آخر الأخبار

الرجل الذي فجّر الحروب والصراعات حول قلب الأرض

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

"مَن يحكم أوروبا الشرقية يسيطر على قلب الأرض، ومَن يحكم قلب الأرض يسيطر على جزيرة العالم، ومَن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم بأسره".

بواسطة هالفورد جون ماكيندر

في شتاء عام 1904، وقف الجغرافي البريطاني هالفورد ماكيندر أمام الجمعية الجغرافية الملكية في لندن، حاملا خريطة ملوّنة بخطوط نظريته الشهيرة عن "قلب العالم"، عارضا تصوّره على العالم بوصفه كيانا منقسما إلى قلب قاري صلب وأطراف بحرية لينة.

القلب الصلب -وفق رؤية ماكيندر- تُمثِّله الكتلة الأوراسية، الممتدة من شرق أوروبا إلى سيبيريا، وهي أرض مترابطة بريا، غنية بالموارد، عصيّة على الغزو من البحر، وتُعَدُّ مركز الثقل البري للحضارة. في المقابل، تمتد الأطراف البحرية حولها كطوق مائي واسع من أوروبا الغربية إلى الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، وهي مناطق منفتحة على البحر، سهلة الاختراق، تتأرجح دوما بين ضغط القوى البرية من الداخل والقوى البحرية من الخارج.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 لماذا يكره "نبي الجغرافيا" أميركا وأوروبا إلى هذا الحد؟
* list 2 of 2 الذراع المتوارية لبوتين.. في أي طريق يمشي مهندس السيطرة الروسية؟ end of list

في هذا السياق، أطلق ماكيندر مقولته الشهيرة، التي أكد خلالها الرابط بين السيطرة على منطقة شرق أوروبا والهيمنة العالمية، وتحولت مع مرور الوقت إلى عقيدة إستراتيجية لكبار صُنّاع القرار.

كانت رؤيته بسيطة في بنيتها، لكنها زلزلت مفاهيم القوة التقليدية، إذ قلبت المعادلة التي جعلت من البحر رمزا للهيمنة طيلة قرون، فالقوة الحقيقية، كما رأى، لا تنبع من السفن والأساطيل، بل من السيطرة على الكتلة الأرضية المترابطة التي تختزن الثروة والسكان والعمق الإستراتيجي.

ورغم أن العالم يومها لم يكن قد عرف بعد الحروب العالمية ولا الطائرات المقاتلة ولا الأقمار الصناعية، فإن نظريته ظلت حاضرة في عقل كل إمبراطورية لاحقة، من برلين وهتلر إلى واشنطن ونيكسون، وصولا إلى موسكو وبوتين، كأنها دليل يُرشد مَن يسعى إلى السيطرة على التاريخ من بوابة الجغرافيا، وحافز لا مرئي تسبب في إشعال ما تلاها من حروب.

العالم كما رآه ماكيندر.. بدايات الفكر الجيوسياسي

وُلد هالفورد ماكيندر عام 1861، لطبيب إنجليزي من أصول اسكتلندية، وبدأ بدراسة العلوم الطبيعية في جامعة أوكسفورد قبل أن يتحوّل إلى التاريخ، لكن سرعان ما جذبته فكرة "الجغرافيا الجديدة" التي تمزج بين العلوم الطبيعية والإنسانية، وتسعى إلى فهم تأثير المكان في تشكيل السياسة.

مصدر الصورة الجغرافي البريطاني هالفورد ماكيندر (مكتبة مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية)

لم يكن ماكيندر من نوعية العلماء الذين يكتفون بالتنظير، بل آمن بأن الجغرافي يجب أن يختبر بنفسه خرائط الأرض. وبفضل تلك الحماسة عُيِّن أستاذا للجغرافيا في أكسفورد، في زمن كانت فيه الجغرافيا تحاول ترسيخ نفسها بوصفها تخصصا أكاديميا مستقلا.

إعلان

ومع مطلع القرن العشرين، تولّى ماكيندر إدارة مدرسة لندن للاقتصاد، غير أن ذهنه كان منشغلا بسؤال أكبر: كيف يمكن لخريطة العالم أن تؤثر في صعود الإمبراطوريات وأفولها؟ ففي تلك اللحظة كان العالم يُعاد رسمه على نحو غير مسبوق.

فبينما الإمبراطورية البريطانية في أوجها، تسيطر على البحار وتتحكم بخطوط التجارة من الهند إلى الكاريبي، كانت القوى القارية (وعلى رأسها روسيا وألمانيا) تتجه لبناء شبكات سكك حديدية تربط قارات كاملة دون الحاجة إلى الممرات البحرية.

كانت لحظة انتقالية بدأ فيها ميزان القوة العالمي يميل من البحر إلى البر، فالمحيطات التي كانت تمنح بريطانيا تفوقها لم تعد تضمن لها الأمان، بعدما استطاعت القوى البرية توحيد مساحاتها وربط أطرافها بوسائل النقل الحديثة، التي تسمح بنقل القوات بسرعة أعلى وتكلفة أقل بكثير من السفن.

أدرك ماكيندر أن هذا التحول التقني غيّر قوانين الجغرافيا السياسية نفسها، إذ جعل السيطرة على الداخل الأوراسي، أو ما سمّاه "القلب القاري"، ممكنة للمرة الأولى في التاريخ.

كانت تلك المنطقة، الممتدة من شرق أوروبا إلى سيبيريا، التي تبلغ مساحتها نحو 9 ملايين ميل مربع، بمنزلة كتلة يابسة مغلقة لا تصلها السفن، مما يجعلها محصنة ضد الغزو البحري أو الحصار، فهي تمتلك عمقا إستراتيجيا وموارد هائلة وكتلة سكنية كثيفة، وهو ما يمنح مَن يهيمن عليها قدرةً على التحكم في القارات من الداخل، دون الحاجة إلى أساطيل بحرية أو مستعمرات بعيدة.

كان هذا الإقليم عبر التاريخ منبعا لما سمّاه ماكيندر "القوة المتحركة"، أي القدرة على اجتياح العالم من الداخل إلى الخارج. فمن سهوبه الواسعة خرج جنكيز خان والمغول ، يعبرون القارات بخفة فرسانهم وسرعة خيولهم، ناقلين مركز القوة من السواحل إلى أعماق اليابسة. ورأى ماكيندر أن القرن العشرين سيُعيد إنتاج هذه الظاهرة في صورة جديدة، فالقوى الحديثة وخيولها الحديدية (أي القطارات العابرة للقارات) تمتلك قدرةً غير مسبوقة على التحرك عبر أوراسيا والسيطرة على قلبها الصلب.

من هنا انبثقت فكرته الجوهرية، فالبرّ الصلب هو مستقبل القوة، والإمبراطوريات التي تكتفي بالبحار ستفقد تدريجيا مركزها أمام مَن يسيطر على اليابسة، حيث الموارد والسكان والعمق الإستراتيجي.

ويشير المؤرخ والمفكر الأميركي هال براندز إلى أن تلك الرؤية كانت بمنزلة جرس إنذار للنخبة البريطانية، التي اعتادت النظر إلى نفسها بوصفها سيدة المحيطات. فمع صعود برلين وموسكو، أراد ماكيندر أن يذكّر بلاده بأن الخطر الحقيقي لا يأتي من البحر، بل من الداخل الأوراسي، من ذلك القلب الذي يمكن أن يوحِّد قارات العالم ضد القوة البحرية الأطلسية.

مصدر الصورة في هذه الصورة المنشورة من البحرية الأميركية، تُكمل حاملة الطائرات يو إس إس جيرالد فورد (CVN 78) أول تجربة تفجيرية مجدولة ضمن تجارب صدمة السفينة الكاملة أثناء إبحارها في المحيط الأطلسي، 18 يونيو/حزيران 2021 (الفرنسية)

وبحسب براندز، لم يكتفِ ماكيندر بالتنظير، بل حاول ترجمة أفكاره إلى سياسة عملية. فقد دعا إلى إقامة حاجز من الدول المستقلة في شرق أوروبا يفصل بين ألمانيا وروسيا، ليحول دون تحالفهما أو تمددهما نحو الغرب، كي لا تقع بريطانيا وحلفاؤها ضحيةً لتلك القاعدة البرية الصلبة التي رآها مركز التهديد.

إعلان

وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى ، كان فكره حاضرا بقوة في مؤتمر فرساي عام 1919، حيث طُرح بالفعل اقتراح إنشاء طوق أمنيّ من الدول يفصل بين القوتين القاريتين. وقد تجسّد هذا التصوّر لاحقا في قيام بولندا وتشيكوسلوفاكيا ودول البلطيق، تماما كما تخيّله ماكيندر نظريا قبل الحرب، لتعمل هذه الدول بوصفها "منطقة عازلة" بين قلب أوراسيا وبين أوروبا الغربية الأطلسية.

"ريملاند" ضد "هارتلاند"

غير أن ماكيندر لم يكن الصوت الوحيد الذي حاول رسم خريطة قوة العالم في مطلع القرن العشرين، فبينما انحاز هو إلى قوة البرّ، كان على الضفة الأخرى من الأطلسي مَن يُمجّد سطوة البحر. ففي نهايات القرن الـ19، نشر الضابط والمؤرخ البحري الأميركي ألفرد ماهان كتابه "تأثير قوة البحر على التاريخ"، الذي أكد خلاله أن مَن يملك البحار يملك التجارة، ومَن يملك التجارة يملك الإمبراطوريات.

وخلافا لماكيندر، آمن ماهان بأن التفوق البحري هو سرّ الهيمنة البريطانية عبر القرون، ودعا الولايات المتحدة إلى السير على النهج ذاته ببناء أسطول بحري جبار، يتيح لها محاصرة القوى القارية وعزلها في داخلها، متى احتاجت إلى ذلك.

كان أنصار ماهان يرون في بريطانيا مركزا للنظام العالمي بفضل أساطيلها البحرية، لكن ماكيندر شدد على هشاشة هذا التفوق، معتبرا أن عصر البحار الذي استمر نحو 4 قرون يوشك على الأفول.

غير أن الجدل لم ينحصر في ثنائية البحر والبر. فمع منتصف القرن العشرين، بزغ نجم المفكر الجيوسياسي نيكولاس سبايكمان، الهولندي الأميركي، الذي أعاد توجيه البوصلة نحو ما سمّاه نظرية "حافة المحيط" (Rimland). ويقصد بـ"الريملاند"، ذلك الحزام الجغرافي الساحلي الذي يطوّق قلب أوراسيا من ثلاث جهات: أوروبا الغربية والبحر المتوسط من الغرب، والشرق الأوسط وجنوب آسيا من الجنوب، وشرق آسيا والمحيط الهادي من الشرق.

ويشير هال براندز إلى أن سبايكمان رأى في هذه المنطقة نقطة تماس حاسمة بين القوى البرية والبحرية، أي بين البرّ الأوراسي الصلب والمحيطات التي تتحكم بها القوى البحرية، وأن مَن يسيطر عليها يستطيع أن يخنق قلب الأرض ويمنع تمدده.

هذه المنطقة تضمّ أغلب مراكز الثقل السكاني والاقتصادي في العالم، وتتحكم في أهم الممرات والمضايق البحرية، مثل قناة السويس وباب المندب وملقة، مما يجعلها محور التجارة العالمية وساحة الصراع بين الإمبراطوريات. بعبارة أخرى، بينما رأى ماكيندر أن مفتاح السيطرة على العالم يكمن في قلب أوراسيا، اعتبر سبايكمان أن المفتاح الحقيقي يوجد على حوافّها، على تلك الشواطئ والممرات التي تلتقي فيها اليابسة بالبحر.

مصدر الصورة هالفورد جون ماكيندر (غيتي)

وبحسب براندز، كانت رؤية سبايكمان رؤية احتوائية استباقية بامتياز مشغولة بالسلطة، فقد هدفت إلى تطويق القوة البرية داخل حدودها، عبر تحالفات تمتد على طول حواف اليابسة الأوراسية، وهو الفكر الذي استفادت منه الولايات المتحدة لاحقا في الحرب الباردة، وبَنَت على أساسه إستراتيجيتها في تطويق الاتحاد السوفياتي، عبر أحلاف مثل الناتو .

وهكذا، دخلت ثلاث مدارس فكرية في سجال مفتوح، إذ رأت الأولى في البحر سيّدا (ماهان)، فيما رفعت الثانية لواء البرّ (ماكيندر)، أما الثالثة فقد بحثت عن التوازن عند التخوم (سبايكمان).

ورغم ما بدا بينهم من تنافس فكري، فإنهم تشابكوا في التطبيق العملي، حيث استلهمت الإستراتيجيات الكبرى في القرن العشرين هذه الرؤى مجتمعة، حيث شهد العالم تحالفاتٍ بحريةً تحاصر القوى البرية، ومحاولاتٍ بريةً لاختراق الطوق البحري، وصراعا محتدما على المناطق الساحلية الحاجزة.

"قلب الأرض".. وقود الصراع العالمي

ومع اشتعال الحرب العالمية الثانية، تجلّى ما يمكن تسميته "لعنة قلب الأرض" في أوضح صورها. فقد تبنّى أدولف هتلر مفهوم "المجال الحيوي" (Lebensraum)، الذي دعا إلى التوسع شرقا لضمان الموارد والغذاء والمساحة اللازمة لبقاء الأمة الألمانية وتفوّقها. ويشير المؤرخ الأميركي وودروف سميث إلى أن هتلر استلهم هذا المفهوم جزئيا من أفكار الجغرافي الألماني فريدريك راتزل وتلاميذه، الذين شبّهوا الدولة بالكائن الحيّ الذي لا يستطيع البقاء ما لم يتمدد في الفضاء الجغرافي من حوله.

إعلان

ووفقا لكريستوفر فيتوايس، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تولين الأميركية، يرى البعض أن ماكيندر كان حاضرا خلف تلك الرؤية، عبر تأثيره العميق في المنظّر الجيوسياسي كارل هاوسهوفر، الذي قرأ أعمال ماكيندر وحوّلها إلى رؤية إمبريالية ألمانية، تدعو لتحالف برّي بين برلين وموسكو وطوكيو، للسيطرة على القارة الأوراسية وتقسيمها بين القوى الثلاث.

وقد امتد تأثير هاوسهوفر إلى أعلى دوائر النظام النازي. فخلال سجن هتلر في لاندسبيرغ بعد محاولة الانقلاب عام 1923، كان تلميذ هاوسهوفر ومساعده السابق رودولف هِس يزوره بانتظام ناقلا إليه أفكار أستاذه. ومن خلال هِس، وصلت هذه النظريات إلى هتلر نفسه، لتُشكِّل جزءا من الخلفية الفكرية لكتاب "كفاحي"، حيث ظهرت بوضوح فكرة الحتمية الجغرافية وضرورة توسّع ألمانيا شرقا.

وفي التطبيق العملي لتلك الرؤية، اندفع هتلر فعلا نحو قلب أوراسيا، فاجتاح بولندا ثم أوكرانيا وتوغّل في سهوب روسيا ضمن عملية "بارباروسا" عام 1941، ساعيا للسيطرة على أوكرانيا باعتبارها سلّة غذاء ومصدر وقود يؤمّن قلب إمبراطوريته النازية .

لكن الجغرافيا التي أغرته كانت هي نفسها مَن أسقطته، إذ اصطدمت جيوشه بواقع الفضاء الروسي الشاسع والشتاء القاسي، فانهارت على أبواب موسكو وفي ثلوج ستالينغراد. كانت المأساة تكرارا لما حدث قبل أكثر من قرن مع نابليون، لتؤكد أن مَن يحاول ابتلاع "قلب الأرض" يختنق به.

أما في حقبة الحرب الباردة، فقد تجلّى الصراع بين فِكر ماكيندر وسبايكمان، وفق ما يذكر كريستوفر فيتوايس. فواشنطن، وريثة الإمبراطورية البحرية البريطانية، تبنّت إستراتيجية "الاحتواء" التي صاغها الدبلوماسي والمفكر الأميركي جورج كينان، والمبنية على إنشاء طوق من التحالفات والقواعد العسكرية يمتدّ على طول منطقة "حافة المحيط" (أو الريملاند).

في المقابل، أحكم جوزيف ستالين قبضته على شرق أوروبا، وحوّل دولها إلى أقمار تدور في فلك موسكو، تطبيقا فعليا لمعادلة ماكيندر بأن مَن يحكم شرق أوروبا يسيطر على القلب. وبين هذين المعسكرين، نزلت "الستارة الحديدية" التي فصلت أوروبا إلى كتلتين متقابلتين، كتلة برية مغلقة بقيادة الاتحاد السوفياتي، وتحالف بحري أطلسي يطوّقها من الأطراف.

ويشير الكاتب البريطاني تشارلز كلوفر إلى أن صراع القطبين اتخذّ أشكالا تقنية وعسكرية جديدة، خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، غير أن ذلك لم يقلل من جوهر المعركة الجغرافية. فالقوى البحرية واصلت حماية الممرات والمحيطات، بينما سعت موسكو إلى كسر الطوق والوصول إلى "المياه الدافئة" عبر دعمها لحلفائها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

ورغم انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي، فإن معادلة ماكيندر لم تسقط، إذ ظلّ "قلب الأرض" مركزا جاذبا للقوى، وعادت روسيا بعد عقود لتعيد التجربة نفسها في أوكرانيا، التي تقف مجددا على تخوم القلب الأوراسي.

روح ماكيندر في جسد روسي

في تسعينيات القرن الماضي، برز اسم الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين مع صدور كتابه المؤثر "أسس الجيوبوليتيكا: المستقبل الجيوسياسي لروسيا"، الذي قدّم فيه رؤية تدعو إلى تقويض النظام الدولي الليبرالي الغربي، وتأسيس تحالف أوراسي برّي تقوده موسكو في مواجهة القوى "الأطلسية" البحرية، التي تُمثِّلها الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا.

مصدر الصورة المفكر الروسي ألكسندر دوغين (أسوشيتد برس)

ويرى تشيس نيلسون، ضابط سلاح مشاة البحرية الأميركية والباحث في الشؤون الجيوسياسية، أن كتاب دوغين وضع الأسس الفكرية لمشروع يستهدف استعادة موقع روسيا الإمبراطوري المفقود بعد الحرب الباردة، عبر زعزعة النظام الغربي القائم وبناء نظام موازٍ يرتكز إلى الهوية الأوراسية ومفهوم الصراع الوجودي بين البرّ والبحر.

ويضيف نيلسون أن دوغين لم يبتكر أطروحته من فراغ، بل استند إلى إرث الجيوبوليتيكا الكلاسيكية، مستلهما بالخصوص أفكار البريطاني هالفورد ماكيندر والأميركي ألفرد ماهان، اللذين شكّلا معا أساس التفكير الإستراتيجي في القرن العشرين حول صراع البرّ والبحر.

ففي كتابه، كما يوضح نيلسون، أدرج دوغين اقتباسات من أعمال ماكيندر وماهان، وأعاد صياغة مفاهيمهما القديمة في قالب قومي روسي جديد، يرى العالم مقسوما بين قوى برّية تُمثِّلها أوراسيا، وقوى بحرية يُجسِّدها الغرب الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة.

إعلان

هذه الرؤية يؤكدها الباحث الباكستاني محمد علي ظفر، إذ يشير إلى أن دوغين استعاد مفاهيم ماكيندرية، مثل القلب القاري والهلال الداخلي، لكن من منظور قومي روسي، فالقوى الأطلسية عنده تُمثِّل حضارة بحرية تسعى لخنق روسيا، بينما عليها أن تقود تحالفا بريا لطرد النفوذ الأميركي من أوراسيا.

ويشير نيلسون إلى أن دوغين اعتبر أوكرانيا المستقلة خطرا على المشروع الأوراسي برمّته، وأنه "ما لم يُحلّ المشكل الأوكراني، فلا معنى للحديث عن سياسة قارية"، على حدّ تعبيره. كما رأى في تفكيك أوكرانيا وعودتها إلى الفلك الروسي مسألة وجودية لإحياء الإمبراطورية الأوراسية، مؤكدا أن السيطرة الكاملة على الساحل الشمالي للبحر الأسود، من أوديسا الأوكرانية إلى أبخازيا في جورجيا، حتمية جيوسياسية لروسيا.

ورغم أن هذه الأفكار بدت حين صدورها في تسعينيات القرن الماضي أقرب إلى هذيان قومي في دولة ما بعد السوفييت المنهكة، فإنها سرعان ما تسربت إلى الأكاديميات العسكرية الروسية، وبدأت تُدرّس في بعض الكليات الحربية بوصفها مراجع نظرية.

ومع صعود فلاديمير بوتين إلى الحكم، وجدت هذه الرؤية طريقها تدريجيا إلى خطاب الكرملين. ومع أن بوتين لم يُعلن يوما تبنّيه المباشر لفكر دوغين، لكنه استعار مفاهيمه المركزية، مثل "الأوراسية الجديدة" و"العالم الروسي"، لتبرير سياسة تقوم على استعادة المجال الجيوسياسي الروسي القديم في مواجهة الغرب الأطلسي.

وفي عام 2007 صرّح نيكولاي باتروشيف، رئيس مجلس الأمن القومي وأحد أبرز رجال الاستخبارات، لصحيفة "إزفيستيا"، مستشهدا حرفيا بنظرية ماكيندر: "مَن يسيطر على شرق أوروبا يحكم قلب الأرض".

وبعد عامٍ واحد فقط، حين لمح الناتو إلى إمكانية ضم جورجيا وأوكرانيا، رسم بوتين خطه الأحمر بوضوح، فاجتاحت الدبابات الروسية جورجيا في أغسطس/آب 2008 وانتزعت منها أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ثم غزت شبه جزيرة القرم عام 2014، وأخيرا أوكرانيا عام 2022، في حربٍ تجلّت فيها مقولة ماكيندر بأوضح صورها.

قلب الطاقة.. ماكيندر نسخة القرن الـ21

بدورها، واصلت الولايات المتحدة اهتمامها بالمنطقة في أعقاب الحرب الباردة، لكنه اتخذ ملامح جديدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، حين برزت آسيا الوسطى بوصفها محورا أمنيا واقتصاديا في الإستراتيجية الأميركية. فقد تحولت من فضاء نفوذ سوفياتي سابق إلى ساحة تنافس جيوسياسي حاد، ووجدت واشنطن في "الحرب على الإرهاب" ذريعة لتوسيع وجودها العسكري والسياسي هناك، خصوصا عبر قواعدها في أوزبكستان وقرغيزستان.

ومنذ ذلك الحين، ربطت الإدارات الأميركية أمن المنطقة بمفهوم "الاستقرار طويل الأمد"، كما عبّر وزير الخارجية كولن باول ، مما جعل آسيا الوسطى جزءا لا يتجزأ من التصور الأميركي للأمن العالمي.

ويشير ويستنلي ألسينات، أستاذ التاريخ المساعد في جامعة فوردهم الأميركية، إلى أن هذا التوسع لم يكن أمنيا فحسب، بل تشابك مع اعتبارات اقتصادية وجيوسياسية أوسع.

فقد سعت واشنطن إلى دعم أنظمة موالية تتبنى نموذج الاقتصاد الحر تحت لافتة "التحول الديمقراطي"، بما يضمن وصول الشركات الغربية إلى موارد الطاقة والمعادن الهائلة في المنطقة. وهكذا، تداخل خطاب الديمقراطية مع إستراتيجية السيطرة على الموارد، بحيث أصبحت الديمقراطية أداة لتهيئة بيئة اقتصادية مواتية أكثر منها هدفا أخلاقيا بحد ذاته.

ألسينات يفسر ذلك بأن الجغرافيا السياسية ليست مجرد صراع بين دول، بل تتأثر أيضا بعوامل داخلية، مثل مصالح الشركات الكبرى والرأي العام والمؤسسات الاقتصادية. ففي كلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا، تتقاطع القوة الداخلية الممثلة بشركات الطاقة العملاقة مع القوة الرسمية للدولة، لتُشكِّل معا ملامح السياسة الخارجية تجاه آسيا الوسطى.

بمعنى آخر، السياسة الجيوستراتيجية ليست محكومة بالحدود فقط، بل تتشكل من الداخل أيضا. ففي الحالة الأميركية مثلا، يعني الانفتاح على أسواق آسيا الوسطى تمكين شركات النفط والطاقة متعددة الجنسيات من استغلال الموارد الطبيعية هناك.

وفي المقابل، تسعى روسيا إلى أن تمر أنابيب النفط والغاز عبر أراضيها لتبقى الممر الإلزامي للطاقة نحو الغرب. وهكذا، حتى الشركات الحكومية الروسية مثل "غازبروم" لا تعمل بدوافع وطنية بحتة، بل تُمثِّل مصالح تجارية تقيّد أحيانا قرارات الدولة نفسها.

وعليه، يمكن القول إن الاهتمام الأميركي بآسيا الوسطى بعد الحرب الباردة شكّل تجسيدا حديثا لنظرية ماكيندر في ثوبها الاقتصادي والأمني المعولم. فالمنطقة ما زالت تُعامل محورا جيوسياسيا تتحرك حوله حسابات القوى الكبرى، لكن أدوات النفوذ تغيّرت من الغزو والاحتلال إلى التحالفات والأسواق والطاقة والأنابيب. وبينما يراهن بعض المفكرين على أن العولمة أضعفت مركزية "قلب العالم"، ترى الواقعية الأميركية أن مَن يمسك بمفاتيح آسيا الوسطى لا يزال يملك ورقة ضغط حاسمة في ميزان القوى العالمي.

هكذا، لا تزال الجغرافيا تفرض منطقها على التاريخ. فخلف سباق السيطرة على خطوط الطاقة، وخلف جبهات التماس الممتدة من سهوب أوكرانيا إلى حوض قزوين، تتكرّر المشاهد القديمة فوق تضاريس مألوفة، حسمت مصير نابليون وهتلر من قبل.

لم تتغير الخرائط بقدر ما تغيّر اللاعبون، وظلّ قلب العالم يدور في مكانه، تُستبدل بالدبابات خطوط الأنابيب، وبالمعارك العسكرية حروب الأسواق والتحالفات. ووراء ذلك كلّه، يتحرك طيف هالفورد ماكيندر الذي منح العالم عدسة فريدة لفهم السياسة بمنظار المكان، وترك أثرا عميقا في كيفية تموضع القوى وتبادل مراكزها، بما يجعله -بحقّ- عرّابا خفيا لنزاعات القرن العشرين وما بعده.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا