف ابن بيئته، ونحن نعيش إبادة لا يمكن وصفها، ولم تتحدث عنها من قبل في تاريخ الإنسانية والبشرية جمعاء.
اليوم يا صديقي نتعرض لإبادة، وليس فقط الإبادة بالقتل المتعارف عليه بالطائرات والبوارج الحربية والرصاص وغيره، بل بالتجويع أيضًا والحصار، وإشاعة الرعب والخوف بعدم إدخال الأدوية وغاز الطهي وعدم توفير الماء، ولذلك نحن اليوم نموت بكل الوسائل المتاحة.
هناك أكثر من 70 ألف شهيد، وهناك أكثر من 20 ألف مفقود تحت الركام، وربما بعضهم معتقل، وهناك جثث متحللة في الشوارع وتحت الأنقاض، ولذلك أنا أكتب من أجل كل هؤلاء، لأجل أن أسجل للتاريخ كي لا ننسى، لأن الأدب والثقافة واليوميات وكتابة التاريخ هي العلامة الفارقة في تاريخ الإنسانية، تسجّل هذه الحقبة.
لأنه كما يقول المثل الأفريقي: سيظل التاريخ يُمجّد الصياد إلى أن يكون للأسود كتاب ومؤرخون، لذلك أنا أسجل، لأننا الحلقة الأضعف، وإسرائيل عبر البروباغندا وإعلام الغرب المنحاز تحاول أن تمارس دور المظلومية وأنها مضطهدة، وأن العرب يريدون قتل شعبها، بينما هي التي تمارس أشنع أنواع الإبادة التي يمكن أن تتخيلها البشرية.
لكل ذلك أنا هنا أكتب في بيتي شبه المدمَّر بعد تدمير بيتي الأول، ولي بيتان: أحدهما مُسح بالكامل بما فيه المكتبة التي كانت تحوي أكثر من ألفي عنوان، وبيتي الجديد الذي تم تدمير جزء منه، وبجواره عمارة سقطت على بيتي، كما سقط على بيتي من الجهة الجنوبية أيضًا بيت آخر، أحاول قدر المستطاع الاستيقاظ في السابعة صباحًا، برفقة طائرة "الزنانة" كي أنزوي مع نفسي في خيمة فوق السطح وأكتب يوميات، وأكتب المقالات للمؤسسات مثل مؤسسة "الدراسات الفلسطينية" أو للصحف أو المواقع الإلكترونية المهمة.
المشكلة لم تكن في كتابة الأدب والتخييل وعدم التركيز على اليوميات، المشكلة كانت في شقين حسب ما أظن: الشق الأول أننا لم نكن نفهم الآخر كي نكتب له بالطريقة التي يجب أن يفهمها، ولذلك نحن عملنا على استخدام الأسلوب الكلاسيكي الشعبوي وابتعدنا عن رؤية العالم: كيف يفكر العالم، كيف ينظر العالم إلى الأشياء، ما هي الأشياء التي يجب التركيز عليها، لأنه يهتم بالتفاصيل الدقيقة والصغيرة التي ربما تكون لا شيء عندنا كثقافة عربية، بينما هي كل شيء للآخر.
والأمر الآخر هو "أنسنة" الأعمال الأدبية الفلسطينية، نحن ركزنا على الموت ولم نكن نركز على التفاصيل كما أسلفت وعولمتها، كأن نتحدث مثلًا عن فكرة الذهاب إلى الحمام في الوقت الذي يتم فيه قصف المنزل والاختباء في غرفة ما مثلًا وعدم القدرة على الذهاب إلى الحمام، أو فكرة ممارسة العلاقة الحميمية في وقت الحرب، أو فكرة إنقاذ طفل من براثن الموت بطريقة ما، الفكرة التي أريد أن أوصلها يا صديقي أننا لم نؤنسن ولم نعولم النص الأدبي بالشكل المناسب.
والأمر الآخر هو الترجمة، إذ كانت لدينا وما زالت مشكلة في حركة الترجمة، ما هو عدد الأعمال التي تُترجم من الأدب الفلسطيني المكتوب بالعربية في فلسطين إلى اللغات الأخرى، وتحديدًا إلى الإنجليزية؟ وما هي دور النشر التي تقبل أن تنشر هذه الأعمال؟ وما هو اتجاهها لكي تنشر تلك الأعمال؟ ولذلك، للأسف نجاح البروباغندا الصهيونية اعتمد على عاملي الأنسنة والكذب.
ويبقى الجندي الإسرائيلي قاتلًا متوحشًا يقتل أطفالنا، ثم يأتي الاحتلال الإسرائيلي ليصنع منه صورة حمامة سلام، لا يقولون إنه جندي كان يقتل الأطفال، وإنما يقولون مثلًا "ديفيد الذي كان يحب الحياة، الذي كانت تنتظره عشيقته كل خميس كي يذهبا إلى البار ليحتسيا النبيذ ويتحدثا عن مستقبلهما وإنجاب طفل صغير يُعلّمانه الطيران لأنهما يحلمان أن يسافرا إلى أصقاع العالم.." وهكذا.
نعم، إسرائيل نجحت لأنها لديها القدرة، ولأن اليهود موجودون في كل مكان في العالم، ولذلك قاموا بترجمة أعمالهم إلى لغات العالم: الإسبانية، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، والهولندية.. بينما بقينا نحن في القمقم وفي ذات المربع ولم نخرج منه إلى العالم، وموضوع اليوميات واحد من هذه الأمور المهمة، ولكنه ليس أهم مما ذكرت.
صديقي، كلامك صحيح، لم أعد ذلك الحالم الذي يكتب في الحب والدراما والتخييل، وأعيش طقوس الانتقال من الوعي إلى اللاوعي لأصنع أبطالي وبطلاتي وأرقص معهم تحت المطر في زقاق مترب، وأهرب إلى البحر لأمشي مع حبيبات مجنونات، بتُّ اليوم أحمل القلم كبندقية، وأخاف أن يتم استهدافي في كل ليلة، وأخاف على أطفالي من الموت، ولكن لا يمكن لي أن أتنازل، لأن المثقف هو أول من يقاوم وآخر من ينكسر. لأنه كما يقول باسل الأعرج "إذا أردت أن تكون مثقفًا لازم تكون مقاومًا" بمعنى أنه يجب أن نكون مقاومين بالكلمة.
وهناك الكثير من الزملاء والأصدقاء لا يستطيعون أن يتحدثوا بقوة في وجه العالم خوفًا من منع السفر أو رغبةً في الحصول على مكسب مادي كمنصب أو مشاركة في مؤتمر أو الحصول على جائزة، ولكني ألقيت كل تلك الأشياء في مكب النفايات، وأرى أن قيمتي أكبر من كل هذه الجوائز وكل هذه المناصب، قيمة ما أكتب أنني صوت الشارع الفلسطيني، الذي سيخلّد ما أكتب شاء من شاء وأبى من أبى، فيسري الغول وصلت أعماله إلى العالمية، وتُرجمت لأكثر من 13 لغة، وتُدرّس أعماله في بعض الجامعات.
يسري هو صوت كل الشارع، يكفي أن الجدران تبتسم ليسري عندما يسير في الشارع، يكفي أنه ينقل آهات الحجارة، يكفي أنه يلتمس وجع الأشجار، يكفي أنه يسمع الصراخ بين خيمة وأخرى، يكفي من يسري أنه يُبصر الأبنية التي تحوّلت إلى ركام وهي تستجدي الإله أن يعيد بناءها من جديد، لذلك، نعم، للأسف الحرب دمّرت مشروعي السابق، ولكن للحرب فضل أنها جعلت من يسري الصوت الأبرز لنقل معاناة شعبنا في قطاع غزة تحديدًا.
أنا اليوم بحاجة إلى السلام، أتمنى لو أستيقظ على صوت فيروز، أحتسي فنجان قهوة، وأرقص مع زوجتي قبل أن تغسل وجهها، ونضحك، نضحك من أجل الحياة، لكني كل لحظة أستيقظ رعبًا على صوت إطلاق قذيفة هاون أو قذيفة هاوتزر، أو صوت "درون" زنانة تقتل وتقصف بيتًا، أو طائرة هليكوبتر، أو بارجة تطلق النار على البيوت، هذا ما أستيقظ عليه، وأفكر: كيف سنهرب لو تم إطلاق النار على منطقتنا ونحن الآن أقرب ما نكون إلى الاحتلال الذي يحاصر مدينة في غزة.
لا أعتقد أن هناك مشاريع سابقة بعد اليوم، كل ما يجب أن أكتبه كتبته وأكتبه الآن إلى أن أموت، ولا أظن أنني سأعيش طويلًا في بلد يقدّس الموت ويموت فيه كل يوم المئات دون أن يسمع أحد صراخهم أو يُبصر آلامهم، مشاريعي اليوم مُلخّصة في نقل هذه العذابات، كي تظل الصرخات لعنة تلاحق كل الذين صمتوا عن هذه الإبادة ولم يتحركوا، لا توجد مشاريع سابقة بعد اليوم، فالحرب والإبادة وما سيتلوهما هي المشاريع، مشاريع ذلك الزمن المفقود الذي سنظل نبحث عنه حتى نلقى الله.
كتبت "حياة مغمسة بالدم" وترجمت إلى أكثر من لغة، تحدثت فيها كيف تحولتَ من كاتب إلى لص خرجت في الأزقة مع بعض الأصدقاء الذين كانوا يحترفون السرقة، أخبرتهم أنني لا أجد طعامًا لي ولأبنائي، فقالوا "تعالَ معنا، ربنا يرزقنا ويرزقك" فذهبنا خلف جنود العدو الذين كانوا يتربصون بكل شيء من أجل أن نحصل على بعض الطحين أو بعض المعلبات من التونة أو الفول أو الحمص، لم نكن نجد شيئًا نأكله.
نعم، هزلت كما ترى وخسرت من وزني أكثر من 23 كيلوغرامًا، وبتّ شاحب الوجه أبحث عن الحطب وأبحث عن طعام الحيوانات لكي آكله أنا وأطفالي، أخبرني يا صديقي، كيف لي أن أنسى هذا؟ كيف لي بعد ذلك أن أكتب عن الحب والجمال؟ كيف لي أن أنسى أمير بدوية، الطفل الذي كان يلعب بدراجته الهوائية في الشارع، فأُطلقت قذيفة مدفعية فطارت شظية صغيرة فأصابته في الرأس ومات، ليلتحق بأبيه الذي استشهد قبله بأسبوعين، أخبرني كيف أتحدث عن أي شيء، وأنا الآن لا أبصر غير الركام ولا أسمع غير صراخ وأنّات الجرحى.
صديقي، الحرب دائمًا تصقل الإنسان وتصنع منه شخصًا متمردًا وقويًا، ولأنني من عائلة متعارف عليها هنا، كانت صمام المقاومة الفلسطينية منذ بدايات الثورة، وهي عائلة الغول، كبرتُ وأنا أسمع الكثير من الحديث عن بطولة عمي الذي أُبعد إلى سوريا وكان أحد خبراء المتفجرات، وعمي الآخر الذي سُجن في سجون الاحتلال لفترة طويلة وكان قائد السجناء الفلسطينيين، ووصلتني بطولات خالي الذي طورد كثيرًا ثم هاجر إلى سوريا لاحقًا ثم إلى بلغاريا.
وسمعتُ ورأيتُ بطولات أبي قبل أن يتم اعتقاله، وعن استشهاد أبناء عمومتي، ونحن اليوم لدينا أكثر من 270 شهيدًا في عائلة الغول، ولذلك نشأت منذ نعومة أظفاري في عائلة تؤمن بالمقاومة كمنهاج حياة، ولذلك بالفعل اكتشفت أن جيناتي تنتمي إلى هذه العائلة التي خرج من رحمها عدنان الغول، الذي تم تسمية بندقية الغول نسبةً إليه، وهو أحد أبناء عمومتي، هو يسري شأنه شأن أي فرد من أحرار هذا الوطن.
نعم، نحن لدينا مشكلة مع الجماعات الدينية، ليس فقط في فلسطين، بل في كل مكان في هذا العالم، وليس فقط مع المسلمين، وإنما مع جميع الأديان، دائمًا الجماعات المتشددة تنظر إلى الحياة من منظور أن هذا مسلم وهذا كافر وهذا مسيحي وهذا يجب قتله، المقاومة ليست نوعًا واحدًا، يمكنك أن تقاوم بالقلم وبالريشة وبالسيناريو وبالمسرحية وبالدبلوماسية، ويمكنك أن تقاوم بالتعليم، ويمكن أن تقاوم بالصمود. ولذلك، المقاومة لا تأخذ شكلاً واحدًا.
ثانيًا، المقاومة ليست حكرًا على أحد، ولذلك ليست حكرًا على تنظيم دون غيره، المقاومة ليس لها لون معين أو دين معين، تشي غيفارا كان مقاوِمًا، وعليّ بن أبي طالب كان مقاوِمًا، والحسين كان مقاوِمًا، وغزة كانت مقاومة بمتدينيها وملحديها، بمسيحييها ومسلميها.
ولذلك نعم، يجب إعادة النظر في المقاومة المسلحة، لأن علينا طرح السؤال التالي: هل المقاومة المسلحة هي غاية أم وسيلة؟ وطالما أنها وسيلة، يجب إعادة النظر في هذه الوسيلة: هل حققت جدوى الفكرة أم أنها باتت عبئًا على أصحابها؟ وطالما باتت كذلك، يجب أن نبحث عن وسائل أخرى من أجل تحقيق الهدف وتحرير كامل تراب فلسطين، كما جرى مع أيرلندا فيما يتعلق بقضيتها مع بريطانيا.
سامع القصف يا صديقي؟ جنبي، الله يستر، يا رب نعيش ونشوف بلادنا وهي محررة، آخ يا قلبي يا صديقي.
أنا أحتاج، صديقي، إلى الخروج من غزة وأحتاج أن تتوقف الحرب. دائمًا أقول لزوجتي: يا رب توقف الحرب، يا رب ونسافر إلى أوروبا. اشتقت إلى السفر. سافرت سابقًا كثيرًا يا صديقي، ولكن للأسف نتيجة مقالاتي تم منعي من السفر سواء من الجانب الإسرائيلي أو من الجانب المصري منذ أكثر من 10 سنوات، لأنني دائمًا كنت ناقمًا وما زلت وسأظل على الأنظمة الشمولية، فلا يمكن للمثقف أن يكون أداة بيد السلطة.
المثقف هو ناظم لشعبه، ولذلك يجب أن يكون ناقدًا وواعيًا وواعدًا لتوجيه الأمة نحو الخير ونحو الرشاد ونحو الوعي ونحو النهضة والبناء، ولا يكون تبعًا بيد نظام سياسي أو أي جماعة. ولذلك تجدني فيما أكتب أتفق مع هذه الجماعة اليوم وأختلف معها غدًا، وأتفق مع هذا النظام اليوم وأختلف عليه غدًا، لا يربطني بأحد أي شيء، ولا أقتات من قلمي من هؤلاء.
أنا أدعي أن كلمة يسري الغول ليست ذات لون واحد، وهذا ما يجعل الأصدقاء أكثر قربًا مني من الكُتّاب والأدباء الصغار الذين صنعت معهم مبادرات ثقافية على مستوى كبير، وللأسف كثير منهم استشهد اليوم مثل حبيبي نور حجاج وهبة أبو ندى وكثير من الشبان لا أذكر أسماءهم، رحمهم الله.
ولذلك يا صديقي أظن أننا اليوم بحاجة إلى أن نخرج من غزة لنعيد ترتيب بيتنا. لقد بتنا متوحشين بسبب الجوع. الصراع من أجل البقاء جعل الناس تستوحش على بعضها الآخر. نحن بحاجة إلى وقف الحرب، نحن بحاجة إلى وقف التجويع وإدخال الطعام، نحن بحاجة إلى فتح المعابر، نحن بحاجة إلى بناء المدارس والمعاهد، ونحن بحاجة إلى بناء المطاعم، وبحاجة إلى السفر لرؤية العالم واكتشاف الثقافات والحضارات.
ورغم كل ما أقوله يا صديقي، أنا مؤمن أن هذا لن يحدث، وأن غزة على أعتاب تحرير فلسطين، وغزة ستبقى على ما هي عليه ثم سيدخلها أهلها محررين. فكما هرب أجدادنا وتركوا الطعام ساخنًا في بيوتهم من أجل أن يحضر اليهود ليسكنوا بيوت أجدادي، ستأتي لحظة فارقة ونذهب إلى بيوتنا في الداخل المحتل ويهرب اليهود وسيتركون الطعام ساخنًا كي نأكله، لأن التاريخ لا ينسى والرمل لا ينسى يا صديقي. وإننا أصحاب قضية حقّة، وإن قوة إسرائيل في ضعف العرب.
إسرائيل دولة ضعيفة جدًا تتكئ على عجز الأنظمة العربية وعلى الإمبريالية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وأمريكا لن تدوم، ونظام القطب الواحد سينهار، هذا النظام في أي لحظة. وهذا الطوق من الأنظمة الشمولية قد يأتي مجنون ويشعلها ثورة فلا يبقى أحد نصيرًا لهذا الاحتلال، والعقل العربي لا يغفر، وعقلية الثائر ستنتقم من هذا الاحتلال عاجلًا أم آجلًا، وسنذهب لتحرير فلسطين كما أسلفت يا صديقي.
الرسالة التي أريد أن أرسلها إلى العالم والتاريخ هي أن الفلسطيني يعيش حالة من الخذلان غير المسبوق في الوقت الذي يحاصر فيه أخوه العربي غزة، وفي الوقت الذي تصدأ فيه أسلحة الجيوش العربية في مخازنها، وفي الوقت الذي تحصل فيه إسرائيل على الوقود من الخليج العربي، وفي الوقت الذي تذهل فيه إسرائيل ودولة الاحتلال للسياحة في دول الطوق، يُمنع الفلسطيني من الحصول على أبسط مقومات الحياة، يموت وحيدًا ولا يتحرك أي نظام عربي.
بل يتم قمع مظاهرات ليموت الفلسطيني، ثم تدخل إليه الأكفان. يموت الفلسطيني ولا يجد حتى المشايخ وعلماء الدين، ولا يجد الأدباء والنخب، فلا أحد يتحدث عن فلسطين أو غزة، وبعض النخب التي تحدثت كأنما أُرسلت لها رسائل تهديد. فهل تم بيع القضية الفلسطينية كما بيعت منذ بداية الاحتلال عام 1948 عندم سلمت المقاومة الفلسطينية سلاحًا تالفًا؟ أم ما الذي يجري؟ هل انقلب الوعي العربي وهل تصهين العرب؟ وأين النخبة التي كانت هي ناظم الحركة العربية والثورة العربية؟ هذه هي رسائل وأسئلة الفلسطيني اليوم التي يرسلها إلى العالم، مع تأكيده أن التاريخ لا ينسى.
وكما كتب أحد الجنود الصهاينة على جدار روضة أطفال يهدد الأطفال بالموت ويقول: "الرمل لا ينسى"، مشيرًا إلى 7 أكتوبر، نحن نقول إن الرمل أيضًا لا ينسى، فتراب حيفا ويافا والعفولة والخضيرة لا ينسى أجدادنا الذين قتلوا على أيدي عصابات الصهاينة الأرجون وشريت وغيرهم، الذين دخلوا أراضينا وقتلوا أجدادنا، وأيضًا غدر بهم لأنه لم يتحرك العرب بالشكل المناسب. هذا ما سنوثقه للتاريخ. سنكتب أننا نموت كل يوم محاصرين بلا طعام، ولبلداننا قريبًا جدًا، وأقرب من إسبانيا والنرويج وبلجيكا، وكثير من البلدان الأوروبية، وإيرلندا التي تنتفض من أجل فلسطين بينما يصمت العرب.