في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تحولت منطقة تيغراي شمالي إثيوبيا والمعروفة باحتياطياتها الكبيرة من الذهب، إلى ساحة كبيرة لاستخراج وتهريب المعدن النفيس، حيث خلقت سنوات الحرب وما بعدها واقعا جديدا أصبحت فيه المناجم الحرفية شريان حياة يغذي الجماعات المسلحة، مما عقد من جهود إرساء الاستقرار في المنطقة.
وتصف العديد من التقارير تيغراي قبل الحرب الأخيرة (2020-2022) بأنها كانت ثاني أكبر منتج للذهب في إثيوبيا بعد إقليم أوروميا، حيث كانت المنطقة تورد نحو 26 قنطارا (2.6 طن متري) من الذهب سنويا إلى البنك الوطني الإثيوبي، بقيمة تقدر بنحو 100 مليون دولار من عائدات التصدير.
حضور الذهب في الثقافة والتراث التيغراويين يضرب عميقا في التاريخ، حيث يروي كتاب "كبرا نقست" (مجد الملوك)، وهو الكتاب المقدس للإمبراطورية الإثيوبية، تفاصيل ملحمية لزيارة ملكة سبأ (مكيدا) لنبي الله سليمان، حيث جاءته محملة بالذهب كرمز لعظمة مملكتها في أكسوم الواقعة في تيغراي شمالي إثيوبيا وأجزاء من إريتريا الحالية، وتشير النصوص التوراتية إلى أن الذهب كان بكميات هائلة تبلغ قرابة 4 أطنان.
وبغض النظر عن تفاصيل القصة، فهي تشير إلى أهمية المعدن النفيس في ظل الدولة الأكسومية، ويوضح مقال نشره الزميل الباحث في "مركز الأبحاث القانونية الصيني الأفريقي" ميتاسيبيا هايلو زيليكي، أن المملكة كانت من الإمبراطوريات القليلة في زمانها التي استخدمت الذهب في صك عملتها، كما كان المعدن الأصفر من أهم صادراتها.
وتشير ورقةٌ شارك في كتابتها الأستاذ في جامعة غنت البلجيكية، جان نيسن، إلى أنه على مر القرون، أصبح التعدين الحرفي للذهب مصدر دخل رئيسيا للمجتمعات المحلية في تيغراي، حيث كان الشباب الريفيون يهاجرون موسميا إلى الوديان المنخفضة والوديان غير المأهولة، مثل وادي نهر ويري، للبحث عن الذهب الغريني الذي جرفته عوامل التعرية من عروق الكوارتز التي تحتوي على الذهب.
أفادت شركة "صن بيك ميتالز" بوجود 2.8 مليون أونصة من الذهب والمعادن المكافئة للذهب في تيغراي. وتتمركز احتياطيات الذهب في إثيوبيا بشكل أساسي في منطقة "الدرع العربي النوبي" التي تُعد تيغراي جزءا هاما منها.
وتتركز معظم احتياطيات الذهب والمعادن الأخرى في مناطق تيغراي الشمالية الغربية والوسطى، وبشكل أقل في المناطق الشرقية والجنوبية الغربية. وتنتشر هذه الرواسب في التلال المنخفضة الممتدة على طول الأنهار الرئيسية مثل غيبا، ويري، ومرب، بالإضافة إلى المناطق المحيطة بتمبين، وأبرجيل، وغيرهما.
وصفت مقالة منشورة على موقع "ذا ناشيونال إنترست" الأميركي حرب تيغراي بأنها قد تكون أعنف صراع مسلح في القرن الـ21، حيث تجاوزت آثارها الخسائر البشرية والاقتصادية الهائلة إلى التحول إلى نقطة انعطاف رئيسية في مصير ذهب الإقليم مع انتشار التعدين غير الرسمي وتحوله إلى مصدر رئيسي للصراعات داخل الإقليم المنكوب.
وقد أدت المعارك الطاحنة إلى دمار واسع النطاق وانهيار البنية التحتية، تاركة السكان في حالة من التردي الاقتصادي الحاد، حيث دفع تدمير سبل العيش التقليدية وانعدام فرص العمل، التعدين الحرفي للذهب للتحول إلى مصدر الدخل الرئيس للكثيرين.
وفي تقرير لموقع "100 ريبورتز"، أشار أحد المقاتلين السابقين في قوات دفاع تيغراي والذي أصبح الآن عامل تعدين، إلى أن الحرب "دمرت تيغراي وطريقة حياتنا القديمة"، وأنه "بعد الحرب، لم يكن هناك شيء يمكننا القيام به".
وكان من الطبيعي في ظل هذه الظروف انتشار عمليات التعدين الحرفي غير القانونية، حيث يوضح تقرير صادر عام 2024 عن شركة "كيرمد" للمحاماة، وهي شركة حققت في التعدين غير القانوني مقرها تيغراي، أن أكثر من 100 ألف من عمال مناجم الذهب الحرفيين التقليديين يعملون في المنطقة.
وتشير العديد من التقارير إلى تشكل حالة من الفراغ في هياكل حوكمة الإقليم أثناء الحرب وبعدها، خالقة بيئة مثالية للجهات الفاعلة غير الحكومية للسيطرة على قطاع الذهب.
وبعد أن كانت تيغراي قبل الحرب ثاني أكبر مورد رسمي للذهب للبنك الوطني الإثيوبي، فقد انخفضت هذه المساهمة بشكل كبير، حيث تخمن بعض التقديرات التي نشرها تقرير لمعهد "تشاتام هاوس" البريطاني الذهب المهرب بما يصل إلى 6 أطنان سنويا، وهو ما يفوق بكثير الصادرات الرسمية الحالية.
من حيث القيمة السوقية، تُقدر قيمة الذهب المُهرَّب بما يتراوح بين 2 و3.49 مليارات دولار أميركي سنويا، وهو رقم يُعادل إجمالي عائدات صادرات الذهب الإثيوبية خلال الفترة نفسها (ملياري دولار)، ويفوق بكثير الميزانية السنوية لإقليم تيغراي التي لا تتجاوز 100 مليون دولار.
في مقال لها على موقع "أديس ستاندرد" الإثيوبي، توضح الخبيرة في الخدمة العامة باتسيبا كاساهون أن تجارة الذهب غير المشروعة في تيغراي تحولت إلى تجارة شديدة التسليح والعنف والاستغلال، تنخرط فيها شبكة معقدة من الجهات الفاعلة المحلية والدولية، غذّت الصراعات وعدم الاستقرار الإقليمي متجاوزة في نشاطها الحدود الإثيوبية.
ورغم تورط رجال أعمال محليين ورعايا أجانب في هذه التجارة غير المشروعة، فإن التقارير تُشير إلى قوات دفاع تيغراي والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي كأهم المتورطين في هذه النشاطات، حيث تشرف قيادات من هذه القوات وأعضاء من الجبهة على معظم عمليات التعدين غير القانوني في الإقليم.
ومن بين المتهمين بالمشاركة في هذه التجارة العميد ميجبي هايلي، وهو مسؤول عسكري رفيع المستوى في الجيش في شمال تيغراي، وقد اتهمته قوات الدفاع الوطني الإثيوبية في مارس/آذار 2025 علنا بتجاوز صلاحياته العسكرية والمشاركة في عمليات اختلاس وتهريب ذهب "تيغراي عبر إريتريا للإثراء الشخصي"، ورد ميجبي بالنفي القاطع لهذه الاتهامات.
بالإضافة إلى ما سبق، تستغل الشركات الأجنبية والوسطاء وغاسلو الأموال الفراغ الإداري بعد النزاع للعمل مع مسؤولين عسكريين محليين، ومقاتلين سابقين، وبيروقراطيين فاسدين، مما يرسخ وجودهم في شبكات التعدين غير القانونية في المنطقة، وتذهب الأرباح الناتجة عن هذه التجارة إلى جيوب عدد قليل من "الجنرالات الأقوياء والجهات الفاعلة الأجنبية" وفقا لتقرير "100 ريبورتز".
وكشف تقرير استقصائي صادر عن منظمة "ذا سنتري"، وهي منظمة متخصصة في التحقيقات الاستقصائية، عن أدلة تشير إلى أن القوات الإريترية "انخرطت ونسقت عمليات نهب" للذهب وغيره خلال النزاع في تيغراي وبعده.
في حين يشير معدو التقرير إلى أن أدلتهم تظهر أن الجيش الإريتري جزء هام من شبكات تهريب الذهب من الإقليم المنكوب، وهو أحد المصادر الرئيسية للإيرادات التي تم الحصول عليها بشكل غير قانوني.
تتم دورة استخراج الذهب وتهريبه من الإقليم إلى الخارج عبر عدة مراحل تبدأ من المناجم، حيث يفرض جنرالات من المنطقة سيطرتهم العسكرية على مواقع التعدين الرئيسية في مناطق كهينتساتس، وملي، وماتو بولا حيث يمنع الحرس دخول الغرباء، ويستخدمون إشارات عاكسة ويطلقون طلقات تحذيرية لردع المتسللين، ولا يسمحون إلا لأفراد محددين بالدخول.
وفي تصريح لـ"100 ريبورتز"، أوضح تيدروس كحساي، وهو مقاتل سابق في قوات الدفاع عن تيغراي، ويتولى حاليا مسؤولية أمن منظمة غير حكومية نشطة في الإقليم، أن "الجنرالات يسيطرون على أفضل الأراضي الحاملة للذهب"، وأنه حتى المنظمات الإغاثية الدولية لا تستطيع دخول هذه المناطق دون موافقة رفيعة المستوى.
ويغلب على عمليات الاستخراج الضخمة اللجوء إلى التعدين السطحي، وهي ممارسة شائعة في العمليات غير القانونية نظرا لتكلفتها المنخفضة وسهولة تنفيذها، وتتضمن في الغالب معالجة الذهب باستخدام الزئبق الضار بالبيئة والسكان.
ويوضح مقال منشور على "أديس ستاندرد" أن الذهب المستخرج من تيغراي يُهرَّب إلى الخارج عبر شبكة طرق معقدة، يمرُّ أحدُ أهم هذه الطرق عبر أديابو وبادمي عابرا نهر مرب إلى إريتريا قبل أن يتجه إلى دبي.
في حين ثمة طريق آخر يستخدم المهربون عبره مركبات مُموّهة بشارات الأمم المتحدة ومنظمات دولية، مما يُتيح التهريب من شيري إلى أديس أبابا عبر مقلي عاصمة الإقليم. وتربط طرق أخرى تيغراي بأرض الصومال وكينيا وأوغندا، حيث تُشكّل دبي المركز الرئيسي لهذه التجارة غير المشروعة.
وفي هذا السياق تمثل مدينة شيري في شمال غرب تيغراي، مركزا لتجارة الذهب في السوق السوداء في الإقليم، يزدحم سوقها عصرا بالبائعين والمشترين الذين يتصلون بمصادرهم للتحقق من أسعار الذهب في الأسواق العالمية.
"قطاع الذهب يزداد عسكرة في إثيوبيا"، هكذا يرفع تقرير صادر عن "تشاتام هاوس" الصوت محذرا من أن توسع تعدين الذهب غير المشروع يفاقم صراعات إثيوبيا المعقدة، حيث تتنافس جهات مسلحة غير حكومية على عائدات الذهب لتوسيع سلطتها المحلية، وفي بعض الحالات تتحدى سلطة الدولة.
ويكشف تقرير من أجزاء نشره موقع "أديس إنسايت" الإثيوبي عن تحول مواقع التعدين في تيغراي إلى ساحات معارك، حيث تندلع اشتباكات دامية بانتظام مع تنافس الجماعات المسلحة على السيطرة على هذه النقاط، حيث لا يقتصر دور تجارة الذهب غير المشروعة على تأجيج هذه الصراعات فحسب، بل يُغذيها أيضا موفرا الموارد المالية اللازمة لتسليح المليشيات وإطالة أمد العنف.
وكان الخلاف الحاد على السيطرة على مناجم الذهب والشركات المملوكة للدولة في الإقليم في قلب الصراع الذي أدى إلى انقسام الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إلى فصيلين متصارعين مطلع 2025، حيث أدى التنافس بينهما إلى تدهور الوضع الأمني وبلوغه حدودا حرجة وتهديد اتفاق بريتوريا للسلام الذي وُقّع في عام 2022.
أحد الآثار الهامة لتجارة الذهب غير المشروعة هو نشوء اقتصاد ظل تتم عبره عمليات التهريب والتمويل وغسيل الأموال، وبالنظر إلى أن المعلومات حول هذه الاقتصاد تكتنفها السرية التامة فيمكن قياسه على تهريب السمسم المعروف بالذهب الأبيض من مناطق غربي تيغراي، ودوره في تغذية نشاط المجموعات المسلحة.
ويشير تقرير مطول لمعهد "شاتام هاوس" إلى استخدام مليشيات الفانو المسيطرة على المنطقة شحنات السمسم إلى إريتريا كدفعات مقابل التدريب والدعم العسكري الذي تتلقاه من قوات الدفاع الإريترية، كما تمول هذه التجارة غير المشروعة بشكل مباشر شراء الأسلحة.
ومن المفارقات ما يلحظه التقرير من أن السعي خلف الربح يدفع مليشيات الأمهرة إلى بيع الأسلحة إلى خصومهم من التيغراي، مما يوضح كيف يمكن للتجارة غير المشروعة أن تسهل تدفق الأسلحة حتى بين الفصائل المتعارضة، مما يزيد من تعقيد النزاعات في إثيوبيا.
إن التكاليف البيئية والبشرية لتجارة الذهب غير المشروعة في تيغراي باهظة، ويفصل تقرير نشرته "صوت أميركا" ممارسات التعدين غير المنظمة، بما في ذلك استخدام مواد كيميائية خطرة مثل السيانيد والزئبق، حيث تصنف منظمة الأغذية العالمية الأخير باعتباره واحدا من المجموعات الكيميائية العشر الأكثر تشكيلا للمخاوف على الصحة العامة.
بجانب ما سبق، أدى التعدين غير الشرعي إلى تلويث التربة ومصادر المياه، مما يُشكل مخاطر صحية جسيمة على المجتمعات المحلية، وترسم تقارير صورة قاتمة عن تشوهات الماشية وتدهور الأراضي الزراعية والعواقب الصحية طويلة المدى على السكان والخسائر البشرية الناتجة عن هذه الصناعة غير المشروعة.
يُعدّ عمال المناجم الأجانب، الذين يعملون غالبا في ظلّ إفلات من العقاب، من بين أسوأ المخالفين. فاستخدامهم للمواد الكيميائية السامة لا يُدمّر البيئة فحسب، بل يُفاقم أيضا الأوضاع الإنسانية المتردية أصلا في تيغراي، مما دفع بعض السكان إلى المحاكم سعيا لتحقيق العدالة، وإجبار القضاة على التحرك ضد عمال مناجم الذهب، الذين يتهمونهم بتلويث البيئة والتسبب في اعتلال صحة أطفالهم.
في حين يشير العديد من الاقتصاديين إلى أن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن هذه التجارة لا تقل قيمة وأثرا عن الجوانب البيئية، حيث يؤدي سيطرة مجموعات معينة على الذهب المهرب إلى خسارة الدولة والإقليم لمليارات الدولارات سنويا، حيث كان من الممكن لهذه الأرباح أن تسهم في إعادة انتشال الإقليم من ركام الحرب وما خلفته من دمار شامل في بناه التحتية والعلمية والصحية والاقتصادية.