في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أصبحت مهنتا الطب والصحافة في السودان الأكثر خطورة، بعد أن امتدت الحرب لتشمل المستشفيات وغرف الأخبار. الأطباء والصحافيون الذين يسعون لإنقاذ الأرواح وتوثيق الحقائق، باتوا في مرمى نيران المتحاربين في ظل غياب القانون.
تكشف الأرقام عن فداحة المأساة: 460 قتيلاً في مستشفى الفاشر، وفق وزارة الصحة السودانية. وسجلت منظمة الصحة العالمية 185 هجوماً على مرافق طبية، كما اختطفت قوات الدعم السريع 6 كوادر طبية، حسب شبكة أطباء السودان. ووثقت نقابة الصحافيين مقتل 32 صحافياً، وتسجيل أكثر من 600 انتهاك، شملت التهديد والاعتقال والملاحقة والتوقيف.
هذه الحرب لا تكتفي بتهديد الحياة، بل تسعى لإسكات الأصوات واستهداف المسعفين والمبلغين.
أعلنت وزارة الصحة السودانية مقتل 460 مريضاً ومرافقاً في "مجزرة بشعة" نفذتها قوات الدعم السريع بمستشفى الولادة السعودي في الفاشر شمال دارفور، واصفة إياها بـ"الأكثر دموية منذ اندلاع الحرب". وأضافت أن 12 من الكوادر الطبية لقوا حتفهم في هجمات متفرقة، بينهم 7 من منظمة إعانة المرضى الكويتية، و5 من الهلال الأحمر السوداني بمدينة بارا.
وأعربت منظمة الصحة العالمية عن "قلقها العميق وصدمتها" إزاء الهجمات، مؤكدة تحققها من 185 اعتداء على مرافق الرعاية الصحية منذ نيسان 2023، مما أسفر عن 1204 وفيات، و416 إصابة بين العاملين والمرضى.
وصرح المدير العام للمنظمة الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، في بيان شديد اللهجة: "يجب أن تتوقف جميع الهجمات على مرافق الرعاية الصحية فوراً ودون قيد أو شرط. المرضى والعاملون الصحيون محميون بموجب القانون الإنساني الدولي، وأي استهداف لهم يُعد انتهاكاً صارخاً لا يمكن تبريره".
في تصعيد جديد، أعلنت شبكة أطباء السودان اختطاف ستة من الكوادر الطبية في الفاشر من قبل قوة تابعة للدعم السريع، بينهم أربعة أطباء وصيدلي وممرض، كانوا يقدمون خدماتهم رغم الحصار. وطالبت الشبكة بفدية مالية قدرها 100 مليون جنيه سوداني (نحو 41 ألف دولار أميركي) لكل طبيب مقابل إطلاق سراحه، وحمّلت قوات الدعم السريع المسؤولية الكاملة عن حياتهم وسلامتهم.
وأضاف البيان أن "استهداف الأطباء جريمة منظمة تهدف إلى تدمير ما تبقى من منظومة الرعاية الصحية في دارفور وترهيب العاملين في المجال الإنساني"، داعياً منظمة الصحة العالمية والمنظمات الحقوقية الدولية إلى التدخل الفوري ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم التي "تُعد انتهاكاً سافراً للقانون الدولي الإنساني".
وأوضحت الدكتورة أديبة إبراهيم السيد، أخصائية الباطنية والأوبئة وعضو فرعية خصوصي أم درمان في اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، أن الحرب أودت بحياة 230 طبيباً منذ اندلاعها في نيسان 2023. وأكدت أن "الكوادر الطبية أصبحت هدفاً مباشراً للقتل والاعتقال والابتزاز، في وقت يواصل فيه الأطباء أداء واجبهم الإنساني في ظروف وصفتها بغير الآدمية".
وصرحت لـ"العربية.نت" بأن "الأرقام المعلنة قد لا تعكس الحجم الحقيقي للخسائر، لأن كثيراً من المستشفيات ما زالت خارج نطاق الاتصال في مناطق القتال، ولا تُعرف أوضاع طواقمها حتى الآن".
بالتوازي مع الكارثة الإنسانية، تتصاعد المخاطر التي تواجه الإعلاميين. فقد كشفت نقابة الصحافيين السودانيين عن مقتل 32 صحافياً منذ اندلاع الحرب، وتوثيق 600 انتهاك تراوحت بين التهديد والاعتقال والمصادرة والتعذيب. وأفادت النقابة في بيانها بأن "البيئة الإعلامية في السودان باتت الأخطر في تاريخه الحديث"، مشيرة إلى أن كثيراً من الصحافيين اضطروا إلى النزوح أو التوقف عن العمل تحت وطأة الخوف والملاحقة.
في أحدث الانتهاكات، أعلنت النقابة في بيان للرأي العام اعتقال الصحافي وعضو النقابة معمر إبراهيم عقب سيطرة قوات الدعم السريع على الفرقة السادسة مشاة بالفاشر، مشيرة إلى انتشار مقطع فيديو يظهره محاطاً بعدد من عناصر القوة المعتقلة له.
وأعربت النقابة عن "قلقها البالغ إزاء توقيف الصحافي معمر إبراهيم"، وحمّلت قوات الدعم السريع "المسؤولية الكاملة عن سلامته"، وطالبت بـ"الإفراج الفوري وغير المشروط عنه". كما حذرت من "الظلام الإعلامي التام" الذي تعيشه الفاشر بعد انقطاع شبكات الاتصال عبر الأقمار الاصطناعية، واصفة ذلك بـ"تطور خطير يهدد سلامة الصحافيين ويقوّض الحق في الوصول إلى المعلومات".
ودعت النقابة المؤسسات والمنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة إلى "التدخل العاجل والفوري لتأمين الحماية للصحافيين العاملين في مناطق القتال المختلفة في السودان".
وقال أحد الصحافيين العاملين في مناطق النزاع لـ"العربية.نت": "نخرج لتغطية الأحداث ولا نعلم إن كنا سنعود. لا خطوط حمراء في الاستهداف، ولا ضمانات للحماية... الخطر يترصّدنا من كل اتجاه".
في هذا السياق، صرح الصحافي السوداني محمد عبدالماجد لـ"العربية.نت" بأن تصاعد الانتهاكات ضد الصحافيين والأطباء "ليس أمراً عرضياً، بل نتيجة طبيعية لوجودهم في قلب الميدان"، موضحاً أن "هؤلاء هم من يعملون مباشرة في مناطق النزاعات والكوارث، وبالتالي يصبحون أهدافاً سهلة ومباشرة للخطر".
أضاف عبدالماجد: "الحروب وميادينها جزء من طبيعة عمل الصحافيين والأطباء، فكما هناك مقاتلون يحملون السلاح ويتقاتلون، لا بد أن يكون هناك أطباء يداوون الجرحى وصحافيون يوثّقون الأحداث. ومن هذا الباب يدفعون أثماناً باهظة، لأن مهنتهم تحتك مباشرة بالخطر".
وأشار عبدالماجد إلى أن ما يجري في السودان "ليس حرباً عادية، بل حرب ضد الإنسانية وضد الحقيقة"، مضيفاً: "رأينا ذلك جلياً في الفاشر شمال دارفور، حيث كان الأطباء والصحافيون أكثر الفئات احتكاكاً بالمجموعات المسلحة الفاقدة للأهلية والرحمة، فتعرضوا للضرب والابتزاز والاعتقال والملاحقة".
وختم قائلاً: "هؤلاء لا يريدون تسليط الضوء على ما يحدث، خاصة في المناطق البعيدة عن أعين المراقبين الدوليين، حيث لا قانون يردع ولا وازع دينيا أو أخلاقيا يحدّ من الانتهاكات".
يرى مراقبون أن تصاعد الهجمات بعد سقوط الفاشر يعكس انتقال الحرب إلى مرحلة "الاستنزاف المجتمعي"، إذ لم تعد المعارك تدور في الجبهات فحسب، بل امتدت إلى مؤسسات الحياة اليومية من مستشفيات ومدارس ووسائل إعلام، مما يجعل المدنيين في قلب الصراع بلا حماية.
قال أحد الأطباء الناجين من الفاشر لـ"العربية.نت": "ما يحدث يفوق الوصف... المستشفيات تحوّلت إلى ساحات حرب، والمرضى يموتون على الأسرة لأننا نعجز عن الوصول إليهم".
يمتد أثر هذه الكارثة إلى عشرات الآلاف من المدنيين الذين يعيشون بلا رعاية طبية أو دواء. تتكدس الجثث في الشوارع وتُغلق المستشفيات أبوابها تحت نيران الحرب، فيما تتراجع إمدادات الغذاء والمياه إلى مستويات خطيرة.
ودعت منظمات دولية، منها الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، إلى تحقيق عاجل في استهداف المدنيين والعاملين الصحيين في السودان، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات. وتزايدت الدعوات لوقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية في إقليم دارفور.
تختصر المأساة السودانية اليوم مشهدين متوازيين: طبيب يُقتل في غرفة الطوارئ، وصحافي يُسكت صوته قبل أن ينقل الصورة. وبين هذين المشهدين، وطنٌ تئن مستشفياته وتخرس منابره.
في بلدٍ كان الأطباء فيه رموز الرحمة، والصحافيون حراس الحقيقة، تحوّلوا اليوم إلى شهودٍ على المأساة وضحاياها في آنٍ واحد.
المصدر:
العربيّة