أطلقت إسرائيل عملية «غضب الرب» لاغتيال مجموعة من القادة الفلسطينيين في خطوة انتقامية، بعد عملية أولمبياد ميونيخ 1972، ولكن قائمة الاغتيالات لم تتوجه بصورة أساسية للعسكريين والمسؤولين السياسيين عن عملية ميونخ، بل ركزت على قيادات صاحبة دور إعلامي وثقافي ودبلوماسي، وأتى اغتيال شخصيات مثل باسل الكبيسي، وهو أكاديمي عراقي بارز، والجزائري محمد بودية صاحب الاتصالات الواسعة مع حركات المقاومة العالمية، وحتى في فردان ببيروت كان اثنان ممن استهدفتهم عملية الاغتيال، التي قادها إيهود باراك من المنشغلين بالشأن الإعلامي والثقافي في الثورة الفلسطينية.
التأمل في خريطة الاغتيالات الإسرائيلية، التي تمددت في فضاء الكثير من الدول حول العالم، يدفع للتشكيك في مخطط إسرائيلي مبكر لضرب أي صورة مشرقة وعصرية للفلسطينيين، ومحاصرتهم داخل صورة الإرهابي المتطرف الذي يمثل مجتمعا أدنى حضاريا من الأوروبيين والأمريكيين في ترجمة لمقولة الأرض التي بلا شعب.
في مدريد 1991، تفاجأ العالم بظهور طبيب وناشط سياسي واجتماعي متقدم في السن يرأس وفد الفلسطينيين التفاوضي، ويبدو أن كاريزما الدكتور حيدر عبد الشافي، كانت أكثر مما تتحمله إسرائيل، أو تسمح به، فالفلسطينيون يجب أن لا يحصلوا على نسختهم من ديغول أو مانديلا، وما يحدث محرج خاصة أن الحضور الهادئ لعبد الشافي، كان يخرج كاريزما غوغائية لشخص متعنت وصاحب تاريخ عريض من العنف والقسوة، مثل رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت إسحاق شامير.
لم يكن مسموحا للفلسطينيين أن يمتلكوا وجهاً خاصاً في البداية، فالنكبة حدثت بينما الأفكار الاستعمارية حول تخلف الشرق، وأحيانا همجيته ما زالت تعيش في المجتمعات الغربية، وأتت صور النكبة واللجوء بعيدة لا تظهر وجوه الفلسطينيين، وتسحب جزءاً من رصيد إنسانيتهم بذلك، وتخنق فكرة التعاطف في مهدها.
في المقابل ومع صعود النازية يهاجر آلاف المهنيين والأكاديميين اليهود إلى الجامعات الأمريكية، وفي بيئة مسطحة فكرياً بعض الشيء تحت تأثير مباشرة البراغماتية، ومن غير وجود العمق التاريخي للمجتمع في أمريكا، يتحول المهاجرون من الأنتلجنسيا اليهودية، إلى نجوم يستمدون جانباً كبيرا من بريقهم من استثمار مظلومية معاداة السامية، وينخرطون في قضية صاعدة وقتها تتعلق بالأقليات وقلق الهوية، ويدخلون أولا إلى أوساط اليسار فكرياً والديمقراطيين سياسياً، ليتكامل ذلك مع الإعلام والهيمنة الواسعة على الإنتاج الثقافي. الإعلام العربي في بدايته المتخبطة والمتعثرة لم يقدم إلا ما يعقد الموقف، ويعمق الصورة السلبية للعربي، مقابل الإيجابية التي يحظى بها اليهودي، فخطاب التحشيد والتثوير، الذي أطلقه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكان موجهاً للاستهلاك المحلي، تم توظيفه في الاتجاه المعاكس، ليلقي بصورة عصابية تخالطها النزعة غير الواقعية على العرب.
وينسحب ذلك على الفلسطينيين، مع أن عبد الناصر نفسه كان يتخذ خطاباً عقلانياً عند الحديث الهادئ مع الصحافيين الأجانب، ولكن عملية الغربلة تجري ضمن منظومة التصنيع الثقافي والإعلامي الأوسع والأهدأ في الغرب، بحيث أصبح التعاطف مع إسرائيل، بوصفه ندماً إنسانيا وأخلاقيا على الفضيحة التي مثلتها معاداة السامية، صرعة يتهافت المثقفون والمؤثرون في الغرب على تبنيها وتأكيدها، وكأنها من لوازم الإنسان المتحضر.
تنبه الشاعر محمود درويش بطريقته إلى هذه الوضعية غير العادلة، ولكن فعلا مؤثرا لم يتم اتخاذه بصورة مؤسسية، وبقي الفلسطينيون بين الغائبين، أو المقدمين خصيصا في مساحة سوء الفهم، ومع دخول التطرف الإسلامي، أصبحت الصورة محملة بالمزيد من المخاوف لدى الغربيين، فالفلسطينيون ممنوعون من تقديم حصتهم العادلة من الرواية المتاحة، للعالم، ثم أتت الحرب على غزة لتمثل انقلابا جوهريا في حرب التصورات، التي نسجت لتحاصر الفلسطينيين، فالقضية لم تعد فلسطينية بالمعنى الاستقطابي في الصراع، ولكنها أخذت بعداً عالميا، ومن الجامعات الأمريكية والأوروبية انطلقت حملات المناصرة لفلسطين من شباب نشأوا في الغرب، ويشبهون الغربيين في سلوكياتهم وتصرفاتهم، والبنى القيمية التي يحملونها، وكان ذلك محرجا ومدخلا لإثارة الأسئلة الكبرى والمسكوت عنها لدى السياسيين الأمريكيين، خاصة لدى الجمهوريين، الذين بدأوا يلتفون حول مقولة «أمريكا أولاً».
هذه النبرة المختلفة التي صعدت في العامين الأخيرين، استرعت انتباه الناشط اليميني تشارلي كيرك، الذي ستبقى الأسابيع الأخيرة من حياته في خانة الألغاز لوقت طويل، وربما تلحق بألغاز أمريكية أخرى مثل، اغتيال كينيدي واختفاء أوسكار زيتا كوستا، الناشط في حقوق الأمريكيين من أصل لاتيني.
بقي كيرك قريبا من الأوساط الجامعية في نشاطه السياسي، وتوقف عند العبء الأخلاقي الذي تشكله إسرائيل على بلاده، وبحاسته السياسية تبنى المقولات التي يحملها مئات الآلاف من الطلبة في الجامعات الأمريكية، ومع أنه لم يتخذ مواقف صريحة أو بطولية، أو حتى إنسانية في الحد الأدنى، إلى أن صداماً كان يتشكل مع بنيامين نتنياهو واللوبي الذي يناصره في واشنطن ونيويورك ولوس أنجلس، وهي المدن المؤثرة، ولكنها ليست كل النبض الأمريكي، خاصة بين الجمهوريين الذين يتركزون في الولايات ذات الأغلبية البيضاء، التي بدأت قطاعات واسعة منها في رؤية الوجه القبيح لإسرائيل، التي تنزع أصباغ التجميل التي تحمل رماد الهولوكوست.
التحول الكبير يحمله أحد المؤثرين في الأوساط الجمهورية، هو تاكر كارلسون، الذي تصدى بنفاد صبر وعصبية، لاتهامه بمعاداة السامية، التي بقيت رصاصة أخيرة في ذخيرة اللوبي الصهيوني، في مواجهة أسئلة تتوسع على النطاق الشعبوي عند الجمهوريين، وفي الأيام الماضية تواصل كارلسون مع ترامب، لتبدأ معركة داخلية واسعة قبل الانتخابات النصفية في العام المقبل، والتي يمكن للجمهوريين أن يخسروا الكثير من أرضيتهم فيها، على خلفية التوتر والفوضى التي يخلفها ترامب في السياسة الخارجية، والملف الإسرائيلي في مقدمة نقاط الاحتكاك الساخنة في المعسكر الجمهوري.
يمكن أن ترامب المقيد بعلاقات عائلية وتجارية مع النخبة الصهيونية الأمريكية، لن يفعل الكثير المتوقع، أمام الضغوط المتصاعدة في واشنطن والمدن المؤثرة، ولكن ذلك لا ينسحب على من يتحضرون للخلافة، خاصة نائبه جي دي فانس، الذي تحدث بطريقة غير معتادة لدى قيادات الصف الأول الأمريكي، في زيارته الأخيرة لإسرائيل، ويتوقع أن يتخذ مواقف متقدمة في حالة تمكنه من حالة الحذر والتهيب التي يعايشها لتجنب أية أخطاء تعيق مسيرته السياسية، وكارلسون نفسه يدرك ذلك، ويصرح بأنه لن يصبح عبئاً على فانس في المعركة الانتخابية المقبلة.
نتنياهو بوجهه الصفيق الذي يسعى لأن يكسب كل شيء، وأن يوظف كارثة إنسانية كبرى لمصلحته، وبقائه وحماية فساده، سيلحق الضرر بإسرائيل في المدى البعيد، ولكن يبدو أن عملية التجريف التي حدثت مع صعود المستوطنين والمتطرفين في إسرائيل ألحقت الضرر بالموقع الذي سرقته إسرائيل في حرب التصورات والأفكار، في المقابل، كان جيل جديد من الشباب يظهر ليحصل على مواقع لم يكن وارداً أن يحظى بها الفلسطينيون ومناصروهم، جيل قوامه من الطلبة والناشطين الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ومنهم زهران ممداني، وإن يكن محكوماً بالمعادلات الأمريكية الكبرى، يمكن أن يدخل صراعاً جديدا على أرضية مفتوحة بعد عقود من تأميم التصورات والأفكار للرواية الإسرائيلية بصورة شبه حصرية.
المصدر:
القدس