أثار مشروع أميركي جديد لإعادة إعمار قطاع غزة، يحمل اسم "شروق الشمس"، موجة واسعة من الجدل والتشكيك في الأوساط السياسية والأكاديمية، بعدما جرى طرحه في سياق إعلامي وسياسي يتجاهل، وفق منتقديه، الواقع الإنساني الكارثي في القطاع وجذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وجاء النقاش حول المشروع خلال حلقة الأحد (20-12-2025) من برنامج "المسائية"، حيث استضاف البرنامج الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية، والدكتور هاني المصري، مدير المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات)، للحديث عن أبعاد الخطة الأميركية وأهدافها الحقيقية.
ووفق ما طرح في البرنامج، يقوم مشروع "شروق الشمس" على خطة تمتد لـ10 سنوات على الأقل، بتكلفة تقدر بنحو 112 مليار دولار، وتهدف -بحسب الرؤية الأميركية- إلى تحويل قطاع غزة إلى مدينة تكنولوجية ذكية، مرورا بـ4 مراحل تبدأ من جنوب القطاع، وتحديدا من رفح، ثم خانيونس، وصولا في مرحلتها الأخيرة إلى مدينة غزة، التي يراد لها أن تصبح نموذجا لما يشبه "الريفيرا" المتوسطية.
وأوضح الدكتور محمد الشرقاوي أن هذه الرؤية ليست جديدة، بل تعود في جوهرها إلى فكرة "السلام الاقتصادي" التي روج لها جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال مؤتمر المنامة قبل 5 سنوات، حين طرح تخصيص نحو 50 مليار دولار تحت عنوان التنمية، لا لإنهاء الاحتلال أو لحل القضية الفلسطينية، بل لتذويبها في مشاريع اقتصادية.
وأضاف أن الخطة الحالية تمثل توسعا أكبر في الطموح، إذ تفترض أن الولايات المتحدة ستساهم بنحو 20% من التمويل، في حين ينتظر أن تتحمل دول إقليمية، بينها قطر ومصر وتركيا ودول خليجية أخرى، ما يقارب 80 إلى 85 مليار دولار، متسائلا عن مدى واقعية افتراض قبول هذه الدول بتمويل مشروع بهذا الحجم لتحقيق ما وصفه بـ"حلم ترامب".
وانتقد الشرقاوي بشدة ما اعتبره تجاهلا أميركيا كاملا للواقع الديمغرافي والسياسي في غزة، مشيرا إلى أن المشروع يتعامل مع القطاع كما لو كان "أرضا بلا شعب"، في حين يعيش فيه أكثر من مليوني فلسطيني، وسط تعقيدات تاريخية ودينية وسياسية جعلت من المنطقة "أم الصراعات" في العالم.
وقال إن الحديث عن تحويل غزة إلى مدينة ذكية فائقة الرفاه، في ظل العجز عن إدخال منازل متنقلة، ومياه نظيفة، وأدوية، ومستلزمات طبية، ووسط استمرار القتل اليومي للفلسطينيين، يكشف الفجوة الهائلة بين الخيال السياسي والواقع على الأرض.
ووصف المشروع بأنه "حلم هوليودي" يحتاج إلى 20 عاما على الأقل للانتقال من مرحلته الأولى إلى الرابعة، معتبرا أن الخطر لا يكمن فقط في عدم واقعيته، بل في "المسكوت عنه" داخله، والمتعلق بمصير الفلسطينيين، والسيادة، والاحتلال.
من جانبه، رأى الدكتور هاني المصري أن مشروع "شروق الشمس" يندرج ضمن ما وصفه بـ"نمط جديد من الاستعمار والهيمنة"، يعتمد على إغراق الرأي العام في خيالات براقة، في حين يتم التعتيم على أسئلة جوهرية تتعلق بالسيادة، والجهة التي ستتحكم بالبنية الرقمية والأمنية والاقتصادية للقطاع.
وأكد المصري أن أي حديث عن مستقبل غزة دون ربطه بحق تقرير المصير وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، هو حديث مضلل، يهدف إلى تجاوز جذور الصراع لا حلها. وأضاف أن الخطة تركز على قضايا مثل نزع سلاح المقاومة وإبعاد حركة حماس عن الحكم، في مقابل صمت شبه كامل عن انسحاب إسرائيل من القطاع، بل وترويج أفكار عن إبقاء مناطق عازلة تحت السيطرة الإسرائيلية، وهي أفكار قال إنها تجد دعما أميركيا.
وتساءل عن الجهة التي ستتحمل فعليا كلفة المشروع، مشككا في استعداد واشنطن لدفع حصتها المعلنة، معتبرا أن الولايات المتحدة "تريد أن تربح ولا تريد أن تدفع"، وأن الخطر يكمن في تحميل سكان غزة أعباء ديون طويلة الأمد، في ظل واقع إنساني منهار.
في مقابل الصور التخيلية التي عرضت لمدينة مستقبلية فائقة الحداثة، أشار ضيفا البرنامج إلى أن الواقع في غزة يتمثل في خيام مهترئة، وبرد قارس وجوع، ونقص حاد في الغذاء والدواء، إضافة إلى استمرار الخروقات الإسرائيلية وسقوط مئات الضحايا خلال الأشهر الأخيرة، رغم الحديث عن تهدئة أو مسارات سياسية.
كما تطرق النقاش إلى تعقيدات المرحلة الثانية من أي اتفاق محتمل، بما في ذلك الجدل حول "قوة الاستقرار الدولية"، واختلاف الرؤى بين الأطراف المعنية، في ظل إصرار الحكومة الإسرائيلية على ربط أي تقدم في الإعمار أو فتح المعابر بنزع السلاح، ودون التزام واضح بالانسحاب أو إنهاء السيطرة الأمنية.
واتفق الضيفان على أن الغموض الحالي يخدم الطرف الأقوى على الأرض، أي الاحتلال الإسرائيلي، محذرين من أن استمرار الوضع الراهن، أو الذهاب نحو حلول تفرض من الخارج دون إرادة الفلسطينيين، لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد المعاناة والدوران في حلقة مفرغة.
وختم البرنامج بالتأكيد على أن المشاريع التي تبنى على الخيال السياسي، دون معالجة جذور الصراع والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، قد تبدو براقة على الورق، لكنها تبقى بعيدة عن الواقع، في وقت يغرق فيه قطاع غزة في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه.
المصدر:
القدس