د. أحمد رفيق عوض: الشائعات سعت خلال الحرب إلى كسر إرادة الشعب وزعزعة وحدته ما يجعل مواجهتها ضرورة وطنية
سري سمور: الشائعة جزء من المعركة.. وبناء منظومة لمواجهتها لا يقل أهمية عن أي شكل آخر من أشكال المقاومة
د. حسين الديك: المرحلة الراهنة من أخطر المراحل في تاريخ القضية وبيئة خصبة لتسريب الشائعات وهو أمر يوجب الحذر
د. أمجد بشكار: الشائعة سلاح موجه بعناية لضرب وعي الشعوب وتفكيك تماسكها ويجب على الفلسطينيين إدراك خطورتها
سليمان بشارات: مواجهة الشائعة تتطلب خطابًا فلسطينيًا موحدًا واستراتيجية إعلامية واعية لا تستند إلى ردّات الفعل
د. تمارا حدّاد: الشائعة تستهدف النسيجين الاجتماعي والوطني وهناك ضرورة لـ"تحصين الجبهة الداخلية" عبر خطوات عملية ومؤسسية
لم تعد الشائعة مجرد خبر عابر أو خطأ في نقل المعلومة، بل تحولت إلى سلاح موجه بدقة لضرب وعي الشعوب وتفكيك تماسكها الداخلي، لا سيما في ظل الحروب والأزمات التي يعيشها الفلسطينيون منذ سنوات، حيث تجلى أثر الشائعات خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بشكل لافت.
ويرى كتاب ومحللون سياسيون ومختصون وأساتذة جامعات، في أحاديث منفصلة لـ"ے"، أن الشائعة أضحت كأداة أحد أشكال العدوان الموازي، وتُستخدم لزرع الخوف والشك والإحباط في نفوس الناس، بهدف إضعاف إرادتهم وصمودهم الوطني.
وبحسب الكتاب والمحللين والمختصين وأساتذة الجامعات، تظهر خطورة الشائعة في كونها لا تحتاج إلى سلاح مادي أو تفجير لتدمير المجتمعات، بل تعمل بصمت على هدم الثقة بين المواطن ومؤسساته، وتفكيك الجبهة الداخلية التي تمثل الدرع الأُولى في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وأدواته.
ويرون أن مواجهة الشائعة أصبحت اليوم واجبًا وطنيًا لا يقل أهمية عن مقاومة العدوان العسكري، إذ تتطلب بناء منظومة متكاملة من الإعلام والتعليم والمؤسسات الرسمية والمجتمعية، تعمل على تعزيز الوعي، وترسيخ ثقافة التحقق من المعلومات، وتحقيق الشفافية، كخط دفاع أساسي لحماية النسيج الفلسطيني من الانقسام والتفكك.
سلاح قاتل لتفكيك المجتمعات وضرب تماسكها
يؤكد الكاتب والمحلل السياسي د. أحمد رفيق عوض أن الشائعات ليست مجرد أحاديث عابرة أو أخطاء في نقل المعلومة، بل هي "سلاح قاتل" يُستخدم لتفكيك المجتمعات وضرب تماسكها الداخلي، خاصة في أوقات الأزمات والحروب، كما نرى في حالتنا الفلسطينية وبالتحديد في ظل الحرب على قطاع غزة.
ويوضح عوض أن الشائعات خلال الحرب التي عصفت بالمجتمع الفلسطيني على مدار العامين الماضيين كانت بمثابة "سلاح موازٍ للعدوان العسكري"، واجتاحت الواقع الفلسطيني كما تجتاحه الحرب تمامًا، واستُخدمت كأداة لهدم الثقة وضرب التماسك الوطني.
ويوضح أن هذه الشائعات لم تكن عشوائية، بل استهدفت مختلف مستويات الأمن الفلسطيني، من الأمن الفردي والجماعي إلى الأمن الاقتصادي والمستقبلي، حيث روّجت لأخبار تتعلق بالتهجير والطرد ومستقبل الفلسطينيين في أرضهم، ما خلق حالة من الخوف والارتباك في صفوف الناس.
ويشير عوض إلى أن أخطر ما في الأمر أن الشائعات أصابت الثقة المتبادلة بين المواطنين، وضربت ثقة الجمهور بممثليه السياسيين وبعلاقاته الإقليمية.
ويبيّن عوض أن تعدد مصادر الشائعات لم يخفّف من خطورتها، بل زادها تأثيرًا، لأن جميعها اشتركت في هدف واحد هو محاصرة الشعب الفلسطيني نفسيًا ومعنويًا، وإضعاف ثقته بنفسه وبمستقبله ومصادر قوته.
ويؤكد عوض أن الشائعات خلال الحرب سعت بشكل ممنهج إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني وزعزعة وحدته الوطنية، ما يجعل مواجهتها ضرورة وطنية لا تقل أهمية عن مواجهة العدوان العسكري نفسه.
ويوضح عوض أن الشائعة عبر التاريخ استُعملت كأداة لتقويض الروح المعنوية، ونشر الإحباط، والهزيمة، مشيرًا إلى أن هذا السلاح النفسي يهدف إلى إضعاف ثقة الإنسان بنفسه، وضرب الثقة بين فئات المجتمع، وزعزعة العلاقة بين الجمهور وقياداته وقيمه.
لا "شائعات بيضاء" فجميعها سوداء
ويؤكد عوض أن "الشائعة مرض أو فيروس اجتماعي"، لأنها تعمل على توهين العلاقات الاجتماعية وإضعاف الروابط، ما يؤدي إلى تفكك الجبهات الداخلية للمجتمعات، سواء في حالات الحرب أو في الأوضاع الطبيعية.
ويبيّن عوض أن الشائعات لا تقتصر على البعدين الأمني والسياسي فحسب، بل تمتد إلى المجالات الاجتماعية والتجارية المختلفة، مؤكداً أنه لا يوجد ما يسمى "شائعات بيضاء"، فجميعها سوداء لأنها تقوم على الهدم والتفكيك والإضعاف.
ويشدد على أن انتشار الشائعات يرتبط غالبًا بغياب الشفافية وندرة تدفق المعلومات، مشيراً إلى أن التصدي للشائعات يتطلب وضوحًا كاملاً وتدفقًا مستمرًا للمعلومات، إضافة إلى حرية الوصول إلى المعلومة ووجود مؤسسات تقوم على الشفافية والنزاهة والمحاسبة.
ويعتبر أن الصحافة المستقلة، والبرلمان، والقيادات المجتمعية والدينية، جميعها جهات قادرة على العمل بمنهجية لفلترة الأخبار الكاذبة ومواجهة التضليل.
ويؤكد عوض أن المجتمع القادر على مواجهة الشائعات هو المجتمع القوي الذي يمتلك مؤسسات فاعلة، وقضاءً نزيهًا، وقيادة شجاعة، ومجتمعًا مدنيًا حيًا يؤمن بالنقد والمراجعة وحرية التعبير، لأن الوضوح والشجاعة هما السلاح الحقيقي في وجه سلاح الشائعات، خاصة في ظل الحرب ومواجهة أدواتها.
أداة ممنهجة لزرع الشك والإحباط بين الناس
يؤكد الكاتب والمحلل السياسي سري سمور أن الشائعة لم تعد مجرد حديث عابر أو وسيلة للتضليل، بل تحولت إلى أداة ممنهجة تستخدمها الدول، وتزداد خطورتها في البيئات الخاضعة للاحتلال، حيث توظفها القوة المحتلة لزرع الشك والإحباط بين الناس وتقويض ثقتهم بالمقاومة وبقدرتهم على الصمود.
ويوضح أن الشائعة اليوم شهدت تطورًا غير مسبوق في ظل انتشار الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي التي جعلت تناقلها أسرع وأوسع، مشيرًا إلى أن أثرها النفسي كبير حتى على من لا يصدقها، إذ يترك التكرار والانكشاف المستمر لها أثرًا سلبيًا على النفس والعقل، فيولد شعورًا بالإحباط واليأس وانعدام الجدوى.
ويشدد سمور على أن مواجهة الشائعات لا يمكن أن تكون فردية أو عشوائية، بل تحتاج إلى آلية منظمة ومنظومة عمل متكاملة تضم خبراء ومؤسسات قادرة على تحليل الشائعات وتفكيكها وقياس أثرها ومتابعة تجددها.
ويشير سمور إلى أن القوى التي تطلق الشائعات تمتلك منظومات تدرس النتائج والأخطاء وتعيد ضبط أساليبها، ما يعني أن الرد يجب أن يكون بمستوى مماثل من التنظيم والوعي.
ويعتبر سمور أن التوعية الدينية تمثل الخطوة الأولى في بناء المناعة المجتمعية ضد الشائعات، ما يؤكد ضرورة استخدام المنابر الدينية لتثقيف الناس بخطورة الشائعة.
وفي الجانب الإعلامي، يدعو سمور إلى تفعيل المنصات الرقمية لمواجهة الشائعات بأسلوب علمي ومنظم، من خلال فرق متخصصة أو مجموعات تطوعية تركز على الدحض الهادئ المدعوم بالحقائق، مع استخدام عناصر مثل الفكاهة الذكية لتخفيف حدة الخطاب وإبطال مفعول الشائعة دون تضخيمها.
ويشدد سمور على أهمية التمييز بين الحالات التي يجب فيها الرد، وتلك التي يكون فيها "الصمت العقابي" أكثر نفعًا، لأن الرد العشوائي أحيانًا يساهم في نشر الشائعة بدل محاصرتها.
وبحسب سمور، فإن الشائعة جزء من المعركة، والتصدي لها يتطلب وعيًا جماعيًا، وإيمانًا راسخًا، وتنظيمًا مؤسسيًا يوازن بين الرد والصمت، مشددًا على أن بناء منظومة مقاومة للشائعة لا يقل أهمية عن أي شكل آخر من أشكال المقاومة.
تأثير مضاعف في ظل الإعلام الرقمي ووسائل التواصل
يؤكد الكاتب والمحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية د. حسين الديك أن الشائعة تحولت في عصرنا إلى إحدى أخطر أدوات الحرب النفسية التي تُستخدم بشكل منظم ومؤسسي من قبل الدول والجيوش، خصوصًا مع التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت من تداول الشائعة أمرًا سريعًا وعابرًا للحدود، مؤثرًا في وعي الشعوب وتماسكها الداخلي.
ويوضح الديك أن الشائعة كانت تُستخدم منذ القدم في الحروب والمعارك، لكنها كانت محدودة التأثير بسبب ضعف أدوات الاتصال آنذاك، بينما اليوم أصبح تأثيرها مضاعفًا في ظل انتشار الإعلام الرقمي ووسائل التواصل التي تُعدّ شكلًا من أشكال الدبلوماسية الرقمية الشعبية التي تسهّل تواصل الناس ونقل المعلومات، سواء كانت صحيحة أو مضللة.
ويبيّن الديك أن العديد من الدول الكبرى باتت تنظر إلى الشائعة كسلاح حربي متكامل، مشيرًا إلى أن وزارات الدفاع في بعض الدول أنشأت وحدات متخصصة بالحرب النفسية، مهمتها إدارة الشائعات والتلاعب بالمعلومات للتأثير في معنويات العدو وحاضنته الشعبية، وفي تماسكه الاجتماعي والجبهة الداخلية.
ويؤكد أنه كلما كان المجتمع متماسكًا ومؤمنًا بقضيته، زادت مناعته النفسية وقدرته على الصمود، بينما تؤدي الشائعات إلى تفكيك هذا التماسك وزرع الشك واليأس والانقسام.
ويشير الديك إلى أن الشائعات تُستخدم عادة لتفكيك جيوش الأعداء أو لإشعال الفتن والخلافات الداخلية، سواء بين القوى السياسية أو الفصائل أو الحركات المسلحة أو حتى بين العائلات والعشائر، مما يجعلها من أخطر أدوات تفتيت النسيج المجتمعي، خاصة في فترات الأزمات والتحولات الكبرى.
وفي السياق الفلسطيني، يشير الديك إلى أن المرحلة الراهنة تُعد من أخطر المراحل في تاريخ القضية الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، موضحًا أن هذه اللحظة المفصلية تمثل بيئة خصبة لتسريب الشائعات من أطراف متعددة بهدف التأثير على الوضع الداخلي الفلسطيني وزعزعة ثقة الناس بقيادتهم وبمشروعهم الوطني، ما يتوجب الحذر والانتباه في هذه المرحلة.
ويؤكد الديك أن خطورة الشائعات تكمن في قدرتها على هزيمة الشعوب من الداخل، موضحًا أن الهزيمة العسكرية يمكن تجاوزها كما حدث في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أعادتا بناء نفسيهما لتصبحا من القوى الاقتصادية الكبرى عالميًا.
أما الهزيمة النفسية والاجتماعية الناتجة عن تفكك الثقة والانسجام الداخلي، فيؤكد الديك أنها الأخطر لأنها تُدمر القيم وتُضعف روح الأمة وتشل قدرتها على النهوض من جديد.
ويحذر الديك من أن التدمير النفسي والاجتماعي الناتج عن سلاح الشائعة أخطر من التدمير العسكري المباشر، لأن ما يُهدم بالحرب يمكن إعادة بنائه ماديًا، أما فقدان الثقة بالنفس وانهيار التماسك الاجتماعي فيحتاج إلى أجيال لإصلاحه- إن أمكن أصلًا.
إحدى أخطر أدوات الحرب النفسية
يؤكد أستاذ العلوم السياسية د. أمجد بشكار أن الشائعات تمثل إحدى أخطر أدوات الحرب النفسية التي تُستخدم ضد الشعب الفلسطيني، مشدداً على أن تأثيرها قد يفوق أحياناً تأثير السلاح المادي من قنابل وصواريخ، إذ تعمل على تفكيك المجتمعات من الداخل وضرب معنوياتها وإضعاف إرادتها.
وبحسب بشكار، فإن "أخطر ما يمكن أن يفتك بالمجتمعات هي الشائعات، فهي لا تحتاج إلى انفجار أو صاروخ لتدمير البنية النفسية والمعنوية للأفراد، بل تفعل ذلك عبر بثّ الشك والخوف والإحباط".
ويوضح بشكار أن الشائعات تنشط عادة في أوقات الحروب والكوارث، موضحاً أن الحالة الفلسطينية تُعدّ نموذجاً واضحاً لذلك، حيث استغلّ الاحتلال الإسرائيلي الحروب المتتالية على الشعب الفلسطيني لنشر الشائعات بهدف زعزعة الثقة الوطنية وتقويض مشروع المقاومة.
ويشير بشكار إلى أن جيش الاحتلال خصّص وحدة متخصصة داخل جهاز الاستخبارات تُعرف بالوحدة (8200)، تتولى مهمة بثّ الشائعات ونشر المعلومات المضلّلة عبر شبكات التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية المختلفة.
ويقول بشكار: "الاحتلال يتعامل مع أنّ الفلسطيني يجب أن يكون مستهدفاً على مدار الساعة، ولذلك يعمل في أوقات الحرب والسلم على استغلال أي ثغرة لنشر الأكاذيب بهدف إضعاف الروح المعنوية والنيل من تماسك المجتمع".
ويبيّن بشكار أن الشائعات لا تستهدف الأفراد فحسب، بل تسعى إلى تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني من خلال إثارة الانقسامات والكراهية بين فئات المجتمع، وبثّ الشك في القيادات الوطنية والمؤسسات الرسمية.
ويشير بشكار إلى أن الحرب الأخيرة كشفت حجم التشويه المتعمد للحقائق، ومحاولات الاحتلال تقويض الثقة بالمصادر الإعلامية الفلسطينية، الرسمية وغير الرسمية على حدّ سواء.
ويؤكد أن "الانجرار وراء الدعاية المعادية وتصديق الأكاذيب من أخطر ما يواجه المواطن الفلسطيني اليوم، إذ تُسهم تلك الشائعات في نشر الإحباط واليأس وتفقد الإنسان قدرته على مواجهة التحديات".
ويوضح بشكار أن الحرب المعنوية والنفسية التي يقودها الاحتلال موازية تماماً للحرب العسكرية، بل قد تتفوق عليها في قدرتها على تفكيك المجتمعات وإضعافها داخلياً.
وفي حديثه عن سبل المواجهة، يدعو بشكار إلى تعزيز الوعي المجتمعي والإعلامي بدءاً من المدارس والجامعات، مروراً بكافة المؤسسات الاجتماعية، مؤكداً ضرورة التحقق من المصادر قبل تداول الأخبار، والاعتماد على القنوات الرسمية والموثوقة في تلقي المعلومات.
ويشدّد بشكار على أهمية أن تبادر الجهات الرسمية بالرد السريع على أي شائعة لتفنيدها وقطع الطريق أمام انتشارها.
ويعتبر بشكار أن تعزيز الوحدة الوطنية يشكّل خط الدفاع الأول في مواجهة الحرب النفسية، مشيراً إلى أن "المجتمع المتماسك يصعب على أيّ محتل أن يخترقه بالشائعات أو أن يزرع فيه روح الشك والخوف".
ويدعو إلى تفعيل القوانين لمحاسبة مروّجي الشائعات، خصوصاً أولئك الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أخبار كاذبة تهدّد الأمن الوطني والاستقرار المجتمعي.
ويؤكد بشكار أن الشائعة ليست مجرد خبر كاذب، بل "سلاح موجه بعناية لضرب وعي الشعوب وتفكيك تماسكها"، داعياً الفلسطينيين إلى وعي خطورتها والتعامل معها كأداة حرب تستهدف بقاءهم وصمودهم الوطني.
جزء من الاستراتيجية الاستعمارية للحركة الصهيونية
يوضح الكاتب والمحلل السياسي سليمان بشارات أن الشائعة تُعدّ واحدة من أخطر أدوات الهدم والتدمير غير المباشر، مشيرًا إلى أنها قد توازي في خطورتها "العدو الحقيقي"، لما تتركه من أثر في تفكيك البنى المجتمعية والنفسية والعائلية، وإضعاف الحاضنة المجتمعية التي تمثل الدرع الحامية لأي مجتمع في مواجهة العدوان الخارجي.
ويشير بشارات إلى أن أي مجتمع متماسك داخليًا يصعب اختراقه أو التأثير عليه، وهو ما تدركه إسرائيل جيدًا، إذ توظف الشائعات والدعاية كجزء من استراتيجيتها الاستعمارية منذ نشأة الحركة الصهيونية.
ويبيّن بشارات أن الدعاية الصهيونية تعتمد على ثلاث مستويات متداخلة: أولها، نشر الأكاذيب وأنصاف الحقائق بهدف إعادة توجيه وعي المجتمعات بما يخدم الأهداف الإسرائيلية، وتضليل الرأي العام عبر بناء روايات مشوهة.
وثانيها، بحسب بشارات، إعادة ترتيب أولويات المجتمع الفلسطيني، بحيث تُبرز بعض القضايا وتُهمَّش أخرى بما يتماشى مع مصالح الاحتلال، كما يحدث اليوم في تضخيم قضية "جثث الأسرى الإسرائيليين" مقابل تجاهل الجرائم الإنسانية في غزة وطمس آثار الإبادة ومخلفات الحرب.
وبحسب بشارات، فإن هذا النهج يندرج ضمن استراتيجية "إعادة هندسة المنصات الإعلامية" التي تمارسها إسرائيل لتوجيه الرأي العام العالمي.
أما المستوى الثالث، وفق بشارات، فيتمثل في ازدواجية الخطاب الإسرائيلي الدعائي، إذ تجمع دعاية الاحتلال بين صورتين متناقضتين: صورة القوة المفرطة المستندة إلى دعم الغرب والولايات المتحدة، وصورة "الضحية" التي تستجلب التعاطف الدولي من خلال خطاب الهولوكوست ومعاداة السامية.
ويرى أن الإشكالية الفلسطينية تكمن في التعامل بردّات فعل لا ترتقي إلى مستوى التخطيط الإعلامي والسياسي الممنهج، ما يجعل الخطاب الفلسطيني متقطعًا وغير متماسك أمام الآلة الدعائية الإسرائيلية.
ويشير بشارات إلى أن التركيز المفرط على الجانبين العاطفي والإنساني في الخطاب الفلسطيني يولّد تعاطفًا مؤقتًا سرعان ما يخبو بانتهاء الحدث، داعيًا إلى تطوير الرسالة الفلسطينية لتجمع بين البعد الإنساني والرؤية السياسية والاستراتيجية القادرة على تأسيس موقف عالمي مستدام داعم للقضية.
ويشدد بشارات على أن وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية ما تزال تعمل في إطار تقليدي يفتقر للتنسيق والتكامل بين القدرات الإعلامية محليًا وإقليميًا، الأمر الذي يؤدي إلى نجاحات متقطعة لا تستمر بسبب غياب التخطيط الجماعي والرؤية الموحدة.
ويحذر من أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى عبر دعايته إلى فصل الفلسطيني عن حاضنته العربية والإسلامية، وبثّ الشكوك المتبادلة بين الشعوب، بما يخلق فجوة في الثقة ويضعف التضامن الإقليمي مع القضية الفلسطينية، بما يخدم الرؤية الإسرائيلية التي تحاول عزل الفلسطيني سياسيًا ونفسيًا.
ويؤكد بشارات أن مواجهة الشائعة تتطلب خطابًا فلسطينيًا موحدًا، وإستراتيجية إعلامية واعية تقوم على الوعي، والتعبئة، والمبادرة لا على ردّات الفعل.
إثارة الرعب المؤقت وخلق بيئة انقسام دائم
ترى الكاتبة والباحثة السياسية د. تمارا حدّاد أن الشائعات باتت جزءًا لا يتجزأ من أدوات الحرب الحديثة، وأنها تُستخدم كوسيلة فعّالة لتفكيك الجبهة الداخلية دون إطلاق رصاصة واحدة. وبحسب حدّاد، فإن الشائعة تعمل كسلاح نفسي يضرب المعنويات، ويستهدف سلوك المواطن وولاءه لمؤسساته وللنسق الاجتماعي، ما يؤدي إلى شلل معنوي يعطل قدرة المجتمع على الصمود، وهو ما ينطبق على الظروف الحالية للضفة الغربية وقطاع غزة.
وتوضح حدّاد أن الهدف من إطلاق الشائعات يتعدى إثارة الرعب المؤقت إلى خلق بيئة انقسام دائم، حيث أن"الغاية ليست نقل معلومة خاطئة فحسب، بل زرع الخوف والشك وتوليد يأس يجعل المواطن أقل قدرة على الثقة بمؤسساته، وبذلك تُهيأ الأرضية لتمرير مخططات معادية دون حاجة لقوة مادية".
وتشير إلى أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت قنوات منتجة للشائعة التي قد تصدر عن جهات متعددة -دول، أو تنظيمات، أو حتى عناصر داخلية- بغرض إشعال فتنة فئوية أو دينية أو سياسية.
وتحذّر حدّاد من أن الشائعة تستهدف النسيجين الاجتماعي والوطني عبر إثارة كراهية بين الفئات المختلفة في المجتمع، مبيّنة أن الأخبار المضللة عادةً ما تمسّ العواطف أولًا، لذلك يكون الجمهور ميالًا لتصديقها أسرع من تصديق البيانات الرسمية، إذ إن هذا المساس بالعاطفة يُضعف الرابط بين المواطن والمجتمع، ويقوض مفهوم المواطنة والسلوك المدني.
وفيما يتعلق باستراتيجيات المواجهة، تشدّد حدّاد على ضرورة "تحصين الجبهة الداخلية" عبر خطوات عملية ومؤسسية، خاصة أن الشائعة تستهدف النسيجين الاجتماعي والوطني، وذلك من خلال: تفعيل إعلام مضاد سريع ومبرمج لإصدار بيانات رسمية وتكذيب الشائعات فوريًا، وتعزيز الوعي الإعلامي والمعرفي عبر المدارس والجامعات ومؤسسات المجتمع المدني، وإلزام الأسرة بدور رقابي وتعليمي في تمييز الشائعة من الخبر الحقيقي.
وتشدد حداد على أن وسائل الإعلام الوطنية والمواقع والصفحات الرسمية في مواقع التواصل الاجتماعي يجب أن تُستخدم بنهج إيجابي ومنهجي لمواجهة الأكاذيب "بالحجة والبرهان".
وتدعو إلى مشروع توعوي طويل الأمد "تَنوير مدرسي ومجتمعي" يرسّخ قيم الانتماء والمسؤولية الوطنية، ويعلّم المواطنين أساليب التحقق من المصادر وعدم إعادة نشر المعلومات المجهولة.
وتؤكد حدّاد ضرورة مساءلة مروّجي الشائعات قانونياً حين تمس الأمن الوطني أو السلم الأهلي، بما يردع الأفراد أو الجهات التي تسعى إلى زعزعة الاستقرار.
وتشير حدّاد إلى أن الشائعة "سلاح ناعم" لا تقل خطورته عن الأسلحة التقليدية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، بل في كثير من الأحيان يتفوق عليها في قدرته على تدمير روح الصمود الوطني.
وتؤكد حداد أنه لا بد من تعزيز الوحدة الوطنية، وامتلاك آليات إعلامية وتربوية وقانونية رادعة، وهما خط الدفاع الأول لحماية المجتمع من استهداف وعيه وهويته.
المصدر:
القدس