في تقاطع على أطراف المواصي في خان يونس، يعرفه أهل المنطقة باسم "فيش فريش" Fish Fresh، كانت العائلات تأتي إلى هذا المطعم المطل على البحر في ساعات الغداء والعشاء لتنسى الحصار الخانق ولو لساعات. لكن صارت العائلات تلتقي هناك في الثالثة صباحا، لا لتناول سمك غزة اللذيذ، لكن للخروج من القطاع، بعد أن دُمر المطعم، وتحول إلى محطة سفر سرية.
في الثالثة صباحا من أحد أيام الشتاء القارس كان عشرات الفلسطينيين ينتظرون، وبينهم كان بشير، القادم من رفح، والذي لم يعد يملك من حياته سوى الثياب التي يرتديها وهاتفه الذي يحمله. كان بشير، مثل غيره، قد تلقى تعليمات عبر تطبيق واتس آب جاءته من كيان يطلق على نفسه اسم "المجد أوروبا". وعد هذا الكيان بتحقيق ما عجزت عن توفيره وكالات الإغاثة الدولية، وحكومات دول الطوق، وقرارات الأمم المتحدة، وتدخلات الوسطاء، وعد بإيجاد طريق للخروج من جحيم الحرب.
لم تبد تلك محاولة إسرائيلية للتهجير، فبشير بالفعل يريد النجاة من مآسي الحرب، وقد أخبروه أن لا أحد سيجبره على ألا يعود، فلم يوقع تعهدا بالرحيل، وهو ينتظر فقط أن يبني حياته في الخارج ليعود إلى غزة من جديد. وفي سبيل ذلك فقد دفع مثل غيره أكثر من 4 آلاف دولار لمقعده في الحافلة والطائرة. ومع صعوده إلى الحافلة التي ستقله إلى معبر كرم أبو سالم، مخلفا وراءه الأطلال التي دمرها الاحتلال، لم يكن يدري أنه يُخدع، وأن رحلته تلك هي مجرد صورة أخرى لخطة النكبة الجديدة التي تريدها إسرائيل بلا عودة.
هذا ما كشفه التحقيق الاستقصائي الرقمي الذي يحمل عنوان "من يقف وراء التهجير الناعم للغزيين؟" حيث تتبع فريقها عمليات تهجير سرية ومنظمة لسكان قطاع غزة شملت حتى الآن المئات منهم نحو 3 دول في أفريقيا وآسيا.
ويكشف التحقيق الاستقصائي، الذي يستند إلى مصادر حصرية ومعلومات موثقة وتقارير إعلامية دولية وإسرائيلية، شبكة مُعقّدة ومُنظمة تقف وراء عمليات نقل مئات الفلسطينيين من قطاع غزة إلى هذه الدول، تورطت فيها جمعية "المجد"، وما يُسمى بمكتب "الهجرة الطوعية" الإسرائيلي الذي أُنشئ حديثا.
"الصهيوني الطيب" في وزارة الدفاع
في يوم من أيام مايو/أيار 2025، ومن مكتب مكيف في أحد الطوابق العلوية بمقر وزارة الدفاع الإسرائيلية (الكرياه) في تل أبيب، يجلس العقيد المتقاعد يعاكوف بليتشتاين، يتابع باهتمام صورا أمامه تُظهر أطفالا مع عائلاتهم يتكدسون في حافلة تجتاز حدود قطاع غزة. بدا الأطفال سعداء في الصور، فلأول مرة منذ 19 شهرا لا يسمعون صوت الزنانات فوق رؤوسهم ولا يخشون من صاروخ إسرائيلي مفاجئ من شأنه أن يحولهم إلى رقم ضمن الضحايا.
ففي الوقت الذي كانت فيه كل مكاتب وزارة الدفاع تدير وتشرف على عمليات عسكرية مدمرة ضمن حرب الإبادة الإسرائيلية للتعامل مع المعضلة الأمنية التي تشكلها المقاومة الفلسطينية لإسرائيل، كان بليتشتاين (المعروف باسم كوبي) يشرف على حرب من نوع آخر، يسعى فيها لحل المعضلة الديمغرافية التي يشكلها الفلسطينيون جميعا لإسرائيل!
قبل ذلك اليوم بأقل من شهرين، وفي نهاية آذار/مارس، كان وزير الدفاع الإسرائيلي قد عين بليتشتاين مسؤولا عن "مديرية الهجرة الطوعية"، لتنسيق تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة. أراد الإسرائيليون أن يبدو مكتب بليتشتاين هو المنفذ الوحيد وسط كل النيران التي حاصروا بها الفلسطينيين في غزة.
يبتسم كوبي بليتشتاين وهو يراجع الصور وأسماء المهجرين، فالعملية تسير بدقة لوجستية مذهلة. ففي حين فشلت كل وحدات الجيش في إجبار الفلسطينيين على الهجرة في نكبة جديدة، حوّل مكتب بليتشتاين التهجير القسري إلى خدمة مدفوعة الأجر، يدفع فيها الفلسطيني الضحية ثمن ترحيله، ويشكر الجلاد على فتح البوابة.
وبينما كان بليتشتاين ينظر إلى الأفق حيث تلمع أبراج عزريلي التي تبدو مكتملة ونظيفة وخالية من الدماء، كان يشعر برضا حقيقي. فهو لا يرى نفسه مجرما بل مهندسا يعيد تشكيل الواقع الفلسطيني على الصورة التي يريدها اليمين الإسرائيلي، يستخدم اليأس الذي زرعه الاحتلال عبر أعوام طويلة من العسف والخسف لدفع الآلاف نحو الخيار الوحيد: الرحيل بلا عودة.
في نفس الوقت، وعلى بعد أقل من 70 كيلومترا، كان الجنود الإسرائيليون في معبر كرم أبو سالم على حدود قطاع غزة قد جردوا أكثر من 50 فلسطينيا من كل شيء. حقائبهم وذكرياتهم وحتى أسماؤهم التي استبدلت بأساور ورقية ملونة حول معاصمهم تسمهم كما توسم البضائع. وبعد عدة ساعات، ورغم الإرهاق الشديد، والإحساس بالإذلال الذي لم يخفت لثانية واحدة، شعر الركاب بالارتياح بمجرد أن لاحت أضواء مطار رامون الذي سيطيرون منه إلى أوروبا. لا يعرف هؤلاء مصيرهم بعد، لكنهم يعرفون أنهم دفعوا ثمنه مقدما من دمهم وأموالهم.
كان هؤلاء الفلسطينيون هم التجربة الأولى. فقبل ساعات فقط، كانوا قد تلقوا رسالة عبر تطبيق واتساب تُبلغهم بمكان تجمع سرّي داخل القطاع عشية السفر. لبّى 57 فلسطينيا النداء وتوجهوا بالحافلات إلى معبر كرم أبو سالم حيث خضعوا لتفتيش أمني، ثم إلى مطار رامون، ليركبوا طائرة مستأجرة من شركة طيران رومانية تدعى "فلاي ليلي" (Fly Lili). أقلعت الرحلة (رقم FL7000) متجهة إلى بودابست في المجر. وهناك تم تفريق المجموعة على رحلات أخرى أوصلتهم إلى ماليزيا وإندونيسيا. كانت تلك أولى الرحلات الموثقة في هذا المخطط، وبدا أنها مرّت بهدوء حينها دون ضجة تذكر.
راجعنا رحلات شركة "Fly lili" ووجدنا أنه كان لها رحلة بالفعل من إيلات إلى بودابست في المجر في 27 مايو. وعلمنا أن رقم الرحلة كان FL7000 وهو رقم لم تسجل عليه أي رحلة مشابهة، على عكس رحلات الطائرة الثانية المكررة.
رصدنا تقريرا يتحدث عن شركة "Fly lili" في فبراير/شباط الماضي، يشير إلى أن الشركة بدأت بتوسيع نطاق عملياتها وتسيير رحلات إلى تل أبيب، ما يثير الشكوك حول تعامل الشركة مع إسرائيل.
وبعد مرور شهر واحد فقط، أعلن مكتب الهجرة في إسرائيل عن بدء نقل الغزيين في نفس الشهر إلى دول أفريقيا وآسيا كما في شركة فلاي يو، كما توجد
المصدر:
القدس