في لحظة يتقدم فيها الدمار على كل ما عداه في قطاع غزة، ويترك مئات الآلاف من المواطنين بلا مأوى أو غذاء أو ماء، تخرج خطة أميركية تحت اسم "مشروع شروق الشمس". غير أن هذا الاسم، بقدر ما يوحي بالأمل، وفق خبراء، يخفي خلفه رؤية سياسية مثقلة بالشكوك، وتبدو أقرب إلى إعادة هندسة غزة بما يخدم مصالح خارجية، لا إلى إنقاذ شعب يعيش واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
المفارقة الصارخة أن المشروع يسوق بينما الحرب لم تتوقف، والحصار لم يرفع، والاحتلال لا يزال يفرض وقائعه بالقوة. في هذا السياق، يصبح الحديث عن "مدينة ذكية" و"ريفيرا متوسطية" نوعا من الإنكار السياسي للواقع، ومحاولة لتجميل مشهد الدم والركام بصور أبراج زجاجية ورسوم بيانية ملونة.
أعد المشروع على يد فريق يقوده جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بالتعاون مع المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف.
ويقترح تحويل غزة خلال عشر سنوات إلى مركز تكنولوجي وسياحي بتكلفة تصل إلى 112 مليار دولار، في خطة تقدم باعتبارها "إعمارا"، لكنها تتجاهل السؤال الجوهري، إعمار لصالح من؟
إعمار بلا سياق
يعتمد "شروق الشمس" على عرض تقديمي من 32 صفحة مليئة بصور لمدن مستقبلية لامعة، ويعد بنقل سكان غزة من الخيام إلى الشقق الفاخرة"، في خطاب تسويقي أقرب إلى عروض الاستثمار العقاري منه إلى خطط التعافي الإنساني بعد حرب مدمرة.
لكن هذا الخطاب يتجاهل حقيقة أن أهالي غزة اليوم عاجزون حتى عن إدخال الخيام، وأن عشرات آلاف العائلات تعيش في العراء، فيما تغلق المعابر وتمنع مواد الإغاثة الأساسية من الوصول لأكثر من مليوني نازح.
المحلل السياسي الدكتور سعيد أبو رحمة يرى أن المشروع، بتوقيته وصيغته، أقرب إلى أداة ضغط سياسي منه إلى خطة قابلة للتنفيذ. فطرح إعمار عملاق في ظل استمرار العدوان، يعني عمليا القفز فوق جذور الأزمة، وتحويل الإعمار إلى بديل عن الحل السياسي.
ويؤكد أبو رحمة، أن أخطر ما في المشروع هو تكريسه لفكرة أن حل غزة "اقتصادي–إغاثي"، لا "سياسي–تحرري"، وهو ما يخدم رؤية أميركية–إسرائيلية تسعى إلى فصل الحقوق الوطنية عن الاحتياجات الإنسانية، وتحويل القضية الفلسطينية إلى "ملف إدارة أزمات".
من يملك غزة؟
الخطة، التي تقسم القطاع إلى أربع مراحل تبدأ من رفح وتنتهي بمدينة غزة، تثير تساؤلات حول مصير المواطنين. هل سيكونون شركاء في التخطيط والبناء؟ أم مجرد قوة عمل رخيصة في مدينة تدار من الخارج؟ أم أن التهجير سيقدم كحل "انتقالي" تحت مسميات التطوير؟ يتساءل ابو رحمة.
ويشدد على أن أي إعمار حقيقي لا يمكن أن ينجح دون سيادة فلسطينية كاملة، ورفع الحصار، وإنهاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية. كما لا يمكن أن يتم دون ملكية فلسطينية للعملية برمتها، بعيدا عن الوصاية الدولية أو الاستثمار المشروط سياسيا.
ويتابع، كذلك يغيب عن المشروع أي حديث جدي عن العدالة والمحاسبة، فلا إعمار مستدام دون مساءلة من قاد حرب التدمير، ودون ضمانات تمنع تكرار الكارثة. أما الإعمار الذي يبنى فوق الإفلات من العقاب، فلن يكون سوى استراحة مؤقتة قبل جولة دمار جديدة.
استعمار ناعم بواجهة تكنولوجية
الخبير في الشؤون السياسية هاني المصري يذهب إلى توصيف أكثر حدة، معتبرا أن "شروق الشمس" يمثل شكلا جديدا من الاستعمار، يغلف بالحداثة والتكنولوجيا، بينما يبقي جوهر السيطرة والهيمنة قائما.
ويحذر المصري من أن الخطة تتحدث بإسهاب عن نزع سلاح المقاومة وإعادة تشكيل الحكم في غزة، مقابل صمت شبه كامل عن الانسحاب الإسرائيلي أو إنهاء الاحتلال. بل إن بعض الطروحات، بحسب المصري، تلمح إلى إبقاء مناطق عازلة تحت السيطرة الإسرائيلية، بدعم أميركي واضح.
إلى جانب ذلك، يبرز سؤال التمويل كأحد أكثر الجوانب غموضا. فمن سيدفع فعليا 112 مليار دولار؟ ويشكك المصري في استعداد الولايات المتحدة لتحمل العبء، محذرا من سيناريو تحميل سكان غزة ديونا طويلة الأمد تكبل مستقبلهم بدل أن تحررهم.
في المحصلة، يبدو "مشروع شروق الشمس" من وجهة نظر المصري أقرب إلى حلم استثماري يراد فرضه على أنقاض شعب منهك، لا إلى خطة إنقاذ حقيقية.
ويشدد الخبيران، على أن غزة لا تحتاج إلى أبراج زجاجية قبل وقف القصف، ولا إلى عروض باوربوينت قبل رفع الحصار. ما تحتاجه هو العدالة، والسيادة، والاعتراف بحقوق أهلها. وما عدا ذلك، ليس سوى شروق زائف.
المصدر:
القدس