في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
يمر قطاع غزة حاليا بمجاعة ساحقة وصفت بأنها "الأسوأ" في العالم، لكن الأسوأ من ذلك أنها لا تتوقف، بل تتفاقم بشكل أسّي يوما بعد يوم.
يدفعنا ذلك إلى تأمل آثار المجاعة طويلة الأمد على البشر، والواقع أن دراسة شتاء الجوع الهولندي، وهي فترة خلال الحرب العالمية الثانية التي شهدت انخفاضا شديدا للغذاء في هولندا، كانت من أشهر الدلائل على أن المجاعة لا تنتهي بإطعام الجائعين، بل تترك أثرا قد يمتد أجيالا مستقبلا.
وجد الباحثون في هذا النطاق، أن الأطفال الذين كانوا في بطون أمهاتهم أثناء المجاعة، عانوا من آثار صحية طويلة الأمد، مثل زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري واضطرابات الصحة النفسية في مراحل لاحقة من الحياة.
ويُعتقد أن هذه التغيرات ناتجة عن تعديلات جينية، حصلت للأم وانتقلت للجنين، استجابةً لسوء التغذية أثناء نموه.
ويشير مفهوم "الذاكرة الجينية" إلى إمكانية انتقال التجارب أو السلوكيات أو السمات عبر الأجيال من خلال المادة الوراثية، وبينما يُعتقد تقليديًا أن الذاكرة تجربة فردية مخزنة في الدماغ، اقترح بعض الباحثين أن تجارب خاصة جدا، مثل الجوع الشديد والمرض، قد تترك بصمات بيولوجية تنتقل عبر الأجيال.
نعرف أن الجينات هي ببساطة شفيرة الحياة، توجد في الحمض النووي، وكأنه كتاب يحمل توجيهات لتصنيع كل شيء في جسم الكائن الحي، فتجد هنا مجموعة من الجينات المسؤولة عن لون الشعر، وأخرى مسؤولة عن طول الجسم، ويمتد الأمر وصولا إلى أدق التراكيب الخلوية في أجسامنا، وبقية الكائنات الحية.
وتشير فكرة ذاكرة الجينات إلى أن جيناتنا قد تحمل علامات ضغوط بيئية (مثل المجاعة أو سوء التغذية) تؤثر على صحة الأجيال القادمة أو سلوكها أو وظائفها الفزيولوجية.
ولا تعني الذاكرة الجينية أن الذكريات (مثل ذكريات أحداث معينة) تكون مشفّرة مباشرة في الحمض النووي. بل تشير إلى إمكانية تأثير العوامل البيئية على ما يسميه العلماء بعملية "التعبير الجيني"، وأن هذه التغييرات يمكن أن تنتقل عبر الأجيال. ويتم استكشاف هذا الأمر أساسًا من عملية تُعرف باسم علم التخلق.
ويعرف التعبير الجيني بأنه عملية تترجم فيها المعلومات الموجودة في الجينات إلى بروتينات تؤدي وظائف في الجسم.
ببساطة، يمكن التفكير في الجينات كخطط أو تعليمات موجودة في الحمض النووي، بينما البروتينات هي الأدوات أو الآلات التي تنفذ هذه الخطط.
على سبيل المثال، إذا كان لديك جين مسؤول عن إنتاج الإنزيمات الهاضمة في المعدة، فهذا الجين يُعبِّر عن نفسه عندما تأكل الطعام، فينتج البروتين الخاص بالإنزيمات للمساعدة في الهضم.
في تلك النقطة يتدخل " علم الوراثة فوق الجينية "، ويرصد تغيرات في نشاط الجينات لا تتضمن تعديلات في تسلسل الحمض النووي نفسه، ولكنها تؤثر على كيفية التعبير الجيني.
يمكن أن يحدث هذا من آليات مثل "مثيلة الحمض النووي"، وهي عملية إضافة مجموعة كيميائية تسمى الميثيل إلى الحمض النووي، مما يؤدي إلى تغييرات في كيفية تعبير الجينات دون تغيير تسلسلها، حيث يمكن أن تؤثر المِثْيَلَة في تنشيط أو إيقاف الجينات، مما يؤثر على وظائف الخلايا وتطور الكائنات الحية.
عندما يعاني الكائن الحي من الجوع أو سوء التغذية فترات طويلة، يتكيف جسمه من خلال تغيرات فوق جينية تساعده على التعامل مع الإجهاد.
يمكن أن تشمل هذه التغيرات تغيير المسارات الأيضية، بجعلها مركزة ومختصرة للحفاظ على الطاقة وإعطاء الأولوية للوظائف الأساسية.
كما يمكن أن يؤدي الجوع إلى تغيرات في كيفية التعبير عن بعض الجينات المشاركة في تخزين الدهون، وتنظيم الجوع، أو أيض الجلوكوز، وإذا ساعدت هذه التغيرات الكائن الحي على البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف قاسية، فقد تنتقل إلى الأبناء.
من جانب آخر، يعد الجوع شكلا من أشكال الإجهاد الشديد، ومن ثم قد يؤدي الجوع المزمن إلى تغيرات طويلة الأمد في جينات الاستجابة للإجهاد، مما قد يؤثر على كيفية استجابة الأجيال القادمة للضغوطات البيئية مثل ندرة الغذاء.
كما يمكن أن يؤدي الجوع إلى ضعف الجهاز المناعي، مما قد يُغيّر الجينات المسؤولة عن الاستجابات المناعية، ومن ثم فإذا مر الفرد بهذه التجربة، رغم ضعف جهازه المناعي، فقد تنتقل التكيفات الجينية التي مكّنته من التأقلم إلى أبنائه.
ويجري ذلك على كل شيء، حيث يمكن أن يؤثر الجوع، وخاصةً خلال المراحل المبكرة من الحياة، على نمو الدماغ، بشكل يظهر مستقبلا على المزاج والوظيفة الإدراكية في الأطفال الذين لم يختبروا المجاعة أصلا، ولكنّ آباءهم اختبروها.
يظهر ذلك أيضا في تجارب النماذج الحيوانية، حيث أظهر الباحثون أن التوتر الغذائي يمكن أن يؤدي فعلا إلى وراثة التغيرات الجينية عبر الأجيال.
على سبيل المثال، أظهرت الفئران التي تعرضت لنظام غذائي محدود أثناء الحمل تغيرات سلوكية في ذريتها، مثل زيادة القلق أو تغير سلوكيات التغذية، والتي ارتبطت بتعديلات جينية في جينات معينة. ويبدو أن هذه التغيرات السلوكية قد وُرثت للجيل التالي، على الرغم من أن الأحفاد لم يتعرضوا لنفس القيود الغذائية.
بل ويجري الأمر على الآباء والأمهات أنفسهم كما يفترض فريق من العلماء، أجرى تجارب على الفئران في عام 2017، إذ قام باحثون من جامعة سانت ماري في تكساس بتقييد تناول الطعام لدى الفئران البالغة بشكل كبير في ثلاث مناسبات منفصلة خلال حياتها.
وفي أول فترتين من المجاعة، فقدت الحيوانات 20% من كتلة أجسامها. وفي فترة المجاعة الثالثة، وهي الأطول، فقدت 30%.
وقد وجد الفريق البحثي أن الفئران التي عانت من المجاعة كانت درجة حرارة أجسامها ومستويات سكر الدم لديها أقل مقارنةً بفئران سليمة خضعت لمجموعة التحكم.
ويعني ذلك أن التكيفات الفسيولوجية خلال فترات الجوع أثرت على حالة الفئران بعد ذلك، وكأنها جهزتها للمجاعة القادمة، حيث كان جهدها يحتفظ بالدهون المخزنة للحصول على الطاقة، بشكل أفضل.
وتشير الدراسة، التي أعلن عنها في الاجتماع السنوي للجمعية الفسيولوجية الأميركية في معرض الأحياء التجريبية 2017 في شيكاغو، إلى أن فترات الجوع الشديد السابقة أثرت على الإستراتيجيات التي اتبعتها الفئران في فترات الجوع التالية.
يشير ذلك إلى أن الجوع يتخطى زمن المجاعة، ويترك ندبا تظل مستمرة وذات أثر في حياة الذين عانوا منه، بل وذريتهم المستقبلية.