تتجاوز الإستراتيجية الإسرائيلية في قطاع غزة حدود المواجهة العسكرية المباشرة مع حركة حماس، لتدخل مرحلة أكثر تعقيدًا تقوم على تفكيك البنية الداخلية للمجتمع الفلسطيني، عبر رعاية وتوظيف ميليشيات محلية تعمل كأذرع أمنية وسياسية بالوكالة. هذا ما تكشفه معطيات نشرتها شبكة CNN في 20 كانون الأول، وتُظهر ملامح مشروع إسرائيلي يهدف إلى هندسة واقع ما بعد الحرب على أسس الفوضى المنضبطة، لا الاستقرار.
وفق التقرير، تنشط عدة عصابات ومليشيات فلسطينية مسلحة بدعم مباشر من إسرائيل، مستفيدة من المناطق التي تحتلها شرق ما يُعرف بـ"الخط الأصفر"، وهو خط فصل رسمته إسرائيل بعد وقف إطلاق النار في تشرين الأول، وقسم بموجبه قطاع غزة فعليًا إلى شطرين: شرقي يخضع للاحتلال العسكري المباشر، وغربي لا تزال حماس تسيطر عليه. ومن هذه المناطق شبه الخالية من السكان، تنفذ المليشيات عمليات خاطفة تستهدف عناصر حماس، في محاولة واضحة لإضعاف الحركة من الداخل.
ومن بين أبرز هذه التشكيلات ما يسمى ب "قوة مكافحة الإرهاب" بقيادة حسام الأسطل، التي تنطلق من منطقة تسيطر عليها في خان يونس، إضافة إلى "قوات أبو شباب الشعبية" في جنوب القطاع، و"الجيش الشعبي" بقيادة أشرف منسي في الشمال، و"جيش الدفاع الشعبي" بقيادة رامي حلس في وسط غزة. ويقر قادة هذه الجماعات بوجود تنسيق كامل فيما بينهم، ووحدة الهدف المتمثل في إسقاط حماس، مع تطلع معلن للعب دور محوري في حكم غزة لاحقًا.
هذا التحرك، الذي وصفته CNN بأنه "تمرد داخل تمرد"، يأتي في لحظة شديدة الحساسية، ويبدو مصممًا لإشعال صراع داخلي فلسطيني يخدم إسرائيل عبر نقل كلفة السيطرة من جيش الاحتلال إلى أدوات محلية منزوعة الشرعية. وقد ردت حماس على ذلك بحملة ملاحقة وإعدامات بحق عناصر هذه العصابات بتهمة التعاون مع إسرائيل، في مشاهد عكست خطورة الانزلاق نحو اقتتال داخلي تغذيه أطراف خارجية.
وتبرز في هذا السياق "القوات الشعبية" التي كان يقودها المهرب ياسر أبو شباب، المرتبط سابقًا بتنظيم داعش والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية. وتشير المعلومات إلى أن الاستخبارات الإسرائيلية سلحته ومولته لتنفيذ مهام شملت نهب شاحنات المساعدات الإنسانية، مع تحميل حماس مسؤولية الفوضى، فضلًا عن مشاركته في قتل عشرات من مقاتلي الحركة المحاصرين داخل أنفاق شرق الخط الأصفر. ورغم مقتل أبو شباب مؤخرًا، فإن مجموعته لا تزال تنشط ضمن المنظومة نفسها.
وتعتمد هذه المليشيات على الإغراء المالي لتجنيد المقاتلين، إذ تُدفع رواتب تصل إلى نحو ألف دولار للمقاتل و1500 دولار للضابط، في قطاع يعاني انهيارًا اقتصاديًا غير مسبوق. ويعكس هذا الواقع محاولة استغلال الفقر واليأس لتحويل المال إلى أداة تجنيد سياسي وأمني، في غياب أي بدائل معيشية حقيقية للفلسطينيين.
ولا يترك هذا المستوى من الأجور، في سياق الحصار والانهيار الاقتصادي في غزة، مجالًا للشك بشأن مصدر التمويل، إذ تشير الوقائع إلى أن إسرائيل تقف مباشرة خلف تمويل هذه المليشيات، سواء عبر قنوات استخباراتية أو وسطاء محليين، في إطار تحويل المال إلى أداة حرب لتفكيك المجتمع الفلسطيني من الداخل، وإنتاج قوى محلية مرتبطة ببقائها باستمرار الاحتلال.
ويذهب بعض قادة هذه الجماعات إلى أبعد من الدور الأمني، متحدثين صراحة عن مشاركتهم في "مشروع كبير" لحكم غزة نيابة عن إسرائيل، في اعتراف يكشف الطبيعة الوظيفية لهذه التشكيلات. فالمطلوب ليس فقط ضرب حماس عسكريًا، بل إنتاج بنية حكم بديلة تفتقر إلى الشرعية الشعبية وتعتمد كليًا على الحماية الإسرائيلية.
ويتقاطع هذا الترتيب الأمني مع رؤية اقتصادية–عمرانية مثيرة للجدل، تقوم على إعادة إعمار المناطق الشرقية من غزة، الخاضعة للاحتلال، وتحويلها إلى واجهة ساحلية فاخرة عالية التقنية، في مقابل ترك غرب القطاع في حالة دمار. وقد طرح جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، خطة بقيمة 112 مليار دولار لهذا الغرض، بتمويل أميركي أولي كبير وبشراكة رجال أعمال بارزين.
ويرى خبراء، من بينهم محمد شحادة من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن المليشيات المدعومة من إسرائيل ستُمنح حق الإقامة في هذه المناطق المعاد إعمارها بوصفهم "سكانًا وهميين"، بينما يُمنع السكان الفلسطينيون الأصليون من العودة. ويتم فرض هذا الواقع بالقوة، إذ يطلق الجنود الإسرائيليون النار على كل من يقترب من الخط الأصفر، ما يحول المنطقة إلى فضاء مغلق يخدم أهدافًا أمنية وديمغرافية طويلة الأمد.
هذا المسار يتكامل مع خطاب سياسي إسرائيلي متصاعد يدعو علنًا إلى الاستيطان في غزة. فقد أعلن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير رغبته في بناء مستوطنة لضباط الشرطة على شاطئ القطاع، معتبرًا الاستيطان شرطًا للأمن، وداعيًا إلى تشجيع التهجير وإقرار عقوبة الإعدام، في تعبير صريح عن مشروع إحتلالي يتجاوز كل الخطوط القانونية.
وتكشف هذه السياسة عن انتقال إسرائيل من إدارة الصراع مع الفلسطينيين إلى إدارة التفكك الداخلي، عبر تغذية الانقسامات المسلحة وتحويلها إلى أداة حكم غير مباشر. هذا النهج لا يبني استقرارًا، بل يزرع فوضى مستدامة تضمن استمرار السيطرة دون كلفة احتلال مباشرة.
ثانيًا، يفضح الاعتماد على ميليشيات محلية منزوعة الشرعية فشل إسرائيل في فرض أي بديل سياسي قابل للحياة. فالقوة التي تُشترى بالمال وتُفرض بالسلاح ستبقى معزولة اجتماعيًا، ومرتبطة ببقاء الاحتلال لا بإرادة المجتمع.
ويعتبر ربط الأمن بإعادة إعمار انتقائية واستيطان مقنّع يعيد إنتاج جوهر المشروع الاستعماري بأدوات اقتصادية. فالإعمار هنا ليس حلًا إنسانيًا، بل امتداد للصراع بوسائل أكثر نعومة وأشد خطورة.
المصدر:
القدس