تخيّل أن ملايين حبوب اللقاح في الهواء، صادرة من عشرات الأنواع من النباتات في الوقت نفسه، ومع ذلك كل زهرة تعرف بالضبط أي حبوب لقاح تسمح لها بتلقيحها وأيها ترفضه.
هذه القدرة العجيبة كانت واحدة من ألغاز علم النبات، لكن دراسة جديدة نُشرت في مجلة "ساينس" المرموقة قرّبتنا خطوة كبيرة من فهمها.
وبحسب الدراسة، فإن الكثير من النباتات المزهرة طوّرت نظاما اسمه "عدم التوافق الذاتي"، بمعنى أن النبات لا يسمح لحبوب لقاحه هو نفسه، أو حبوب لقاح أقاربه القريبين، بتلقيحه، والهدف من ذلك هو تجنب تلقيح الأقارب وما يسببه من ضعف في النسل وقلة تنوع.
لكن يبقى سؤال آخر مهم: ماذا عن حبوب اللقاح القادمة من أنواع أخرى في العائلة النباتية نفسها؟
هنا يأتي دور فريق بحثي دولي بقيادة البروفيسورة الصينية أليس تشيونغ، المتخصصة في الكيمياء الحيوية وعلم الأحياء الجزيئي، واختاروا عائلة "الكرنبيات" نموذجا للدراسة.
هذه العائلة تضم نباتات نعرفها جميعا، مثل الكرنب والبروكلي والكالي واللفت والكانولا (المستخدمة في إنتاج زيت الطعام)، وغيرها من الخضروات المهمة.
العلماء هنا يهتمون بنوع آخر من أنظمة الرفض اسمه "عدم التوافق بين الأنواع"، أي النظام الذي يمنع حبوب لقاح نوع معيّن من تلقيح نوع آخر داخل العائلة نفسها.
المشكلة أن آلية عمل عدم التوافق بين الأنواع على المستوى الجزيئي كانت حتى وقت قريب صندوقا أسود تقريبا، نعرف أنها موجودة، لكن لا نعرف تفاصيل "اللغة" التي تتواصل بها الأزهار مع حبوب اللقاح الغريبة لتقول لها "أنت مرفوض".
في المقابل، نظام عدم التوافق الذاتي معروف بالتفصيل نسبيا، خاصة في نباتات الكرنبيات. وهنا جاءت فكرة الفريق: ماذا لو كان النبات يستخدم بعض الأدوات نفسها التي يستعملها في رفض حبوب لقاحه هو، لرفض حبوب لقاح أنواع أخرى أيضا؟
الدراسة الجديدة كشفت أن نباتات من عائلة الكرنبيات تستخدم بروتينا مهما اسمه "إس آر كيه"، معروف من قبل بأنه المفتاح الرئيسي في نظام عدم التوافق الذاتي في نباتات الكرنبيات.
يوجد "إس آر كيه" في قمة الميسم (الجزء الذي يستقبل حبوب اللقاح في الزهرة). هذا البروتين يتعرّف على إشارة كيميائية معيّنة على سطح حبوب اللقاح، إشارة أطلق عليها الباحثون اسم "سيبس"، تكون موجودة في حبوب لقاح أنواع أخرى من الكرنبيات التي تريد الزهرة أن ترفضها.
حين يتعرّف "إس آر كيه" على تلك الإشارة، لا يقف الأمر عند هذا الحد، هذه "الصفقة" تستدعي إلى المشهد إنزيما آخر معروفا في عالم النبات هو "فيرونيا"، وهو بروتين كانت البروفيسورة تشيونغ وزميلها الصيني البروفيسور تشياوهونغ دوان يدرسانه منذ سنوات.
التفاعل بين فيرونيا وثنائي "إس آر كيه" والإشارة، يشعل سلسلة كيميائية داخل خلايا الميسم، تُنتج مادة تفاعلية جدا تعمل كحاجز دفاعي، حيث تُوقف إنبات أنبوب اللقاح وتمنعه من التقدم داخل المبيض، وبذلك تُفشل عملية التلقيح قبل أن تبدأ.
إلى جانب حل جزء مهم من لغز كيف تميّز النباتات بين لقاح مقبول وآخر مرفوض، يقترح الباحثون أيضا إستراتيجية تربية جديدة لتجاوز هذه الحواجز في بعض الحالات.
الفكرة أن فهم البروتينات والجزيئات المسؤولة عن الرفض يمكن أن يساعد مربي النباتات على التلاعب بهذه الإشارات (مثل تعديل "إس آر كيه" أو فيرونيا) بحيث تسمح النباتات أحيانا بحبوب لقاح من أقارب أكثر بعدا، مما يفتح الباب أمام تهجينات جديدة في المحاصيل الصليبية المهمة مثل الكرنب والبروكلي.
بهذا، لا تكتفي الدراسة بالكشف عن لغة "القبول والرفض" بين الأزهار وحبوب اللقاح، بل تلمّح أيضا إلى أدوات عملية يمكن أن تستخدمها الزراعة مستقبلا لتطوير محاصيل أكثر تنوّعا وقوة، في عالم يزداد فيه الضغط على الإنتاج الغذائي مع تغيّر المناخ وزيادة عدد السكان. العلم هنا لا يفسّر فقط كيف تحمي النباتات نفسها من "زواج غير مرغوب فيه"، بل يحاول أيضا أن يجعل هذه المعرفة في خدمة غذائنا اليوم وغدا.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة