في خيمة مهترئة نصبت فوق أنقاض منزل مدمر، وبين أكوام الركام في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تخوض الفتاة الفلسطينية نغم مشمش معركة يومية للبقاء، بعدما وجدت نفسها، في سن السابعة عشرة، مسؤولة عن رعاية خمسة أشقاء إثر فقدان والديها خلال حرب الإبادة الإسرائيلية.
اضطرت نغم، التي لم تكمل بعد سنوات مراهقتها، إلى تقمص دوري الأب والأم معا، منذ أن استهدفت غارة إسرائيلية منزل العائلة في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، لتقلب حياتها رأسا على عقب، وتدفعها إلى مواجهة مسؤوليات تفوق عمرها، في واقع إنساني بالغ القسوة.
وبدعم أمريكي، بدأ الاحتلال الإسرائيلي في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 حرب إبادة جماعية على قطاع غزة استمرت عامين، وأسفرت عن استشهاد أكثر من 71 ألف فلسطيني، وإصابة ما يزيد على 171 ألفا، إلى جانب تدمير نحو 90 بالمئة من البنى التحتية المدنية، بتكلفة إعمار قدرتها الأمم المتحدة بنحو 70 مليار دولار.
تستعيد نغم تفاصيل الليلة التي غيّرت مصيرها إلى الأبد، قائلة: “كنا نائمين كالمعتاد، وبعد الساعة الحادية عشرة ليلا استهدف بيتنا والبيت المجاور. استيقظت تحت الركام، وكنت أصرخ طلبا للنجدة، ثم أُخرجت أنا وأخي محمد”.
وتوضح أن شقيقها محمد دخل في غيبوبة استمرت ثلاثة أشهر نتيجة إصابته، فيما فقدت والديها، إلى جانب 24 فردا من أقاربها، بينما نجا بقية أشقائها بأعجوبة. وتشير إلى أنها وشقيقها أصيبا بجروح متفرقة في أنحاء الجسد، ما استدعى بقاءهما داخل المستشفى لنحو ثلاثة أشهر.
بعد الخروج من المستشفى، انتقلت نغم وأشقاؤها إلى مستشفى ميداني أقيم داخل مدرسة، حيث مكثوا قرابة عام ونصف، قبل أن يعودوا إلى موقع منزلهم المدمر، وينصبوا خيمة بسيطة للإقامة فيها.
ومنذ ذلك الحين، تعيش الأسرة الصغيرة ظروفا معيشية قاسية داخل خيمة مهترئة لا تقيهم برد الشتاء ولا حر الصيف، وسط شح الموارد وانعدام أبسط مقومات الحياة.
داخل الخيمة، تبدأ نغم يومها بسلسلة أعمال لا تتوقف، من الطهي والتنظيف، إلى متابعة دراسة أشقائها، والعناية بالشقيق الأصغر الذي لم يتجاوز عمره خمسة أيام حين فقد والديه، ويبلغ اليوم نحو عامين.
تحاول نغم، بكل ما أوتيت من صبر، سد الفراغ العاطفي الذي خلفه غياب الوالدين، مدركة في الوقت ذاته أن أي جهد لن يعوض فقدهما. وبعد أن تطمئن إلى نوم أشقائها، تبدأ مرحلة أخرى من يومها، تخصصها لاستكمال دراستها، على أمل تأمين مستقبل أفضل لهم جميعا.
وتقول: “قبل الحرب كانت أوضاعنا جيدة جدا، كان والدي يعمل، لكن مع اندلاع الحرب تغيرت حياتنا تماما. لم يعد لدينا مصدر دخل، ولا يوجد من يعتني بنا”.
وتوضح أن المؤسسات الإغاثية تقدم مساعدات نقدية بسيطة لأشقائها الصغار مرة كل أربعة أو خمسة أشهر، مؤكدة أنها تحاول ادخار هذه المبالغ وإنفاقها فقط على الاحتياجات الأكثر إلحاحا.
تتحدث نغم عن قسوة العيش داخل الخيمة، لا سيما في فصل الشتاء، حيث تغرق بالمياه مع كل هطول للأمطار. وخلال كانون الأول/ديسمبر الجاري، تعرض قطاع غزة لعدة منخفضات جوية، أدت إلى تطاير وغرق عشرات الآلاف من الخيام، ما فاقم معاناة النازحين وأتلف ما تبقى لديهم من ممتلكات شحيحة.
وخلال الشهر ذاته، توفي أربعة فلسطينيين، بينهم طفلان، بسبب البرد القارس، في ظل انعدام المساكن الآمنة ووسائل التدفئة، وفق معطيات حكومية.
ولا تقل معاناة الصيف قسوة، إذ تقول نغم إن الخيمة تختزن الحرارة الشديدة، ما يجعل الجلوس داخلها شبه مستحيل. وتزداد الظروف سوءا مع غياب الكهرباء والغاز، ما يضطر العائلات، ومن بينها أسرتها، إلى إنجاز أعمال الطهي والغسيل والتنظيف يدويا وبوسائل بدائية.
ومنذ بداية الإبادة، أغلق الاحتلال الإسرائيلي معابر قطاع غزة، ومنع دخول الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء الوحيدة، ما تسبب بانقطاع التيار الكهربائي الكامل عن القطاع، في حين تعرضت بدائل محدودة مثل ألواح الطاقة الشمسية لاستهداف إسرائيلي ممنهج، بحسب مراكز حقوقية.
تقول نغم بحسرة: “قبل الحرب كنت في الخامسة عشرة، والآن أصبحت في السابعة عشرة. لقد حرمنا أنا وأشقائي من الطفولة. نريد أن نعيش حياة كريمة مثل أطفال العالم”.
وبحسب معطيات مركز المعلومات في وزارة الصحة بغزة، فقد نحو 58 ألف طفل فلسطيني أحد والديهم أو كليهما خلال عامي الإبادة، لينضموا إلى جيل جديد من الأيتام، يعيش مأساة مزدوجة من الفقد والخوف، في ظل حصار خانق يمنع دخول الغذاء والدواء وحليب الأطفال.
ورغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس حيز التنفيذ في 10 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، فإن المأساة الإنسانية لم تنته، إذ لم تشهد الظروف المعيشية تحسنا ملموسا، نتيجة تنصل الاحتلال من التزاماته المتعلقة بفتح المعابر وإدخال المساعدات المتفق عليها.
وتعكس قصة نغم مشمش واقع الطفولة المسلوبة في قطاع غزة، حيث يجبر آلاف الأطفال الفلسطينيين على تحمل أعباء الفقد والمسؤولية في سن مبكرة، في ظل واقع إنساني هش خلفته حرب إبادة لم تتوقف آثارها بانتهاء القصف، بل ما زالت تفتك بحياة من نجوا منها.
المصدر:
القدس