غزةـ يومان من المطر فقط في غزة كانا كفيلين بهدم كل محاولات الغزيين للاستقرار بعد عامين من الحرب والقتل والتشرد. كشف الهطل الأول للأمطار في المدينة هشاشة المآوي التي حاول المنهكون ترميمها، بعد أن أعادتهم الحرب 'صفرا'، فكان رأس مالهم 'خيمة' تنقلوا بها مدة عامين من نزوح إلى آخر، ثم تحولت في ليلة واحدة إلى برك من الطين، وانهارت مع أول اختبار لتتسرب الكارثة من كل زاوية.
في منطقة الشاليهات قريبا من البحر غرب مدينة غزة، تضع ياسمين ريحان أوعية بلاستيكية تحت ثقوب سقف خيمتها، وتحاول أن تلتقط بها السيول المتدفقة من الأعلى، لكن المطر كان أثقل من قدرة خيمتها المهلهلة على الصمود. وعند مدخل الخيمة تشيد الأم تلالا من الرمل لتصد الماء 'كمن يقيم سدا من رمل أمام سيل من نهر' كما تقول، إلا أن المطر لم يمهلها طويلا، فاندفع الصرف الصحي مع السيل واقتحم الخيمة من كل جانب.
تمسك ياسمين بالأغطية والفراش وقد تشبعت بمياه الأمطار المختلطة بالصرف الصحي وقذاراته، ترفعه بيديها المرتجفتين وتقول: 'غرق كل شيء، لم أستطع سوى انتشال أطفالي السبعة والهرب إلى بيت الجيران حتى طلع الصباح'. تُقسم ياسمين أن أطفالها لم يذوقوا طعاما طوال أيام الشتاء سوى بضع لقيمات، تبرر ذلك بقولها 'قضيت نهاري كله وأنا ألاحق المطر، بينما كانت الخيمة تنهار أمامي شيئا فشيئا'.
تخوض ياسمين معركة مع المطر، بينما عقلها ينهمك في التفكير بابنها المريض بالقلب الذي اصطحبه والده إلى المستشفى بعدما أصيب بالتشنج جراء الصقيع الذي باغت مبيته، تقول: 'لقد حصد الشتاء الماضي أرواح عشرات من الأطفال الذين لم يحتملوا البرد، هذا الأمر يشعرني بالرعب'. وتتشابه المعاناة رعب مشابه دفع سمية معروف في الخيمة المجاورة إلى الجلوس تحت مظلة صغيرة لعصر ملابس أطفالها المبللة.
تقول سمية: 'أحاول إنقاذ الغيار الوحيد لكل طفل من أطفالي التسعة'. تمسك بقميص ابنها الرقيق الذي فقد أطرافه في الحرب، وتقول: 'هذا أثقل ما في حوزتهم من ملابس، ليس لديهم بديل عنها'. تتنهد بقهر كبير وتكمل: 'خرجت قسرا من الشمال صفرا، وعدت من الجنوب صفرا، وحين بدأت بالاستقرار تبخر كل شيء'.
أما نسرين جنيد التي كانت تحفر أخاديد في التراب لتصريف المياه المتكدسة بعيدا عنهم فتقول إن عليها أن تجد أرضا مستوية لا تتجمع فيها مياه الأمطار، كما أن عليها إيجاد حجارة تضعها حول خيمتها في محاولة لمنع انجراف الماء إلى الداخل. ترفض نسرين وعائلتها ترك المنطقة الشمالية القريبة من منزلها الواقع في المنطقة الصفراء في بيت لاهيا، حيث يمنعها الاحتلال وكل سكان تلك المناطق من العودة إلى منازلهم التي لا يعرفون إذا ما كانت قائمة أم لا.
أصرت نسرين على اصطحابنا للاقتراب من خيمتها المكونة من أغطية قماشية صنعت منها سقفا وجوانب، وهي أغطية لا تقي حرا ولا تحمي من مطر الشتاء، حتى إنها لا تستطيع إذكاء النار فكل شيء مكشوف للسماء كما تقول. وتتساءل 'أين المساعدات التي وعدونا بها، أين الخيام؟ كل وعودهم كاذبة وكل محاولاتنا للاستقرار تبوء بالفشل'.
كارثة تلوح بالأفق من أصل 135 ألف خيمة يأوي إليها الناس في غزة، هناك ما لا يزيد عن 10 آلاف فقط صالحة بحسب بيان أصدره المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، الذي أكد أن عدد ما دخل من الخيام منذ دخول وقف إطلاق النار هو أقل من ربع الرقم المطلوب لإغاثة الغزيين.
مئات المناشدات من عائلات منكوبة وصلت للدفاع المدني، حيث غرقت مناطق بأكملها كمنطقتي الزرقاء واليرموك في مدينة غزة، فكشف المطر عن انهيار منظومة الصرف الصحي جراء تدمير الاحتلال للبنية التحتية ولمضخات ومحطات الصرف الصحي داخل مدينة غزة، كما يقول الدفاع المدني، مما دفع بمياه الأمطار إلى التسرب إلى خيام ومنازل المواطنين.
ويرى محمود بصل، الناطق باسم الدفاع المدني، أن إغاثة الناس في غزة وإنهاء مأساتهم تحتاج إلى قرار دولي واحد قبل أن تحل كارثة إنسانية لا مثيل لها، مأساة تمتد من الخيام إلى المباني الآيلة للسقوط، وصولا إلى القبور حيث تتسرب المياه إلى الجثث داخلها 'فلا حجر واحدا في غزة أو كيسَ إسمنت كي يتم إحكام إغلاقها'.
يختم بصل حديثه: 'يومان من المطر فقط، أحدثا كل هذا الخراب، فماذا لو جاء منخفض قطبي وامتد عدة أيام؟!' يصمت قليلا قبل أن يقول: 'إذا لم تكن هذه الحرب التي تقض مضاجع الناس وتهزم كل محاولاتهم في البقاء، فما هي الحرب إذن!'
المصدر:
القدس