تبدو الخطة، التي نشرها قبل أيام أحد المواقع الإخبارية المقربة من الإدارة الأمريكية، أقرب إلى ورقة استسلام سياسي صاغتها واشنطن لتعليق حربٍ باتت فيها كييف مُنهكة، والغرب غارق في حسابات انتخابية داخلية، فيما حافظت موسكو على صلابة موقعها الاستراتيجي.
حين ينظر المراقب إلى مضمون البنود من زاوية روسية بحتة، يكتشف سريعا أنّ الكرملين حصل على كل ما كان يسعى إليه منذ اليوم الأول لـ"العملية العسكرية الخاصة": اعتراف دولي صريح بمكاسبه الإقليمية، وعودة تدريجية إلى المنظومة الاقتصادية العالمية، وإلزام كييف بتحييد كامل يقطع الطريق على أوهام الانضمام إلى الناتو.
وعلى الرغم من أنّ خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، صيغت تحت مظلته ويريد تسويقها كإنجاز ديبلوماسي له، إلاّ أنّ موسكو تجد فيها، لأول مرة منذ شباط/ فبراير 2022 (تاريخ بدء الحرب)، نصا يُقونن ما فرضته على الأرض، ويُدخل الهزيمة السياسية الأوكرانية في قالب تفاوضي "حضاري"، بلا صواريخ ورصاص.
أول ما تحققه خطة ترامب لروسيا، هو الاعتراف الدولي بشرعية ضمّ القرم ولوغانسك ودونيتسك، والتعامل مع هذه المناطق باعتبارها جزءا من الاتحاد الروسي بلا مواربة.
هذا ليس مجرد مكسب جغرافي، بل تثبيت لسردية موسكو أمام الداخل الروسي والشعوب التي تراقب علاقة القوة عالميا.
الغرب الذي ضخّ المليارات والسلاح، وانخرط في حملة عقوبات غير مسبوقة، يوقّع اليوم على ورقة تقول إنّ "العودة إلى حدود 1991" انتهت، وإن كل الدم والضجيج لم يغيّرا شيئا في خريطة السيطرة الروسية على شرق أوكرانيا.
يضاف إلى ذلك، تجميد وضع خيرسون وزاباروجيا على خطوط التماس، مع انسحاب القوات الأوكرانية من أجزاء من دونيتسك نحو منطقة عازلة، ما يعني عمليا أنّ كييف تتراجع خطوة إضافية إلى الخلف، بينما تثبت موسكو وجودها في موقع الممسك بزمام الميدان.
أما المكسب الثاني، فهو إنهاء فكرة توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقا، وبالتالي إقفال ملف عضوية أوكرانيا.
في لحظة سياسية كان يُخيَّل للغرب أنّه قادر على تحويل أوكرانيا إلى قاعدة متقدمة لمحاصرة روسيا، لكن الخطة اليوم تأتي لتكرّس ما كان موسكو تصرّ عليه وتطالب به منذ سنوات: وقف التمدد الأطلسي، وضمان عدم فتح حدود أمنية جديدة ضدها.
ليس ذلك فحسب، بل إنّ الخطة تُلزِم الولايات المتحدة وحلفاءها بقبول بند ينصّ على عدم نشر قوات في أوكرانيا مستقبلا، ما يحوّل البلاد إلى "دولة عازلة" منزوعة القدرة الاستراتيجية، وهذا أمر كانت روسيا تعتبره شرطا مسبقا لأيّ تسوية.
بكلمات أخرى، يمكن القول إن موسكو قد نجحت في إعادة صياغة التوازن الأمني الأوروبي من جديد، ليس عبر "اتفاقيات هلسنكي" جديدة، بل عبر نتائج حربٍ وجد الغرب نفسه مضطرا لتجميدها بشروط لا تشبه خطاباته السابقة.
على المستوى السياسي، تمنح الخطة موسكو كذلك اعترافا بكونها شريكا أساسيا في أيّ معادلة أمنية أوروبية أطول مدى.
فالحوار بين موسكو و"الناتو" بإشراف أمريكي، يضعها وجها لوجه مع المؤسسة الغربية، التي حاولت إقصاءها منذ 2014.
كذلك تعود روسيا إلى مجموعة الثماني (G7+1)، في خطوة يمكن قراءتها كإعادة إدماجٍ تدريجي يعترف بأن عزلها الاقتصادي والسياسي لم ينجح.
بالنسبة للكرملين، هذه العودة ليست تفصيلا رمزيا، بل دليل على أنّ العالم لا يستطيع الاستغناء عن روسيا في الملفات الكبرى، وأنّ خطاب "عزل بوتين" الذي شغل عواصم "الناتو" لثلاث سنوات، قد سقط عند أول استحقاق تفاوضي.
اقتصاديا، الخطة تمنح موسكو فرصة للخروج من "سجن" العقوبات، فالتفاهم على مناقشة رفع العقوبات، والتحضير لاتفاق تعاون اقتصادي مع الولايات المتحدة، والاعتماد على استثمارات من الأصول الروسية المجمدة ضمن برنامج إعادة إعمار أوكرانيا.. كلّها مؤشرات إلى بداية مرحلة جديد، سوف تُعيد دمج روسيا بالنظام المالي العالمي، كما ستتيح لها استعادة جزء كبير من قوتها الاقتصادية التي حاول الغرب تجفيفها.
الأهم، أنّ موسكو سوف تحصل بموجب هذه الخطة، على نصف فوائد استثمار 100 مليار دولار من أصولها، ما يجعلها شريكا في عملية إعادة بناء أوكرانيا، وليس خصما يقف خارج المشهد.
وهنا تكمن المفارقة: أوكرانيا التي خاضت الحرب لمنع نفوذ روسيا، ستُبنى اقتصاديا بأموال روسية تُدار في إطار أمريكي، لكن تصبّ أرباحها في موسكو أيضا.
من جهة أخرى، الخطة تمنح روسيا امتيازات استراتيجية في مجال الطاقة.
فتشغيل محطة زاباروجيا النووية تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مع تقاسم الإنتاج بينها وبين أوكرانيا، يجعل موسكو اللاعب المركزي في واحدة من أهم منشآت الطاقة الأوروبية.
كما تضمن الخطة عدم منع أوكرانيا من استخدام نهر دنيبر، ما ينسجم مع رؤية روسية لتثبيت قواعد الشراكة المائية والتجارية، لكن من موقع قوة يُلزِم كييف باتفاقات واضحة لا تقبل التأويل.
أما على صعيد الأمن القومي، فتشكيل مجموعة عمل أمريكية- روسية مشتركة لمراقبة تنفيذ الاتفاقات، هو انتصار ديبلوماسي كبير لموسكو.
ففي لحظة تتراجع فيها الثقة بين الطرفين إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة، يجد الكرملين نفسه في موقع يسمح له مجددا بمشاركة واشنطن مباشرة في صياغة وتنفيذ قواعد الأمن الأوروبي.
ولعل هذا أكثر ما يميز الخطة من المنظور الروسي، التي يشهد على تحوّل من حرب استنزاف إلى شراكة اضطرارية، يعترف بها الغرب، ويقرّ بأنّ موسكو ليست خصما عابرا، بل قوة ثابتة في أيّ معادلة دولية.
ولا يمكن تجاهل البُعد الرمزي في هذه الخطة، إذ تفرض على أوكرانيا إجراء انتخابات خلال 100 يوم، وتمنح عفوا عاما عن جميع الأطراف.
وهذا البند وحده، يعكس أنّ الولايات المتحدة تريد قفل الملف بسرعة، وأن تغيير القيادة في كييف ليس خيارا مستبعدا في سياق تسوية كبرى قد تُنتج مشهدا سياسيا جديدا يتعامل معه الروس ببراغماتية، وليس بمغامرات عسكرية.
بالنسبة إلى الكرملين، فهذا يعني أن واشنطن نفسها باتت ترى أنّ استمرار الحرب لم يعد يخدم مصالحها، وأنّ التغيير في كييف ضرورة لتطبيق الخطة.
بذلك كله، يمكن القول إنّ روسيا سوف تخرج من الحرب في موقع المنتصر الواقعي لا الدعائي.
لم تحقق أهدافها كاملة، لكنّها فرضت على الغرب الاعتراف بخطوط نفوذها، وأجبرت أوكرانيا على قبول حياد دائم، ووضعت نفسها مجددا لاعبا اقتصاديا وسياسيا لا يمكن إقصاؤه.
لكنّ الأمر الأهم، هو أنّها بذلك قد نقلت السجال من ميادين القتال إلى مائدة التفاوض، التي صيغت فيها بنود تُلبّي معظم شروط موسكو الأساسية.
المصدر:
القدس