ليست غزة اليوم عنوان حرب فقط، بل عنوان عصر جديد ينهض من بين الركام، كأنها تُمسك المنطقة من كتفيها وتهزّها هزا، لتقول للجميع: لقد تغيّر كل شيء.
فمن بين الأنفاق التي حاولت إسرائيل دفنها تحت آلاف الأطنان من المتفجرات، خرجت معادلة سياسية جديدة، أثبتت أن ميزان القوة لم يعد كما كان، وأن الطرف الذي قاوم تحت النار قادر أيضا على التفاوض فوق الطاولة بصلابة لا يشوبها التردد.
وفي هذا السياق، تتهم المقاومةُ في غزة إسرائيلَ بأنها تختلق الذرائع للتهرب من الاتفاق والعودة إلى الحرب، بينما تتحدث هيئة البث الإسرائيلية عن 'عملية عسكرية حتمية' في غزة.
بين التصريحين تتسع فجوة تكشف عمق اللحظة: فإسرائيل تتراجع إلى لغة الحرب لأن لغة السياسة تُضيّق عليها الخناق، والمقاومة في غزة تتقدم في لغة السياسة لأنها أثبتت حضورها في ميدان الحرب.
إن المشهد اليوم لا يمكن فهمه بمعايير الأمس، فالحرب لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت عملية ولادة جيوسياسية، خرجت منها إسرائيل مثقلة بالعجز، وخرجت غزة رغم آلامها أكثر وضوحا في تعريف ذاتها.
والمفاوضات -بقدر ما تبدو عملية سياسية- هي في الحقيقة اختبار نهائي لنتائج المعركة: اختبار لمن يملك النفس الأطول، ومن يملك الحقيقة الأقوى، ومن يستطيع أن يفرض تعريفه لمعنى 'النصر' في وعي الشعوب قبل أن يفرضه على الطاولة.
وإسرائيل -التي ترفع نبرة التهديد- ليست في ذروة قوتها، بل في ذروة ارتباكها.
فالدولة التي اعتادت خوض الحروب بنفس بارد تدرك اليوم أن أي عملية جديدة لن تحمل معها يقينا بالنصر، بل يقينا بالخسائر.
ولذلك، صار إنتاج الذرائع ضرورة سياسية، ومحاولة للهروب من اتفاق سيضطرها للاعتراف بأن مشروعها في غزة لم يعد ممكنا.
وما يجب فهمه أن إسرائيل لا تتهرب من اتفاق لأنها قوية، بل لأنها تعلم أن أي اتفاق يضمن وقف النار وتبادل الأسرى وإعادة الإعمار يعني خضوعا لمنطق جديد لم تتعود عليه.
فهو منطق يساوي بين الطرفين في بعض المساحات، ويُظهر أن الطرف الفلسطيني -رغم الجراح- لا يزال ممسكا بخيوط اللعبة على نحو لا يمكن تجاهله.
أما المقاومة في غزة، فإن خطابها السياسي الأخير لا يحمل نبرة المنتصر العسكري، بل نبرة من يعرف موقعه في المعادلة.
إنها لا ترفع سقف الكلام للضغط، بل لتسجيل حقيقة: أن المقاومة لم تعد مجرد قوة تقاتل، بل قوة تفاوض، وأن شرعيتها لا تُستمد من الشعارات، بل من قدرتها على تغيير قواعد الاشتباك.
وحتى نفهم عمق التحول، يجب أن ننظر إلى ما وراء تصريحات السياسيين.
فإسرائيل التي تريد الهروب إلى الأمام تعلم أنها أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما حرب تُفقدها المزيد من الجنود وتُظهر هشاشتها، وإما اتفاق يُفقدها احتكار القوة ويُظهر حدودها.
وكلاهما يهدد صورة الدولة التي روّجت لنفسها لعقود كقوة لا تُقهر.
وفي المقابل، فإن غزة -رغم الخراب- أصبحت نقطة مرجعية أخلاقية وسياسية في العالم.
لم يعد من الممكن تجاهل مشاهدها، ولا عزلها عن الرأي العام العالمي الذي أصبح جزءا من المعركة.
وهذا التحول وحده يفتح بابا جديدا في المنطقة: بابا لا تتحكم به الجيوش وحدها، بل تتحكم به الشعوب ورواياتها وقدرتها على البقاء.
إن إسرائيل تُدرك -ولو لم تعترف- أن زمن السيطرة المطلقة انتهى.
فالمعادلة اليوم لم تعد 'قوة تفرض شروطها على ضعيف' بل 'قوة تُحاصر بقوة صمود لم تستطع كسرها'.
وهذا هو جوهر اللحظة التي نراها: لحظة سقوط الخوف الذي عاش عليه المشروع الإسرائيلي، وصعود إرادة لم تعد قابلة للانكسار بسهولة.
وإذا كانت المقاومة في غزة ترى أن إسرائيل تختلق الذرائع، فذلك لأن إسرائيل تتعامل مع الزمن كعدو.
فكل يوم يمرّ دون حسم نهائي يعني مزيدا من التفكك الداخلي، ومزيدا من التآكل السياسي، ومزيدا من الأسئلة التي يخشاها قادتها.
أما الزمن في نظر غزة فهو جزء من المعركة، بل جزء من القوة.
وكل ساعة صمود تعيد صياغة مستقبل القضية بطريقة لا تستطيع إسرائيل عكسها حتى بالقنابل.
وهنا نصل إلى جوهر التحليل: إن ما يجري ليس حربا على غزة، بل حربا على المعنى.
فإسرائيل تريد نزع المعنى من صمود غزة، وغزة تريد أن تزرع المعنى في وعي العالم.
وهذه المعركة -التي لا تُقاس بالصواريخ- هي التي تحدد مستقبل المنطقة.
وحين نتأمل الصورة كاملة، ندرك أن إسرائيل أصبحت لاعبا يقترب من خسارة قواعد اللعبة، بينما غزة -رغم كل شيء- تحولت إلى صانعة قواعد جديدة.
ومع كل يوم يمرّ، تتشكل معادلة تقول: إن القوة ليست ما تملكه من سلاح، بل ما تستطيع أن تصنعه من إرادة، وما تقدر أن تفرضه من واقع سياسي جديد على من يملك السلاح.
ولهذا، فإن السؤال الحقيقي ليس: هل تعود إسرائيل إلى الحرب؟ بل: هل تستطيع إسرائيل تحمّل نتائج العودة؟
لأن العودة لن تغيّر حقيقة أن المعركة فقدت أدواتها القديمة، وأن الطرف الفلسطيني لم يعد الطرف الذي يُفرض عليه الحل، بل الطرف الذي يشارك في صياغة الحل.
وغزة اليوم -بكل ما فيها من جراح- ليست صفحة مطوية، بل عنوان فصل جديد في كتاب المنطقة؛ فصل لم يُكتب في غرف مغلقة، بل كُتب تحت القصف، وبأيدي من يدركون أن الكرامة ليست شعارا، بل مشروعا سياسيا كاملا.
إن إسرائيل -مهما صنعت من ذرائع- لن تغيّر النتيجة، والاتفاق -مهما حاولت تأجيله- سيأتي.
لكن السؤال: بأي شروط؟ ولصالح من؟
والإجابة الواضحة حتى الآن تقول إن غزة -رغم أنف الدمار- أصبحت لاعبا أساسيا، لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن تجاهل إرادته.
وفي النهاية، لا يعود السؤال: من انتصر؟ بل: من فرض معادلة جديدة؟ ومن أعاد تعريف القوة في الشرق الأوسط؟
وغزة -رغم كل شيء- فعلت ذلك، وستواصل فعله.
المصدر:
القدس