آخر الأخبار

تحقيق المخطوطات العربية.. بين إحجام العالم وإقدام الجاهل

شارك

شهد القرن المنصرم طبقة عالية من علماء الأمة يعزى إليهم الفضل في بعث كثير من نفائس التراث العربي والإسلامي من المخطوطات وإحيائها وتحقيقها، واستمر عطاء بعضهم إلى أمد غير بعيد، منهم: أحمد أمين الشنقيطي (موريتانيا: ت1913م)، وأحمد محمد شاكر (مصر: ت1958م)، ومحب الدين الخطيب (سوريا: ت1969م)، ومحيي الدين عبد الحميد (مصر: ت1972م)، ومحمد الطاهر بن عاشور (تونس: ت1973م)، ومحمد بن محمد بن تاويت الطنجي (المغرب: ت1974م)، وعبد العزيز الميمني (الهند: ت1978م، )، وأبو الفضل إبراهيم (مصر: ت1981م)، وعبد السلام هارون (مصر: 1988م)، وأحمد راتب النفاخ (سوريا: ت1992م)، ومحمود محمد شاكر (مصر: 1997م)، ومحمود الطناحي (مصر: ت1999م)، وحمد الجاسر (السعودية: ت2000م)، وأحمد محمد الدالي (سوريا: ت2021م)، وعبد الحفيظ السطلي (سوريا: ت2021م)، ومحمد شفيق البيطار (سورية: ت2024م).

وعاصر تلك الجلة من العلماء النبهاء ثلة من الدهماء والأغفال، امتهنوا التحقيق بلا مكنة، وانتحلوا صفات المحققين بلا اقتدار أو دربة، وتزيوا بزيهم ولبسوا عباءاتهم، فمسخوا نفائس النصوص التي تعرضوا لإخراجها وأفسدوها، وأحالوا صباحة متونها إلى قباحة؛ لقلة فهومهم، وانعدام معرفتهم مادتها، فلم يعد عملهم في تلك النصوص سوى النساخة والتنضيد.

إعلان

وربما أوكل بعضهم أمر ذلك إلى غيره من الطباعين والمنضدين، واستغنى بقراءة المنسوخ المنضد بعينه الكليلة، على أن ذلك المنسوخ الذي انتهى إلى الناس لا يجاوز ما فقهه ناسخه بعد مصاولته بلا زاد أو عتاد المخطوط، وأما ما لم يسقط إليه علمه من تلك المتون، أو تقاصر عن قراءته فهمه، فإنه لا شك طارحه ومسقطه، فيحذف بذلك من المخطوط ما يجهل قراءته ومناوشته، ويحرف فيه ما يخال معرفته.

ثم جاء زمان فيه جاهل واثق من نفسه، وعالم ينتابه الشك والريبة في ما يأتي به، فتحول فيه تحقيق المخطوطات من رسالة سامية، نهض بها أئمة العربية الكبار، والعلماء الأكفاء الموسوعيون ذوو الملكات والقدرات، وأصحاب الأهداف والغايات الكبرى في خدمة الأمة، وحياطة تراثها، والعناية بتاريخها، إلى عمل ومهنة زاولها سواد الناس.

فانتقل التحقيق من التحرير والإجادة إلى التحريف والإساءة، وصار مسمى التحقيق فضفاضا لا ضابط علميا له، ثم انتهى أمره إلى الرقن والصف الإلكتروني على أيدي صبيان أهل العلم وحملة حقائبهم، ومساعديهم في تنظيف مكاتبهم وترتيب مكتباتهم، وقضاء بعض حوائجهم؛ فانتهبوا ألفاظهم وعباراتهم وأساليبهم من كتبهم أو ما كان يجري منها على ألسنتهم، ووطنوا ذلك كله في كتب ادعوها وأقوال زعموها، فخلطوا في الموضع نفسه بين المداد والرماد، والغث والسمين، مما يظهر جليا عند استعراض تلك المسروقات في منشوراتهم.

وفي بعض منعطفات الحياة، وتقلب أحوال الناس فيها بين فقر وغنى، تحوج بعض أهل العلم ومن دونهم إلى أصحاب دور النشر، فاتخذوهم أجراء عندهم، يلقون إليهم أرزاقا يسيرة كل شهر لقاء أخذ حقوق سرقة كتبهم لا حقوق طباعتها، وزاد بعض أهل تلك الدور على ذلك عندما يكون أصحاب الكتب من أساتذة الجامعات، بأن حملوهم على حمل كتبهم على ظهورهم إلى طلبتهم في مشهد لا يخلو من هوان وسخرية.

إعلان

ثم حمل أولئك الأساتذة طلبتهم على شراء تلك الكتب غصبا بأثمان ثمينة، بعد أن زينوها في أعينهم في أثناء محاضراتهم، وساقوا لهم من منافعها أنها تبرئ الأكمه المطموس، وتزكي بلا شك خبث النفوس، وتجعل الطالب البليد من أستاذه غير بعيد.

على أنه كان في ما مضى دور نشر ذات غايات شريفة، حملت راية العلم والمعرفة، وسخرت أموالا طائلة في نشر الثقافة، وأسهمت في دعم العلماء ومساعدتهم، والأخذ بأيديهم لا بأعناقهم أو أرجلهم كما اليوم.

فمن تلك المكتبات (مكتبة الخانجي الحلبي)، لصاحبها محمد أمين بن عبد العزيز الخانجي (ت1939م)، وكان عالما بالمخطوطات باحثا عن نوادرها وأماكن وجودها، ومما يحمد لتلك الدار، أن صاحبها ساعد أحمد أمين الشنقيطي (موريتانيا: ت1913م)، فأعد له سكنا خاصا في مبنى مطبعته، وهيأ له وسائل التأليف والتحقيق، وطبع جميع ما أنتجه من الأعمال الفكرية والأدبية واللغوية، فكان للدار حظ في ما انتهى إليه أمر الشنقيطي؛ إذ ذاع صيته في الآفاق، وبلغت كتبه أقاصي الأرض، وانتشر بين الناس علمه، وفشا في الأمصار ذكره.

ويمكن في عجالة توصيف من يعملون اليوم في إخراج النصوص إلى مستويات عدة، منها:


* المستطيع بنفسه، وهو الذي أصاب طرفا من علم، وكان ذا اختصاص دقيق في فرع من فروع المعرفة، وله إلمام بعلوم الآلة، ومثل هذا يكون قادرا على إخراج التراث في حدود معرفته.
* المستطيع بنفسه المستعين بغيره، وهو أوفر الناس حظا؛ لأنه يجمع فوق الذي معه تجارب غيره، فيختصر بذلك على نفسه الوقت والجهد، وينتهبهما على سواه.
* المستطيع بغيره، وهو الذي يكون أمره هينا ولكنه على صلة بالمستطيع بنفسه، فيستفيد منه على أنحاء مختلفة، كالتوجيه، والاحتذاء، وحل المشكلات، واقتباس العبارات، والقياس على أعماله، وغير ذلك.
* ذو الموسوعية، وأرباب هذا المستوى هم الرواد الأوائل من المحققين الذي كانوا محيطين بعلوم وفنون شتى، كالميمني ومحمود شاكر وحمد الجاسر، وغيرهم، فكان عليهم وعلى أعمالهم المعول في نشر كثير من علوم العربية.
* المتوارث الصنعة، وقد يكون التوارث في الأسرة الواحدة أو البلد الواحد، وربما تجاوزه إلى أوسع من ذلك، إذا كان المتوارث كبيرا، وما خلفه عظيما، ومثل هذا يكون غالبا في وقت ازدهار المعارف وعموم الرخاء والخير في البلاد والناس.
* المتتلمذ على غيره، ويكون صاحبها ملازما لمن يتتلمذ على يديه، فيكون حظه كحظه قل أو كثر، ثم يكون بعد ذلك واحدا من الأصناف السالفة الذكر.
* التابع مدرسة، يكون أربابها بحسب ما عليه المدرسة، وقد كان مثل هذا في بلاد الشام ومصر والعراق والمغرب، وبعض الدول الإسلامية كالهند في مصر وسوريا وغيرهما، ولا يزال، فثمة مدرسة تمثل المستطيع بنفسه، وأخرى تمثل المستطيع بغيره، لكن جمهورها كبير، فيأخذ بعضهم عن بعض، ويستفيد بعضهم من بعض، فيكون المستوى بينهم متقاربا، كونهم أصحاب مذهب واحد، وكون أدواتهم متشابهة ومتقاربة.
* المعد أطروحة، ومثل هذا الضرب من الأطاريح غالبا ما يكون محفوفا بالخطر وقلة الظفر، لأن الطلبة في أحسن أحوالهم في هذا المستوى من حياتهم، إنما يتعلمون في تراث الأمة، ويناطحون فيه بقرون جماء كبار العلماء، فلا تسلم أعمالهم التي يعدون أطاريحهم فيها من الأذى إلا إذا كان المشرف عالما ومشاركا طالبه في عمله.
* المدعي في التحقيق اختصاصا، ليس ثمة اختصاص اسمه (تحقيق المخطوطات)، إنما ركب بعضهم هذا المركب الصعب، لاشتغاله في إحدى رسالتي الماجستير أو الدكتوراه بتحقيق مخطوط ما، ثم أخذ نفسه بعد ذلك بالفتيا، وخال يده هي العليا، وادعى في التحقيق نسبا وقرابة، ومثل هؤلاء هم أقل الناس حظا؛ لأن التحقيق ليس اختصاصا أو شيئا يقوم به من لم يرزق علما من العلوم أو كان بلا عمل، وإنما هو رسالة عظيمة غايتها إخراج تراث الأمة سليما معافى، كما صنفه أربابه، ثم تسخيره في ما ينفع الناس اليوم، والإفادة منه ومما اشتمل عليه من شتى فنون العلم والمعرفة.
* الفائز بجائزة في التحقيق، جرت عادة منح جوائز في التحقيق في بعض المؤسسات البحثية بالوطن العربي، مثلها مثل جوائز مسابقات الشعر والغناء وغير ذلك، وهذا أمر حسن، أن يذهب بعض مال الأمة إلى ما ينفع الناس، غير أن بعض الذين فازوا ببعض تلك الجوائز، بحق كان ذلك أو بباطل، أصابته لوثة أشد من لوثة أبي حية النميري، فصار يخال نفسه أسطوانة من أساطين الصنعة، ويستدل على ذلك بفوزه بجائزة من إحدى تلك المؤسسات.
* المتعصب له في قطره، لم ترزق بعض الأقطار العربية ما رزقته بقية الأقطار من حيث وجود محققين كبار أو وجود مدرسة في التحقيق، فحمل أهل ذلك القطر الفقير على التعصب لبعض جهلائهم ليضاهوا بهم العلماء في غير قطر، ثم صار لهذا الجاهل أتباع، فاستحال الجهل ثمة مدرسة قائمة الأركان.
* الملقب بكبير المحققين، احتذت بعض المؤسسات في الوطن العربي حذو المؤسسات الغربية، واستعارت منها بعض الألقاب فيها، ولم تستعر معها مدلولها العلمي ومضمونها، نحو مسمى (كبير الخبراء في التحقيق)، على أنك لو نظرت في أعمال هذا الكبير، لوجدت فيها من الكبائر، ما لا يسوغ تلك التسمية. مصدر الصورة لا تزال آلاف مؤلفة من المخطوطات العربية والإسلامية النفيسة والنادرة، لا تجد طريقها إلى التحقيق الجاد والعناية اللائقة بها طبعا ونشرا (شترستوك)

وبرغم قتامة كل ما تقدم فثمة مواهب مفردة لا تزال في الشام والعراق ومصر والمغرب العربي وغيرها من البلدان، بل إن ورثة علم التحقيق اليوم قد يكونون هم الجيل الصاعد في الخليج العربي، حيث الاستقرار والاقتدار، ووجود المكنة الصريحة، والاستطاعة الظاهرة، فهم اليوم من يقتنون نوادر الكتب، ويبذلون المال لتحصيل المظان، في الوقت الذي صار غيرهم، في أصقاع شتى ولأسباب مختلفة، يبذلون العلم لتحصيل المال.

إعلان

ويحسن قبل إنهاء هذا العرض إطلاق دعوة جادة تصان فيها كرامة المحققين عن طريق إنشاء (مركز تحقيق نوادر المخطوطات ونشرها)، في إحدى العواصم العربية ذات الريادة والعناية بكل ما يعين على نهوض هذه الأمة وبعث تراثها وإحيائه، فيكون لهذا المركز مشروعات متميزة في العناية بالتراث العربي وتحقيقه ونشره، وفي ترويج علوم اللغة العربية وآدابها على أيدي البقية الصالحة من ورثة علم التحقيق.

وليس يخفى أنه لا تزال آلاف مؤلفة من المخطوطات العربية والإسلامية النفيسة والنادرة -مما يُسعى إلى طلبه واستجلابه من أصقاع وأمصار شتى، ثم جمعه وحفظه- لا تجد طريقها إلى التحقيق الجاد والعناية اللائقة بها طبعا ونشرا، بل يفتقر كثير منها إلى الفهرسة العلمية التي تمكن الباحثين من العثور عليها ومعرفة ما فيها فحسب.

ولا يزال في كثير من العلوم العربية والإسلامية ثغرات وفراغات من المصادر الأساسية التي اعتمد عليها من سبقنا، ويحتاج إليها علماء هذا العصر في أعمالهم، وفي استكمال الصورة الكاملة لعلومهم التي تخصصوا فيها، وينتظرون أن تخرج محققة في نشرات علمية، تروي ظمأهم، وتنقع صداهم، وتقنع طموحهم. بل إن كثيرا من المنشور في هذه العلوم لا يزال دون ما تستحقه تلك الكتب الأمهات من الخدمة والبحث والتمحيص.

مصدر الصورة صار مسمى التحقيق في العقود الأخيرة مدخلًا للإساءة للتراث، وقد كان في القرن المنصرم ميدانا لعطاء طائفة من كبار علماء الأمة الذين أحيوا نفائس المخطوطات العربية والإسلامية بعلم ودقة وأمانة (شترستوك)

وبرغم أنه قد بذلت جهود كبيرة منذ عرفت الطباعة بالحرف العربي للعناية بالتراث العربي فهرسة وتعريفا وتحقيقا ونشرا، فإنه لا يزال الطريق طويلا، والجادة لاحبة، في كل نواحي العناية بهذا التراث الثري العظيم، وليس أقل هذه النواحي، بل لعله من أخطرها، تعريف الناشئة وشداة الباحثين بهذا التراث، ونقل الخبرات إلى جيل جديد من المتشوقين إلى الاطلاع على تراث أمتهم، الراغبين في الاضطلاع بأمره والنهوض بشأنه، والإسهام في صيانته ونشره، وفي رؤيته في أيدي طالبيه، سهل المأخذ، قريب التناول، يسر الناظر ويصح به الخاطر.

إعلان

وإن العناية بالتراث وفنونه وعلومه لا يمكن أن تؤتي ثمارها المرجوة بجلب المخطوطات من بلد إلى بلد، أو بتغيير أماكن مبيتها وسكناها، حتى لو اجتلبت من أقاصي الأرض، إلا بنشرها محققة مكسوة حللا قشيبة، وأن تخرج من محابسها في بطون الكتب ومخابئها في رفوف المكتبات، ومن دوائر النخب المتخصصة، إلى رحابة المجتمع، وحيوية التداول والتفاعل، خاصة بين الشباب الباحثين والمثقفين، وإلى أدوات العصر البصرية السمعية، وشبكات التواصل والمشاركة، التي صارت في كل يد، ولها إيقاعها وأدواتها العصرية.

وخلاصة الأمر، أن مسمى التحقيق صار مدخلا للإساءة إلى التراث، وقد رأيت ذلك بأم عيني؛ إذ مر بي ذات يوم أحدهم، عندما كنت وكيل وزارة الثقافة لقطاع المخطوطات ودور الكتب في الجمهورية اليمنية، وكان قد نشر كتابا تحت مسمى التحقيق، فأراني إياه وهو به علي مدل، فلما استعرضته وجدته يدل بما على جهله يدل، فلا ضبط فيه إلا للفظ الجلالة، ولا تحشية إلا لترجمة الأنبياء، ولا فهارس إلا للقارات والعواصم، فعلمت وقتها، أن البلاء مستطير، وأن الخروج منه في أمد قريب غير يسير، وأن التراث والتاريخ في مهب الهواء والريح.

ولذا فإني أدعو اليوم البقية الصالحة من العلماء إلى وضع ضوابط لأصول هذا العلم وفروعه، يحملون فيها المؤسسات الرسمية في الدول العربية على ضرورة اعتماد مستوى (الكفاءة في التحقيق)، فلا يصدر كتاب في التحقيق إلا بعد حصوله على شهادة الكفاءة، عله يسلم لنا ما بقي من تراث أمتنا غير محقق، أو تسلم النصوص المحققة التي يسطو عليها اليوم أجراء دور النشر تحت ذريعة نفاد الطبعات القديمة، وخدمها من علماء الأمة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار