من مطعم بحري إلى بوابة للرحيل في قلب خان يونس، وعلى أطراف شارع المواصي، كان مطعم "فيش فريش" محطة للغزيين للاجتماع وتناول وجباتهم البحرية لنسيان صعوبات الحصار، لكن مع تصاعد الحرب، تحول المكان فجأة في ساعات الليل المتأخرة إلى نقطة انطلاق سرية للهرب من القطاع.
في ساعات الصباح الباكر، يصطف مئات الفلسطينيين بصمت، بينهم بشير القادم من رفح جنوب قطاع غزة، يحمل هاتفه وثيابه فقط، وأمل النجاة لا أكثر، تلقى بشير تعليمات عبر تطبيق "واتس آب" من كيان غامض يدعي تقديم المساعدة، ووعده بخروج آمن من الحرب والدمار الذي اجتاح القطاع، مقابل دفع آلاف الدولارات، دون توقيع أي تعهد بعدم العودة، معتقدا أنه سيعود لاحقا إلى حياته الطبيعية، لكنه لم يكن يعرف أن رحلته جزء من خطة منظمة لإبعاد الفلسطينيين عن ديارهم.
غرفة عمليات التهجير يتضح من التحقيق الاستقصائي الرقمي أن عمليات التهجير هذه لم تكن عفوية، بل تدار من تل أبيب، حيث يجلس العقيد المتقاعد يعاكوف "كوبي" بليتشتاين في مكتب مكيف بوزارة الدفاع، يشرف على ما يسمى رسميا "مديرية الهجرة الطوعية".
أنشئت هذه المديرية لتكون ذراعا لإدارة هذه الرحلات المنظمة، وتنسيق تهجير الفلسطينيين بعيدا عن أي ضغط عسكري مباشر، ضمن خطة يصفها الباحثون بـ"التهجير الناعم"، مستخدمة قنوات شبه رسمية وأسماء لجمعيات ومكاتب مزيفة تتيح للإسرائيليين تنفيذ خطة ديموغرافية تحت غطاء إنساني.
المصيدة الرقمية الرحلة الحقيقية لم تبدأ على الأرض، بل بدأت في الفضاء الرقمي، وإعلان يظهر على هواتف الفلسطينيين باسم "المجد أوروبا"، يوهم الضحايا بأنه مشروع إنساني أوروبي، يقدم فرصا تعليمية وإغاثية للأطفال في غزة.
لكن التدقيق الاستقصائي كشف أن كل التفاصيل كانت مزيفة: الموقع مسجل حديثا في فبراير 2025، أي قبل شهر فقط من تعيين بليتشتاين مديرا للمديرية، كما كشف التحقيق أن العنوان المعلن للمؤسسة في حي الشيخ جراح، لا يقود إلا إلى مقهى ومستشفى، ولا توجد أي مكاتب حقيقية في أوروبا، حتى الصور المستخدمة كانت مولدة بالذكاء الاصطناعي أو مسروقة من مشاريع إنسانية أخرى، وأسماء الموظفين مثل "عدنان" و"مؤيد" كانت وهمية لطمأنة الفلسطينيين.
تومير ليند هو الشخصية الحقيقية الوحيدة بين وجوه كيان "المجد"، لكنه شخصية مراوغة. يظهر اسمه في السجلات التجارية للشركات التي أسسها، لكن أثره الرقمي مصمم بعناية ليبقى صعب التتبع. فهو مسجل كمدير لشركة "تالنت غلوبس" "Talent Globus OÜ" التي تأسست في إستونيا في يوليو/تموز 2024.
وتعرف إستونيا ببرنامج الإقامة الإلكترونية، ما يجعلها بيئة جذابة لرواد الأعمال غير المقيدين بموقع محدد، وأيضا ملاذا لمن يسعون لإضفاء شرعية أوروبية على عمليات تدار من خارج البلاد.
السجل التجاري للشركة يكشف أنها شركة صغيرة برأس مال مدفوع لا يتجاوز 301 يورو، بدون موظفين فعليين أو مقر رئيسي سوى عنوان وكيل التسجيل، ووصف غامض يشير إلى أنها تقدم "أنشطة خدمات شخصية أخرى". ومع ذلك، يعد هذا الكيان الصغير العمود الفقري لتنسيق استئجار الطائرات وتنظيم لوجستيات دولية معقدة تشمل عدة حكومات، بهدف تنفيذ عمليات تهجير الفلسطينيين.
تمت العملية عبر سلسلة معقدة من التنقلات، في معبر كرم أبو سالم، جرد الجنود الفلسطينيين من كل شيء: الحقائب، الذكريات، وحتى هوياتهم، مستبدلين أسماءهم بأساور ورقية كأنهم بضائع.
الرحلات الأولى بدأت مع 57 فلسطينيا، نقلوا عبر حافلات إلى مطار "رامون"، ثم إلى بودابست ونيروبي وجوهانسبرغ، واستخدمت شركات طيران مثل "Fly Lili" و"FlyYo" و"Global Aviation"، والتي بدت تجارية لكنها كانت جزءا من شبكة لوجستية لتسهيل التهجير.
وفي حادثة كاشفة، احتجز ركاب لساعات داخل طائرة في مطار جوهانسبرغ دون تنسيق مسبق، ما دفع الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا للقول: "يبدو كما لو دفعوا دفعا للخروج من غزة"، معلنا فتح تحقيق عاجل.
بين كل الوجوه المزيفة، برز اسم "تومير جانار ليند"، إسرائيلي-إستوني، مؤسس شركة "Talent Globus"، وهي واجهة لتنسيق النقل الدولي وجمع الأموال عبر العملات المشفرة دون أثر قانوني. كما برز اسم "مؤيد صيدم"، وهو مواطن غزاوي يعمل كمنسق للعمليات من إندونيسيا، يدير مجموعات "واتس آب" لتحديد نقاط التجمع وآليات الدفع.
دفع الفلسطينيون ما بين 2000 و 6000 دولار لكل شخص، غالبا من مدخرات العمر أو بيع أراضيهم، لتذهب هذه الأموال ليس لمنظمات إنسانية، بل لشبكة مرتبطة بالاحتلال، تدار بأوامر استخباراتية.
عبر الصحراء ومحو آثار العبور من معبر كرم أبو سالم، تبدأ الحافلات رحلتها عبر صحراء النقب، ترافقها مركبات عسكرية، في مشهد لم يشهده الفلسطينيون منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والأراضي التي يمرون بها قاحلة، تحيط بها أسوار ومراقبة دائمة، لتعكس مدى عمق التهجير الذي طالهم، قبل أن يصلوا إلى مطار "رامون" الدولي قرب إيلات.
في المطار، يعزل القادمون عن السياح أو الإسرائيليين العاديين، ويتم التعامل معهم عبر قنوات خاصة، وجوازات سفرهم لا تختم، ما يمحو أي أثر لعبورهم الأراضي الإسرائيلية ويتيح للحكومة لاحقا الإنكار الرسمي لمسؤوليتها عن ترحيلهم.
النقل يتم عبر طائرات مستأجرة، مثل "FlyYo" الرومانية و"Global Aviation" الجنوب أفريقية، حيث يصعد الركاب غالبا دون معرفة الوجهة النهائية، والرحلات غالبا تتوقف أولا في نيروبي بكينيا، ثم تستكمل إلى دول أخرى، لتظهر وكأن الفلسطينيين يغادرون من هناك مباشرة، وليس من قطاع غزة أو الأراضي المحتلة.
في حادثة منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2025، وصلت طائرة تحمل 153 فلسطينيا إلى جوهانسبرغ دون أي مستندات داعمة مثل تأشيرات أو حجوزات فندقية، لتصبح ساعات الانتظار على المدرج اختبارا جديدا لمعاناتهم، قبل تدخل منظمة محلية لضمان سلامتهم وتأمين احتياجاتهم.
هذه العملية لم تكن مجرد تهجير، بل نشاط اقتصادي هائل، فكل راكب يدفع آلاف الدولارات، ما يجعل كل رحلة مصدرا كبيرا للإيرادات، تحول غالبا إلى حسابات شركات وهمية في دول أخرى، مستنزفة بذلك ما تبقى من أصول الفلسطينيين.
يمكن مقارنة ذلك بالنكبة في 1948، لكن الفارق اليوم أن العملية مموهة، مخصخصة، وتدار بطريقة تجعل الضحايا يمولونها بأنفسهم، بينما تستكمل سياسة تهجير تدريجي وفق خطط قادة إسرائيليين، لضمان تقليص عدد السكان بشكل مستمر، تحت مسمى "الخروج الطوعي".
المصدر:
القدس