لم يكن تقسيم الساحة السورية بين قوى عسكرية متعددة بعد انهيار نظام الأسد مفاجئًا، وذلك لسببين رئيسيين: أولاً، وجود مكونات داخلية طورت على مر السنين قوة عسكرية خاصة بها، بدعم أمريكي لأحدها (قوات سوريا الديمقراطية) وجهد محلي للآخر (الدروز).
لا يعني هذا أن هاتين الجهتين هما الوحيدتان اللتان تمتلكان السلاح، فالعلويون والمرشديون والإسماعيليون والسنة ممن لا يتبعون الدولة الجديدة، والبدو، يمتلكون السلاح أيضًا.
لكن الفرق يكمن في أن "قوات سوريا الديمقراطية" والدروز هما الوحيدان اللذان يمتلكان قوة منظمة ومنضبطة، خاصة في حالة "قسد".
ثانيًا، طبيعة السلطة الحاكمة في سورية من حيث توجهها الإسلامي الذي يظهر أحيانًا مرنًا وأحيانًا أخرى متطرفًا، مما أثار حالة من الخوف لدى الأقليات السورية، خاصة في الأسابيع الأولى التي تلت سقوط نظام الأسد، حيث بدت ملامح أسلمة المجتمع تظهر في بعض النواحي، بالإضافة إلى احتكار السلطة، وإسراع أحمد الشرع القوى الداخلية بتسليم سلاحها.
ومع تدخل إسرائيل المباشر، تعقد المشهد السوري وأصبح أكثر اضطرابًا، وتداخلت العوامل المحلية والإقليمية والدولية، مما أدى إلى وضع هش وقابل للانفجار في أي لحظة.
تعتبر "قوات سوريا الديمقراطية" تحالفًا متعدد الأعراق والأديان يغلب عليه الطابع الكردي، ويضم "وحدات حماية الشعب" و"وحدات حماية المرأة" و"لواء السلاجقة" و"قوات الصناديد" و"المجلس العسكري السرياني" و"كتائب شمس الشمال" و"جبهة ثوار الرقة".
تسيطر هذه القوات على معظم محافظة الحسكة ونحو نصف محافظتي دير الزور والرقة، بما في ذلك حقول النفط والغاز والقواعد العسكرية.
بسبب الدعم الأمريكي المباشر، تحولت "قسد" إلى قوة ضاربة بالمعايير السورية الداخلية، وأصبحت رقمًا صعبًا لا يمكن تجاهله.
كان من الطبيعي لهذا المكون (الكرد) - بعد تاريخ طويل من الاضطهاد والظلم على يد منظومة الحكم العربية في سورية قبل البعث وبعدها - ألا يسلم سلاحه دون اتفاق مع دمشق حول طبيعة النظام السياسي المقبل الذي يمنح الأكراد حقوقهم السياسية والثقافية: لا مركزية سياسية، تعليم رسمي للغة الكردية، ليتحولوا إلى جزء فاعل ضمن الدولة الوليدة.
منذ لقاء الشرع بترامب في الرياض، ظهر تحول أمريكي نحو مقاربة دمشق على حساب "قسد"، لكن الموقف الأمريكي تغير بعد ذلك لصالح مقاربة محايدة، تتراوح بين الضغط على "قسد" للاندماج في الدولة، والضغط على دمشق وأنقرة لمنعهما من القيام بأي عمل عسكري ضد "قسد" مع ضرورة أن يأخذ الشرع بعين الاعتبار المطالب الكردية.
بسبب القوة العسكرية لـ "قسد"، لم يحدث حتى الآن أي اقتتال حقيقي بينها وبين قوات الحكومة السورية، فالتجارب التاريخية تؤكد أن توازن القوى العسكرية يحول دون نشوء صراع عسكري، وهذا ما ظهر جليًا خلال الاشتباكات المتقطعة بين الجانبين خلال الأشهر الماضية.
ويبدو أن هذا الوضع العسكري الراهن سيستمر إلى أجل غير مسمى ما لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الجانبين، وهو غير متوفر في المدى المنظور.
لدروز سورية خصوصية فريدة: تاريخيًا يميلون نحو الانطواء الذاتي والرغبة في تشكيل كيان سياسي خاص بهم، وفي ظل دول البعث القوية، التزم الدروز حالة السكون السياسي مع المحافظة على هويتهم ليس في بعدها الثقافي فقط، بل أيضًا في بعدها الاجتماعي.
حاول الدروز البقاء على الحياد خلال سنوات الثورة والحرب الأهلية، ولكن بعد انخراط عدد من شبابهم في لجان الدفاع الشعبي في جرمانا بدمشق وفي محافظة السويداء، ظهر تشكيل عسكري تحت اسم "جيش الموحدين" عام 2013.
بسبب موقفهم المحايد، تعرض دروز سورية لضغوط من الجانبين: النظام والمعارضة، فبدأت عمليات اختطاف وقتل واعتقال قام بها الطرفان، مما دفع دروز السويداء للبدء في تجميع السلاح.
ثم جاء هجوم "داعش" على المحافظة بتخطيط من نظام الأسد عام 2018 ليؤدي إلى إعلان النفير العام في المحافظة وانتقالها إلى محافظة عسكرية خاصة بأهلها.
بعد تحرير سورية، سرعان ما اتخذ شيخ عقل الدروز حكمت الهجري موقفًا معاديًا لسلطة الشرع، ورفض في البداية تسليم السلاح والانخراط في الدولة، ثم أخذ الخطاب السياسي للشيخ بالتصاعد حيال السلطة الجديدة.
جاءت أحداث يوليو الماضي لتفجر الخلاف وتباعد بين الطرفين أكثر، خاصة مع إعلان الهجري رسميًا اقترابه من إسرائيل ومطالبته بدعمها ضد دمشق.
قبل أحداث يوليو، تواجدت في السويداء تشكيلات عسكرية كثيرة، أهمها: رجال الكرامة، بقيادة ليث البلعوس، وهي قوة تركز على الدفاع عن المجتمع الدرزي مع الحفاظ على مسافة من حكومة الشرع في البداية، ثم دعمها لاحقًا ردًا على التوجه الإسرائيلي للهجري. والمجلس العسكري للسويداء، وهو تنظيم يضم ضباطًا سابقين في الجيش السوري، ومقاتلين محليين، تأسس في فبراير الماضي، وهو مقرب من تيار الهجري.
لكن بعد أحداث يوليو، جرت عملية توحيد التشكيلات العسكرية ضمن قوة موحدة أطلق عليها اسم "الحرس الوطني" التابعة لحكمت الهجري مباشرة.
وعلى الرغم من هذا الاندماج العسكري في كتلة موحدة، فإن موازين القوة العسكرية تميل بشكل راجح للدولة، لكن المشكلة تكمن هنا في الدعم الإسرائيلي الصريح لتيار الهجري، والاستمرار بإعلان إسرائيل استعدادها لضرب قوات الحكومة السورية في حال قررت مهاجمة السويداء، كما حدث في يوليو الماضي عندما قصفت إسرائيل أرتالًا تابعة لقوات الأمن في محافظة السويداء، ثم في قلب دمشق.
لذلك، لا يوجد في الأفق القريب أي حل لمشكلة السويداء قبل التوصل إلى اتفاق بين سورية وإسرائيل، لكن ثمة نقطة ضعف في السويداء ليست موجودة في "قوات سوريا الديمقراطية" حتى الآن، وهي الانقسام الدرزي - الدرزي.
كان لتوجه الهجري نحو إسرائيل مفاعيل سلبية لدى الكثير من الدروز الراغبين بشدة في المحافظة على الانتماء الوطني العروبي لسورية.
هكذا انقسمت الساحة الدرزية بين تيارين شديدي التعارض: الأول يمثله الهجري، والثاني يمثله سليمان عبد الباقي والشيخ ليث البلعوس، ومع قتل الشيخ رائد المتني، أحد رجال الدين في السويداء، بعد يومين من اعتقاله وإهانته على يد قوات "الحرس الوطني".
هنا، تعول السلطة في دمشق على تقوية التيار الداعم لها على حساب تيار الهجري، مما يؤدي إلى تغيير المشهد العسكري والسياسي للمحافظة عبر أهاليها.
لم تتغير مواقع سيطرة القوات التركية والأمريكية في سورية، فقد حافظ الجانبان على تمركز قواتهما: للولايات المتحدة قواعد عسكرية عديدة تتفاوت في حجمها، تنتشر من ريف الحسكة الجنوبي وحتى الضفة الشرقية لنهر الفرات في ريف حمص الشرقي.
أهم هذه القواعد تلك المتواجدة في منطقة التنف قرب الحدود مع العراق والأردن، فيما تنتشر قواعد أقل حجمًا في دير الزور والحسكة على مقربة من حقول النفط، وقرب المدن، مثل المدينة الرياضية جنوبي مدينة الحسكة التي تحولت إلى قاعدة للقوات الأمريكية.
أما القوات العسكرية التركية، فيمتد انتشارها من إدلب غربًا وحتى أقصى الشمال الشرقي (الزاوية الشمالية الشرقية لمحافظة الحسكة).
بالنسبة للولايات المتحدة، لم يختلف دورها حتى الآن عما كان عليه قبل سقوط نظام الأسد: الاستمرار في محاربة التنظيمات الإرهابية بشكل عام وتنظيم "داعش" بشكل خاص.
أما تركيا، فإضافة إلى استمرارها في المحافظة على الخريطة العسكرية السابقة كما هي، وقطع الطريق على أية محاولات محلية لتغييرها، فقد أضيفت مهمة أخرى لها، تتمثل في تدريب الجيش السوري الجديد وتزويده بالسلاح اللازم لهذه المرحلة.
اختلف الأمر تمامًا فيما يتعلق بالقوات الروسية، إذ تغير دورها بالكامل بعد سقوط نظام الأسد.
توصلت موسكو ودمشق إلى اتفاق يُبقي القوات الروسية في سورية: القاعدة البحرية في طرطوس والقاعدة الجوية في حميميم باللاذقية، في خطوة تعيد الثقة بين الجانبين وتحقق للطرفين مصالحهما.
ليس للقوات الروسية حتى الآن مهام واضحة، وإن أعلن أكثر من مسؤول روسي أن قواتهم في سورية عامل يساهم في عملية الاستقرار.
لكن مع توجه وفد عسكري روسي إلى الجنوب السوري، بدأت في الأفق إمكانية أن تلعب القوات الروسية دور الشرطي في الجنوب.
يشكل الحضور العسكري الإسرائيلي في سورية الخطر الأكبر، لا على الدولة فقط، بل أيضًا على المجتمع.
خلال الأيام الأولى التي أعقبت تحرير دمشق، شنت إسرائيل عشرات الهجمات الجوية القوية، دمرت خلالها كامل أسلحة الجيش السوري الثقيلة التي تشكل تهديدًا لها.
توازى ذلك مع انخراط عسكري بري في الجنوب السوري، بلغ ذروته في السيطرة على قمة جبل الشيخ الاستراتيجية.
مع مرور الوقت، بدا أن إسرائيل اعتمدت مقاربة استراتيجية ثابتة حيال سورية، تقوم على ثلاثة أهداف رئيسية تحقق لإسرائيل تأثيرًا مستدامًا في الساحة السورية بشقيها العسكري والسياسي معًا: الحيلولة دون نشوء جيش سوري مسلح بعتاد جديد ثقيل ومتطور، وإنشاء منطقة آمنة ذات مساحة واسعة، تمتد من الحدود السورية - الإسرائيلية إلى عتبة العاصمة دمشق، وإجبار دمشق على توقيع اتفاق سلام، لا يكون الجولان المحتل جزءًا منه.
لتحقيق هذه الأهداف، تعمل إسرائيل على مستويين: الأول، الاستمرار في التوغلات العسكرية البرية في الجنوب السوري قرب الحدود، والثاني، استغلال الحالة الدرزية لدعم تيار فيها مناوئ لدمشق، وبالتالي جعل الجنوب منطقة منزوعة السيطرة من الحكومة السورية.
وعلى الرغم من تراجع القصف الجوي الإسرائيلي على سورية منذ أحداث السويداء في يوليو الماضي - بضغط أمريكي - فإن المقاربة الإسرائيلية تجاه سورية لم تتغير: يجب فرض الشروط الإسرائيلية بالقوة على السلطة السورية، حتى لو تطلب الأمر وقتًا من الزمن.
يمكن وصف التواجد العسكري للأطراف المحلية والإقليمية والدولية في سورية برقعة شطرنج عسكرية مرتبة ومعقدة ومتشابكة الأهداف في الوقت نفسه: بعض هذه القوات يشكل عامل استقرار (الولايات المتحدة، روسيا، تركيا)، بينما يساهم بعضها الآخر في الفوضى (إسرائيل، الحرس الوطني التابع لحكمت الهجري شيخ عقل الدروز)، أما "قوات سوريا الديمقراطية"، فهي حتى الآن بمنزلة بين المنزلتين، فمن جهة لا تشكل عامل تخريب وعدم استقرار في الساحة السورية، ومن جهة ثانية تضع شروطًا للاندماج في الدولة.
من الصعوبة بمكان معرفة مستقبل القوى العسكرية هذه في سورية مع استمرار حالة السيولة السياسية في البلاد: هنا تلعب السلطة في سورية على تمرير الوقت على أمل حدوث متغيرات تصب في صالحها، وأول هذه المتغيرات إطلاق العجلة الاقتصادية في البلاد بما يعزز الرغبة المجتمعية في الاستقرار والميل إلى الحلول السياسية.
المصدر:
القدس