آخر الأخبار

محمود العارضة لـ الحدث: خرجت من فم الوحش لأقول إن الحرية ممكنة

شارك

الحدث - مثنى النجار

في كل حكاية من حكايات الحرية الفلسطينية، هناك فصل خاص لا يمكن تجاوزه، فصل كتبه أبطال نفق جلبوع بصلابتهم وإيمانهم بأن المستحيل يمكن أن يُكسر؛ بإبرة وصبر وإرادة.

ومن بين هؤلاء يقف محمود العارضة، الذي قاد عملية الهروب الأشهر في التاريخ الحديث، ملهمًا الأحرار في كل مكان بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.

لم يكن نفق جلبوع مجرد هروب من الأسر، بل ولادة جديدة للكرامة الفلسطينية، وبيانًا إنسانيًا للعالم كله أن الإرادة أقوى من الجدران، وأن الحلم بالحرية، لا يُهزم.

بعد أكثر من عقدين خلف القضبان، وبعد تحرّره في الصفقة الأخيرة التي توجت بتضحيات كبيرة قدمها الفلسطينيون بغزة خلال حرب دموية أسفرت عن ارتقاء ما يزيد عن 70 ألف شهيد ومئات آلاف الإصابات وتدمير أكثر من 90% من مباني غزة؛ نحاور اليوم الأسير المحرر محمود العارضة ونتحدث معه عن لحظة اللقاء الأولى مع الحياة بعد الأسر، عن الحنين، والوجع، والدهشة، وعن الحرية التي رآها أخيرًا بعينيه لا في الحلم.

الحدث: بعد سنوات طويلة من الأسر، كيف تصف اللحظة الأولى التي شعرت فيها أنك خارج أسوار السجن؟

محمود العارضة: هذا السؤال يُطرح كثيرًا، لكنه يبقى الأصعب في الإجابة، لأن المشاعر فيه لا تُوصف. كانت فرحة عظيمة امتزجت بغصّة عميقة، لأننا تركنا خلفنا إخوة وأحبة ما زالوا يعيشون وجع الأسر. كنت قلقًا على أختي هدى، التي كانت أسيرة محررة وتزوجت في غزة، فقد راودني خوف أن تكون الحرب قد سرقت أحد أبنائها. لكن عندما وصلت إلى مصر ورأيتها أول من استقبلني مع عائلتها سالمين، شعرت أن الله أكرمني بفرحتين: حريتي، وسلامتهم.

لقد ضحى أهل غزة تضحيات كبيرة وقدموا الكثير من اجل حريتنا ولهم منا كل الفخر والعزة ولن يستطيع أحد في الدنيا أن يسد هذا المعروف لهم، وفرحة الحرية اختلطت بوجع أهل غزة.

الحدث: هل ما زالت رائحة السجن عالقة؟ وكيف تتعامل مع فكرة أنك أصبحت حرًا؟

محمود العارضة: التحول صعب جدًا، خرجت من السجن بعد ثلاثة عقود تقريبًا، فوجدت عالمًا آخر، التغير هائل، في كل تفاصيل الحياة، حتى في اللغة والمفاهيم، أحيانًا أتصرف بعقلية الأسير دون قصد، أتريث كثيرًا قبل أي خطوة، وتخرج مني كلمات ومصطلحات لا تنتمي إلى حياة الأحرار، لكنها من ترسبات السنين الطويلة خلف القضبان.

الحدث: بعد مرور كل هذه السنوات، هل هناك تفاصيل عن عملية نفق جلبوع لم تُروَ بعد؟

محمود العارضة: نعم، هناك تفاصيل كثيرة لم تُكشف بعد، وستُروى في الوقت المناسب، أنا ملتزم باتفاق مع الكاتبة حنين التي تشرف على رواية خاصة ستتناول العملية بكل دقة وعمق، وعندما تصدر الرواية، سيعرف الناس كل التفاصيل، من الفكرة إلى لحظة انبثاق النور.

الحدث: كيف وُلدت فكرة الحفر؟ وهل كنت تتوقع فعلًا أن تصل إلى الحرية؟

محمود العارضة: فكرة الهروب تسكن قلب كل أسير، لكنها لا تتحول إلى فعل إلا عندما تتوحد الإرادة مع الإيمان. كنت على يقين بأن الله لن يخذلنا، وأننا سنخرج يومًا ما، لأن الإرادة أقوى من الجدران.

واجهنا لحظات خطيرة جدًا، خصوصًا في ليلة 5-5 الشهيرة، حين اقتحمت إدارة السجن الغرفة أثناء عملنا، كنا نعمل في فم الوحش، داخل المنظومة الأمنية الإسرائيلية، ومع ذلك نجا المشروع بمعجزة.

استخدمنا أدوات بسيطة، بعضها معروف وبعضها لم يُكشف بعد، لكن الأهم أن اللحظة التي اخترقنا فيها أرض الغرفة ورأينا تراب الأرض كانت لحظة ولادة جديدة.

حين لامست أيدينا التراب الحر، رأينا النور لأول مرة بعد ثلاثين عامًا، نور الحرية الذي لا يوصف بالكلمات.

الحدث: هل ما زلت على تواصل مع رفاقك في «نفق الحرية»؟

محمود العارضة: لم نكن جميعًا في غرفة واحدة أثناء الحفر، لكننا كنا نلتقي خلال التنقلات وداخل القسم، وكانت بيننا رابط من الثقة والمحبة لا تنكسر.

لهؤلاء الإخوة دين كبير في أعناقنا، خصوصًا الإخوة قصي مرعي، محمود شريم ، علي أبو بكر، محمد أبو بكر، وغيرهم ممن ساهموا وساعدوا في كل لحظة من لحظات المشروع.

الحدث: بعد هذه التجربة الملحمية، كيف ترى معنى الحرية اليوم؟

محمود العارضة: الحرية ليست مجرد خروج من الزنزانة، بل هي استعادة الإنسان لإنسانيته. الاحتلال لا يكتفي بسلب حرية الجسد، بل يحاول مصادرة الروح والفكر. وعندما يتحرر الأسير، فإنه لا يخرج فقط من السجن، بل يخرج من اختبار إنساني قاسٍ، ليبدأ حياة جديدة عنوانها الكرامة.

الحدث: هل ترى أن تجربة جلبوع كانت رسالة للمحتل أم درسًا للأحرار؟

محمود العارضة: هي رسالة للعدو والصديق معًا، وللإنسانية كلها؛ رسالة تقول إن الإنسان يمكن أن يتحدى منظومة كاملة بالإيمان والصبر، وإن الحرية ليست حلمًا بل فعلًا ممكنًا.

هي درس للأحرار أن لا شيء مستحيل أمام الإرادة، ورسالة للمحتل أن القيد، مهما اشتد، سينكسر ذات يوم.

الحدث : رسالة محمود العارضة إلى شعب غزة ومقاومته؟

إلى غزة… إلى الأرض التي تحمل عبق الكرامة وتغتسل بالدم لتبقى حرة، وإلى الناس الذين لا ينامون إلا على وعدٍ جديدٍ بالحياة.

أقول لكم من قلبي: أنتم فخرنا وسندنا، أنتم من أكملتم الحكاية حين خرجنا من النفق إلى النور. تحررنا كان لحظة فرح، لكن هذا الفرح ظل ناقصًا ونحن نرى ما أصابكم من دمارٍ ودماءٍ ووجع، كأن القدر أراد أن يقول لنا إن الحرية لا تأتي إلا من رحم الألم، غزة كانت رمزًا للمقاومة التي لا تُهزم. أنتم من تثبتون كل يوم أن القضية ما زالت حيّة، وأن جذوة الحرية لا تنطفئ مهما حاولوا خنقها. إخواني المقاومين أنتم تمثلون ضمير الأمة وسورها الأخير.

غزة؛ كل حجرٍ فيها يذكّرنا أن الحرية ثمنها الدم، وأن من أراد أن يعيش بكرامة لا بد أن يدفع أثمانها كاملة. أعدكم أن نبقى أوفياء لكم، نحمل حكايتكم في كل سطرٍ نكتبه، وفي كل نبضةٍ من نبضنا الذي عاد حرًّا.

الحدث المصدر: الحدث
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا