يتوافد الزعماء العرب إلى العاصمة الأميركية واشنطن، بغية إبرام صفقات اقتصادية وأمنية وعسكرية ضخمة مع إدارة الرئيس دونالد ترمب، في إطار ما تصفه واشنطن بـ"شراكة الاستقرار الجديد" في الشرق الأوسط. لكن خلف هذه الزيارات المتكررة، تتكشف حقيقة ثابتة: مهما تنوّعت الصفقات، ومهما ارتفعت أرقامها، فإن السلاح الأميركي الذي يشتريه العرب لن يُستخدم أبداً ضد إسرائيل
منذ عقود، تغرق الولايات المتحدة الدول العربية بالأسلحة، في صفقات تبلغ عشرات المليارات من الدولارات سنوياً. غير أن النتيجة تكاد تكون واحدة في كل حرب تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين أو جيرانها العرب: السلاح الأميركي لا يُستخدم أبداً ضد إسرائيل.
هذا الواقع ليس صدفة، بل سياسة أميركية راسخة تقوم على مبدأ واضح: التفوق العسكري الإسرائيلي خط أحمر. لذلك، تُبنى منظومة التسليح الأميركية في الشرق الأوسط على معادلة دقيقة، تضمن لإسرائيل اليد العليا دائماً، وتحوّل السلاح الأميركي في أيدي العرب إلى قوة مقيدة، وظيفتها الأساسية حفظ التوازن كما تراه واشنطن، لا كما تريده العواصم العربية.
القوانين الأميركية نفسها، وخصوصاً قانون مراقبة صادرات السلاح (AECA)، تمنح الإدارة الأميركية صلاحية متابعة "نهاية الاستخدام" لأي سلاح تصدره، والتأكد من أنه لا يُستخدم ضد "حلفاء واشنطن"، وفي مقدمتهم إسرائيل. وبموجب هذه القاعدة، لا تمتلك الدول العربية حرية استعمال السلاح الأميركي إلا ضمن الحدود التي تضعها الولايات المتحدة.
لذلك، لم يحدث أن استخدمت أي دولة عربية طائرة أو صاروخاً أميركياً ضد العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة أو لبنان أو سوريا. في المقابل، تستخدم إسرائيل الأسلحة الأميركية نفسها، من قنابل وصواريخ وطائرات، في شن حروبها ضد الفلسطينيين والعرب.
هذا التناقض الصارخ يكشف جوهر العلاقة: السلاح الأميركي ليس أداة للدفاع العربي، بل أداة لضبط العرب. فهو يشكّل وسيلة للنفوذ السياسي أكثر منه وسيلة للردع العسكري.
وتبدو سوريا نموذجاً واضحاً لهذه القاعدة. فمنذ وصول أحمد الشرع، المعروف سابقاً باسم أبو محمد الجولاني، إلى الحكم قبل عام تقريباً، تراجعت القدرات العسكرية السورية إلى أدنى مستوى لها. إسرائيل دمّرت معظم الترسانة السورية في سلسلة غارات لم تلقَ أي ردّ فعلي يُذكر. وقد نجحت في ذلك لأنها تعرف، بالتنسيق مع واشنطن، مواقع الدفاعات السورية وطبيعتها، وتضمن مسبقاً غياب أي ردّ مؤثر.
أما في العراق، فقد كان الدور الأميركي أوضح. بعد عام 2003، أعادت واشنطن تشكيل الجيش العراقي، لكنها صمّمته على مقاس مصالحها الخاصة. زوّدته بالسلاح الأميركي (من الدرجة الثالثة)، لكنها سلبته حرية القرار العسكري. وحين قررت أن العراق لم يعد بحاجة إلى جيش قوي، سمحت بتفكيكه عملياً، فتحوّل إلى قوة أمن داخلي محدودة التأثير، لا تملك قرار الحرب أو الردع.
في المحصلة، تحوّل السلاح الأميركي إلى رمز تبعية أكثر منه ضمانة أمن. فالدول العربية تدفع ثمن السلاح باهظاً، لكنها لا تملك مفاتيح تشغيله إلا بإذن واشنطن. وحتى حين تمتلك أحدث الطائرات والمقاتلات، تبقى أنظمتها التقنية والذخائر والبرمجيات تحت إشراف أميركي مباشر.
وهكذا، يصبح السلاح وسيلة للنفوذ السياسي الأميركي، لا أداة لحماية القضايا العربية. فعندما تندلع الحروب الإسرائيلية المتكررة ضد الفلسطينيين، لا تتحرك تلك الترسانات التي تملأ المخازن العربية. لا تُسمع طلقة واحدة للدفاع عن غزة أو عن القدس، لأن القرار العسكري نفسه ليس مستقلاً.
تستفيد واشنطن من هذه المعادلة المزدوجة: تبيع الأسلحة للعرب، وتمنحها مجاناً لإسرائيل. وفي كل حرب، تُستخدم المساعدات الأميركية لتل أبيب لتدمير ما باعته واشنطن للعرب أنفسهم. إنها دائرة مغلقة من التبعية والاستنزاف، تضمن استمرار تفوق إسرائيل العسكري إلى ما لا نهاية.
المشكلة ليست في نوعية السلاح أو في كفاءته، بل في طبيعة القرار السياسي الذي يرافقه. فواشنطن لا تبيع الأسلحة لتقوية حلفائها العرب، بل لتقييدهم وربطهم بها. وبهذا، يتحوّل السلاح الأميركي إلى سيفٍ مسلطٍ على العرب أنفسهم، لا على من يحتل أرضهم وينتهك سيادتهم.
وما دامت الولايات المتحدة تعتبر إسرائيل امتداداً استراتيجياً لها في الشرق الأوسط، وما دامت الجيوش العربية تعتمد في تسليحها على واشنطن، فإن المعادلة ستبقى على حالها: السلاح الأميركي لن يُستخدم ضد إسرائيل أبداً، لكنه سيُستخدم دوماً لضمان ألا يجرؤ أحد على ذلك.
المصدر:
القدس