آخر الأخبار

تهجير قسري واسع في الضفة الغربية لآلاف الفلسطينيين يكشف تصعيدياً خطيرا في انتهاكات الاحتلال

شارك

واشنطن – "القدس" دوت كوم -سعيد عريقات

في تقرير جديد لهيومن رايتس ووتش، تتكشف صورة قاتمة لواحدة من أكبر عمليات التهجير القسري التي شهدتها الضفة الغربية المحتلة منذ عقود. فبين كانون الثاني وشباط 2025، نفذت القوات الإسرائيلية عملية عسكرية واسعة النطاق في ثلاثة من مخيمات اللاجئين الفلسطينية—جنين وطولكرم ونور شمس—أجبرت خلالها أكثر من 32 ألف فلسطيني على مغادرة منازلهم تحت تهديد السلاح، ثم منعتهم من العودة، في خطوة تقول المنظمة الحقوقية إنها ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

التقرير، الذي جاء بعنوان "محو كل أحلامي"، يوثق بالتفصيل عملية "الجدار الحديدي" التي بدأت في 21 كانون الثاني، بعد أيام فقط على إعلان وقف إطلاق نار مؤقت في غزة.

ووفق شهادات جمعتها المنظمة، استخدمت القوات الإسرائيلية مروحيات أباتشي وطائرات مسيرة وجرافات عسكرية، ونفّذت عمليات اقتحام منظمة للمنازل، رافقها نهب للممتلكات واستجواب للسكان، قبل أن يتم إخلاء المخيمات بالكامل. وبحسب الروايات، أُجبر السكان على المغادرة سريعاً، بعضهم عبر مكبرات الصوت المثبتة على الطائرات المسيّرة، في مشهد وصفه أحد السكان بأنه "أقرب إلى مشهد سينمائي مرعب".

ورغم توقف العمليات العسكرية في المنطقة بعد أيام، لم يُسمح للسكان بالعودة. ويشير التقرير إلى أن جنود جيش الاحتلال أطلقوا النار على كل من حاول دخول المخيمات، ولم يُسمح إلا لعدد محدود من الفلسطينيين بجمع جزء من أمتعتهم قبل أن تُغلق جميع المداخل. كما أظهرت صور الأقمار الصناعية التي حللتها المنظمة أن أكثر من 850 منزلاً دُمر أو تعرض لأضرار بالغة، بينما قدّر تقييم أممي لاحق عدد المباني المتضررة بنحو 1460 مبنى.

واستندت إسرائيل في تبرير العملية إلى ما قالت إنه "تزايد التهديدات الأمنية" داخل المخيمات. غير أن التقرير يؤكد عدم وجود أي محاولة لإثبات أن التهجير الشامل كان “الخيار الوحيد” المتاح لتحقيق أهداف عسكرية، وهو معيار جوهري في القانون الدولي الإنساني لتبرير نقل السكان. كما يشير إلى أن الظروف على الأرض—منع العودة في غياب عمليات عسكرية نشطة، وتحويل أجزاء من المخيمات إلى مساحات مجرّفة—تجعل من التهجير عملاً دائماً وليس مؤقتاً، وهو ما يضعه بوضوح تحت طائلة الانتهاكات الجسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة.

وتزداد خطورة العملية في ضوء تصريحات رسمية إسرائيلية. إذ قال وزير المالية وعضو المجلس الأمني، بتسلئيل سموتريتش، إن المخيمات "ستصبح أنقاضاً" وإن سكانها "سيبحثون عن حياة جديدة في دول أخرى"، وهي تصريحات رأت فيها هيومن رايتس ووتش مؤشراً على نوايا تطهير عرقي، حتى وإن كان المصطلح غير معرف قانونياً.

وتأتي هذه التطورات ضمن سياق أوسع من التصعيد في الضفة الغربية منذ هجمات 7 تشرين الأول 2023. فخلال تلك الفترة، قُتل نحو ألف فلسطيني في الضفة، وازدادت وتيرة الاعتقال الإداري، وهدم المنازل، وتوسيع المستوطنات، إضافة إلى ارتفاع كبير في عنف المستوطنين المدعوم من الدولة. وبحسب المنظمة الحقوقية، يشكّل التهجير القسري جزءاً من منظومة متكاملة من سياسات الفصل العنصري والاضطهاد التي تطبقها السلطات الإسرائيلية على الفلسطينيين.

ويطالب التقرير بفتح تحقيقات دولية ومحلية مع كبار المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع إسرائيل كاتس، وقادة عسكريون بارزون، بموجب مبدأ مسؤولية القيادة. كما يدعو الحكومات إلى فرض عقوبات محددة، وتعليق الاتفاقيات التفضيلية، وفرض حظر على الأسلحة، وتنفيذ مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.

وتكشف عملية "الجدار الحديدي" وما رافقها من تهجير شامل عن تحوّل نوعي في شكل السياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، إذ لم تعد تقوم فقط على إدارة الصراع أو السيطرة الأمنية التقليدية، بل تتجه نحو إعادة هندسة جغرافيا وبنية المجتمع الفلسطيني في المناطق الأكثر اكتظاظاً وتاريخاً في مقاومة الاحتلال. يعكس التهجير الجماعي لمخيمات جنين وطولكرم ونور شمس توجهاً لتفكيك البيئة الاجتماعية التي تشكل أحد أهم معاقل الحضور السياسي الفلسطيني، عبر استخدام أدوات عسكرية وتخطيطية وقانونية متزامنة، تتراوح بين التدمير المادي، ومنع العودة، وضبط الحركة، وتوسيع المجال الحيوي للمستوطنات.

ويعتبر هذا النمط ليس حدثاً معزولاً، بل جزء من إستراتيجية أعمق تعيد تعريف "الأمن" الإسرائيلي باعتباره يتطلب تقليص الكتلة السكانية الفلسطينية في مناطق معينة. ويبدو أن انشغال العالم بحرب غزة أتاح للحكومة الإسرائيلية هامشاً واسعاً لتطبيق أهداف طالما كانت مطروحة في الخطاب السياسي اليميني، والمتمثلة في “تفريغ المخيمات” و"فرض واقع جديد" في شمال الضفة.

إزاء ذلك، يصبح السؤال المحوري: هل ستبقى هذه العمليات مجرد فصل جديد في سجل الانتهاكات، أم أنها بداية مرحلة تُفرض فيها تغييرات ديموغرافية دائمة على الأرض؟ الإجابة تتوقف إلى حد كبير على مدى استعداد المجتمع الدولي للتحرك الفعلي—لا الاكتفاء بالإدانات—لوقف مسار يتجاوز كونه انتهاكاً حقوقياً، ليقترب من إعادة تشكيل مستقبل الضفة الغربية بأكملها.

القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا