مرحلة صعبة تمر بها السلطة الفلسطينية جراء أزمة مالية متفاقمة، وتراجع غير مسبوق في الدعم الخارجي، واستمرار احتجاز إسرائيل لأموال الضرائب، إلى جانب انسداد الأفق السياسي وتصاعد إجراءات الاحتلال في الضفة الغربية، ومنها التوسع الاستيطاني، والعمليات العسكرية، وتشديد القيود الاقتصادية.
وتشير تقديرات اقتصادية رسمية إلى تفاقم العجز المالي وتآكل القدرة على الإيفاء بالالتزامات الأساسية، في وقت تعتمد فيه المالية العامة الفلسطينية بشكل رئيس على أموال المقاصة والمساعدات الخارجية، ما يجعلها شديدة الهشاشة أمام أي قرار إسرائيلي أو تغير في المزاج الدولي.
ومع هذا الواقع، يقدم خبراء ومحللون فلسطينيون عدة قراءات للخيارات المتاحة أمام القيادة الفلسطينية، تتقاطع عند توصيف المرحلة بأنها مرحلة "إدارة أزمة طويلة الأمد"، مع اختلاف في تقدير جدوى الذهاب نحو خيارات جذرية، أو الاكتفاء بسياسات التكيف والصمود المرحلي.
وتواجه الحكومة الفلسطينية أزمة مالية حادة، حيث تبلغ مستحقات الموظفين والقطاع الخاص نحو 4.26 مليارات دولار، بينما تواصل إسرائيل احتجاز حوالي 4 مليارات دولار من أموال الضرائب الفلسطينية (المقاصة)، ما يزيد هشاشة المالية العامة ويحد من قدرة الحكومة على الوفاء بالالتزامات الأساسية.
وأموال المقاصة هي ضرائب على السلع المستوردة إلى الجانب الفلسطيني، تجمعها إسرائيل لصالح السلطة الفلسطينية، لكن إسرائيل تستخدمها أداة ضغط سياسي منذ 2019 عبر الاقتطاعات والاحتجاز، ما يعمق الأزمة الاقتصادية ويحد من قدرة الحكومة على التخطيط المالي المستدام.
وبعد بدء حرب الإبادة على غزة، في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شرعت الحكومة الإسرائيلية بتحويل 30 ـ 35 بالمئة فقط من أموال المقاصة، بعد اقتطاع ما تدفعه الحكومة الفلسطينية لقطاع غزة من رواتب وشؤون اجتماعية.
ورغم الأزمة، ساهمت المساعدات الخارجية مثل الدعم السعودي البالغ نحو 90 مليون دولار، في تمكين الحكومة من صرف 60 بالمئة من رواتب الموظفين عن شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، دون الحاجة إلى الاقتراض من البنوك، ما يعكس اعتماد السلطة على الدعم العربي والدولي لتخفيف الضغط المالي.
** "استنزاف شامل"
مدير مركز يبوس للدراسات سليمان بشارات، رأى أن المرحلة الراهنة تتطلب "جرأة سياسية حقيقية في اتخاذ القرار"، محذرا من أن الاستمرار في التعامل مع الواقع الحالي المتدهور سيقود إلى استنزاف كامل للمقدرات الفلسطينية، سياسيا واقتصاديا.
وأضاف بشارات أن القبول بالوضع القائم يكرس الارتباط والارتهان بالسياسات الإسرائيلية، ويحول السلطة الفلسطينية إلى "كيان إداري محدود الصلاحيات، عاجز عن حماية مصالح شعبه أو التأثير في مسار الأحداث".
وأوضح أن أحد السيناريوهات المطروحة يتمثل في "البدء فعليًا في حالة انفكاك عن منظومة الاحتلال الإسرائيلي"، لا سيما على المستوى السياسي، من خلال إعادة النظر في الاتفاقيات والمعاهدات التي تتهرب إسرائيل من تطبيقها، رغم كونها مرجعا قانونيا ناظما للعلاقة بين الطرفين.
ورأى أن عدم استجابة إسرائيل للمطالب السياسية الفلسطينية يجب أن يقابل بموقف فلسطيني واضح وصريح يقوم على تفكيك العلاقة مع إسرائيل، وتحميلها، إلى جانب المجتمع الدولي، المسؤوليات القانونية تجاه توفير متطلبات الحياة اليومية للفلسطينيين، وفق ما ينص عليه القانون الدولي.
وشدد على أهمية تعزيز الحاضنة العربية والإسلامية والإقليمية الداعمة للقضية الفلسطينية، معتبرًا أن هذا الدعم يجب ألا يبقى في الإطار السياسي أو الخطابي، بل ينبغي ترجمته إلى سياسات اقتصادية ملموسة، من خلال إنشاء صندوق دعم اقتصادي واضح يعزز صمود الفلسطينيين وسط انغلاق الموارد.
** "أفق مسدود"
من جانبه، قال الخبير الفلسطيني أحمد أبو الهيجاء إن السلطة الوطنية لا تملك في المرحلة الحالية خيارات حقيقية ذات معنى، وسط انسداد الأفق السياسي والمالي، وضعف القدرة على المناورة.
وأضاف أن السلطة الفلسطينية تتعامل مع الواقع القائم عبر محاولة تجنب أي تصادم مباشر مع إسرائيل أو الإدارة الأمريكية، والاستمرار في التعاطي مع مسار واشنطن حتى اللحظة الأخيرة.
وأوضح أن هذا النهج يقوم على رهانات ضعيفة، أبرزها التعويل على تغيرات مستقبلية، مثل الانتخابات الإسرائيلية المقبلة أو احتمال تخفيف القيود على التحويلات المالية.
واعتبر أبو الهيجاء أن هذه الرهانات "أقرب إلى التمنيات منها إلى التحليل الواقعي المبني على معطيات صلبة".
وتابع: "الإشكالية الأساسية تكمن في أن التفكير بإعادة هيكلة الاقتصاد الفلسطيني جاء متأخرا، إذ لم تُستثمر سنوات الوفرة السابقة في تنويع مصادر الدخل، أو في بناء قطاعات إنتاجية مستقلة نسبيا عن السيطرة الإسرائيلية".
واعتبر أن الاعتماد شبه الكامل على أموال الضرائب والتحويلات الخارجية جعل المالية العامة الفلسطينية شديدة الهشاشة، وغير قادرة على الصمود أمام الأزمات المتكررة.
ولفت إلى أن الواقع المالي الصعب مرشح للاستمرار مدة طويلة، محذرا من "الإفراط في التفاؤل بشأن حدوث انفراج مالي قريب، بما في ذلك في الربع الأول من العام المقبل".
وأشار أبو الهيجاء إلى أن أي تحسن محتمل سيبقى محدودا ومؤقتا، ما لم يحدث تغيير جذري في السياسات الأمريكية بالمنطقة.
** "سياسة التكيف مستمرة"
بدوره، استبعد مدير مركز القدس للدراسات في جامعة القدس أحمد رفيق عوض أن تقدم السلطة الفلسطينية على خطوات "دراماتيكية غير محسوبة"، مثل حل نفسها أو الدخول في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل.
ورجح عوض أن تواصل السلطة الفلسطينية العمل وفق "سياسة التكيف والاحتواء"، عبر إدارة الأزمة على عدة جبهات في آن واحد.
وأضاف أن السلطة الفلسطينية ستواصل الاعتماد على الدعم العربي والإسلامي، إلى جانب الدعم الأوروبي، لضمان الحد الأدنى من الاستقرار المالي والمؤسسي، وسط غياب بدائل واقعية أخرى.
وقال إن القيادة الفلسطينية ستواصل إظهار قدر من المرونة في الاستجابة لمطالب الإصلاح والتطوير، في محاولة للحفاظ على الدعم الدولي، بالتوازي مع انتظار أي تغير محتمل في المشهد السياسي الإسرائيلي، سواء على مستوى الحكومة أو السياسات المتبعة.
ورأى عوض أن ردود فعل السلطة ستبقى ضمن إطار دبلوماسي طويل المدى، يقوم على الاحتواء وبناء العلاقات مع الحلفاء والأصدقاء.
واعتبر أن القيادة الفلسطينية ترى في السلطة الإطار القائم والمتاح لإدارة المرحلة، "ما يجعل خيار القفز في المجهول أو الذهاب نحو الفوضى غير وارد في المرحلة الحالية".
وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس المجتمع الدولي إلى "إلزام إسرائيل بوقف جميع إجراءاتها الأحادية التي تنتهك القانون الدولي، وفي مقدمتها وقف الاستيطان وإرهاب المستوطنين، والاعتداء على المقدسات، وحجز أموال الضرائب الفلسطينية".
وتشهد الضفة الغربية موجة تصعيد إسرائيلية واسعة، أسفرت خلال العامين الماضيين عن مقتل ما لا يقل عن 1104 فلسطينيين وإصابة نحو 11 ألفا، إضافة إلى اعتقال أكثر من 20 ألف شخص بينهم 1600 طفل.
وبدعم أمريكي خلّفت الإبادة الإسرائيلية في غزة على مدى عامين، منذ 8 أكتوبر 2023، أكثر من 71 ألف قتيل و171 أف جريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، ودمارا هائلا مع تكلفة إعادة إعمار قدرتها الأمم المتحدة بنحو 70 مليار دولار.
المصدر:
القدس