آخر الأخبار

الاستيلاء الصامت: كيف تُعاد هندسة الضفة الغربية المحتلة بالقوة

شارك

كشفت صحيفة نيويورك تايمز، في تحقيق صحفي موسّع نشرته يوم الأحد الماضي، عن صورة قاتمة لما يجري بعيدًا عن الأضواء في الضفة الغربية، حيث تتحول القرى الفلسطينية إلى مسرح يومي لعملية استيلاء ممنهجة على الأرض. التحقيق يوثق كيف أصبحت اعتداءات المستوطنين، المدعومة بتقاعس أو تدخل مباشر من الجيش الإسرائيلي، أداة مركزية لإجبار الفلسطينيين على التخلي عن أراضيهم التاريخية. في قرية المغير شمال شرق رام الله، يروي المزارع السبعيني رزق أبو نعيم كيف باتت أرضه تُقتحم أسبوعيًا بقطعان يقودها مستوطنون مسلحون، يدمرون أشجار الزيتون ويستنزفون مصادر المياه، في محاولة واضحة لدفعه وعائلته إلى الرحيل القسري عن أرض عاشوا عليها أجيالًا متعاقبة.

قصة أبو نعيم، كما يعرضها التحقيق، ليست حادثة معزولة، بل جزء من نمط متكرر يتسارع منذ اندلاع الحرب على غزة في تشرين الأول 2023. فبينما انشغل العالم بمشاهد الدمار في القطاع، كانت الضفة الغربية تشهد تحولات ميدانية عميقة، أعادت رسم خريطتها السياسية والديموغرافية بوتيرة غير مسبوقة. الأرض التي يُفترض أنها نواة الدولة الفلسطينية المستقبلية باتت تتآكل قطعةً بعد أخرى.

ويشير التحقيق إلى أنه على امتداد الضفة، من الخليل إلى جنين، تتكرر الآلية نفسها: بؤرة استيطانية غير مرخصة تظهر فجأة على تلة قريبة من قرية فلسطينية، يعقبها تصاعد في اعتداءات المستوطنين، من تخريب المحاصيل وسرقة المواشي، إلى التهديد المباشر بالسلاح. ثم يتدخل الجيش الإسرائيلي، لا لحماية السكان الأصليين، بل لإصدار أوامر عسكرية تُقيد حركة الفلسطينيين أو تُعلن أراضيهم "مناطق عسكرية مغلقة" أو "أراضي دولة".

بهذه الطريقة، تُدفع القرى الفلسطينية إلى الاختناق البطيء. الطرق تُغلق بحواجز حديدية، الأراضي الزراعية تُعزل خلف الأسلاك، والمزارعون يُمنعون من الوصول إلى حقولهم. في المقابل، تتمدد البؤر الاستيطانية لتتحول إلى مستوطنات كاملة، تُشق لها طرق التفافية وتُبنى المدارس والمساكن. وفق معطيات منظمات إسرائيلية، جرى إنشاء نحو 130 بؤرة جديدة خلال عامي 2024 و2025، وهو رقم يفوق مجموع ما أُقيم خلال العقدين السابقين.

ويشكل العنف العمود الفقري لهذه السياسة، حيث تشير بيانات الأمم المتحدة إلى قفزة غير مسبوقة في هجمات المستوطنين، بمعدل يومي هو الأعلى منذ بدء توثيق هذه الحوادث قبل أكثر من عشرين عامًا. ويتحول موسم قطاف الزيتون، الذي لا يتجاوز بضعة أسابيع سنويًا، إلى فترة رعب للفلاحين الفلسطينيين، حيث تُسجل عشرات الاعتداءات التي تنتهي غالبًا بإبعاد الضحايا لا المعتدين.

ويوثق التحقيق في قرية حوارة جنوب نابلس، اعتداء مستوطنين مسلحين على شقيقين أثناء عملهما في أرضهما، قبل أن يصل الجيش ويمنع الفلسطينيين من العودة إلى الحقول بقرار عسكري مؤقت. وفي سينجل، انتهى احتكاك مشابه بمقتل شاب فلسطيني يحمل الجنسية الأميركية، في حادثة وُصفت رسميًا بأنها "قيد التحقيق"، دون إعلان نتائج تُذكر.

وبحسب التحقيق، فإن سياسة الهدم تُكمل دائرة الإفراغ. فخلال عام واحد فقط، جرى تدمير أكثر من 1500 منشأة فلسطينية في الضفة الغربية، أي ضعف المعدل السنوي في العقد السابق. قرية المعرجات الشرقية في الأغوار تقدم مثالًا صارخًا: هجوم ليلي عنيف نفذه مستوطنون ملثمون، تبعه نزوح جماعي للسكان، ثم هدم تدريجي لما تبقى من البيوت، بينما اكتفى الجيش بالقول إنه لم يرصد "أحداث عنف".

وفي جميع هذه الوقائع، يتجلى اختلال ميزان العدالة. المستوطنون يخضعون للقانون المدني الإسرائيلي ونادرًا ما يُحاسَبون، بينما يخضع الفلسطينيون لقانون عسكري يسمح بالاعتقال دون تهمة، وبمصادرة الأراضي دون مسار قضائي فعلي. السلطة الفلسطينية، المحصورة الصلاحيات، تبدو عاجزة عن حماية سكانها، فيما يرسّخ الاحتلال سيطرته الكاملة على الأرض.

ولا تُخفي الحكومة الإسرائيلية اليمينية توجهاتها. حيث تؤكد تصريحات وزراء بارزين صراحة أن التوسع الاستيطاني يهدف إلى دفن حل الدولتين. ومع استمرار الصمت الدولي، تتزايد مخاوف الفلسطينيين من أن ما يحدث لم يعد قابلًا للتراجع، وأن الضفة الغربية تُدفع نحو واقع دائم من التفكك والعزل.

ما تكشفه الوقائع في الضفة الغربية لا يمكن فصله عن مفهوم الاستعمار الاستيطاني، حيث تُستخدم مجموعات مدنية متطرفة، محمية بقوة عسكرية نظامية، لتحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى. هذا النموذج يسمح للدولة بإنكار المسؤولية المباشرة، رغم أن النتائج الميدانية تخدم مشروعها بوضوح.

كما يتسم الدور الدولي، خصوصًا الغربي، بازدواجية صارخة. فبينما تتكرر التحذيرات من أن الاستيطان يقوّض فرص السلام، يستمر الدعم السياسي والدبلوماسي لإسرائيل دون شروط فعالة. هذا التناقض يحوّل القانون الدولي إلى أداة خطابية بلا أثر عملي.

وبحسب الخبراء، إذا استمرت هذه الديناميات، فإن الضفة الغربية المحتلة تتجه نحو نموذج الكانتونات المعزولة، حيث يعيش الفلسطينيون في جيوب محاصرة بلا سيادة ولا أفق سياسي. عندها، لن يعود السؤال متعلقًا بحل الدولتين، بل بطبيعة نظام دائم من السيطرة وعدم المساواة، وتداعياته الأخلاقية والأمنية على المنطقة والعالم


القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا