في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
لم تكن الهدنة بين إيران و إسرائيل ، في المشهد الإعلامي الأوروبي، مجرد عنوان عابر في تغطيات الأخبار العاجلة، بل تحوّلت إلى موضوع مركزي للقراءة والتحليل، لا سيما في الصحافة ذات النزعة التحليلية مثل إلباييس الإسبانية، لوموند الفرنسية، دير شبيغل الألمانية.
فبين سطور الافتتاحيات وتقارير الرأي، بدت الهدنة وكأنها مرآة مكبّرة لأزمة ثقة أوسع، تطال طبيعة إدارة الأزمات في الشرق الأوسط . ولم تركّز هذه الصحف على مشاهد الدمار أو عدد القتلى، بل انصب اهتمامها على تفكيك الرمزية السياسية لتوقيت التهدئة، واللغة التي اختارها صانعو القرار، والمصالح المتشابكة التي دفعت الأطراف للقبول بوقف إطلاق النار رغم توتّر المشهد وسخونته الظاهرة.
وفي وقت انشغلت وسائل الإعلام الرسمية في بعض الدول بترويج خطاب "الانتصار الرمزي" أو "الردع المتبادل" جاءت المقاربات الأوروبية أكثر برودا، وأشد ميلا للتشكيك في استدامة التهدئة.
ففي كثير من المقالات والتحليلات، خضع مفهوم "الهدنة" لتشريح مفاهيمي صارم، وهو:
ولم يكتف الصحفيون الأوروبيون بإعادة تدوير البيانات الرسمية، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، متسائلين: من يملك مفاتيح الاستمرار في هذه الهدنة؟ وهل لدى الأطراف المعنية الاستعداد الحقيقي لاقتناصها كفرصة سلام، أم أنها مجرّد ورقة في لعبة أعصاب مفتوحة؟
يرى الكاتب الفرنسي ألان فراشون (صحيفة لوموند) أن وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل لا يمثل نهاية للتصعيد، بل هو هدنة مشوبة بالغموض وتفتقر لأي ضمانات فعلية.
ويعتبر فراشون أن هذا "السكون المؤقت" يخفي خلفه توترات قابلة للاشتعال في أي لحظة، لا سيما في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، وتجاهل الأطراف لمسار دبلوماسي جاد.
وبالنسبة له، فإن غياب توافقات حول الملفات الجوهرية، كالقضية النووية والوضع في غزة، يجعل من الهدنة مجرد محطة مرحلية في نزاع يتسع ولا ينحسر، إذ لم تتوفر بعد شروط التهدئة الحقيقية.
ومن جانبها، تعتبر الكاتبة الإسبانية أنجيليس إسبينوزا (صحيفة إلباييس) أن الهدنة لا ترقى إلى مستوى مبادرة سياسية، بل جاءت لاحتواء انفجار وشيك، وتصفها بأنها "تغطية هشّة لصراع تتفاعل جذوره بعمق، ويغذّيه الخطاب العدائي المتواصل".
وتلفت إسبينوزا إلى أن طهران تنظر إلى التهدئة كفرصة لإظهار قدراتها الرادعة لا كتنازل عن طموحاتها الإقليمية، في حين تعاني إسرائيل من تآكل داخلي في الثقة بسبب الارتباك الأمني والسياسي.
وتؤكد أن غياب اتفاقات واضحة، وعدم انخراط أطراف مثل حزب الله، يجعلان من هذه الهدنة إجراء ظرفيا هشا لا يمكن الركون إليه، مشيرة إلى أن القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تفتقر إلى خطة شاملة تضمن تحويل هذا التوقف العسكري إلى عملية سياسية حقيقية، خاصة في ظل تعقيدات الملف النووي الإيراني، وانعدام الثقة المتبادل بين الطرفين.
وفي مقاله المعنون "نتنياهو وترامب ضد إيران.. ماذا لو كانا على حق؟" يرى الكاتب الألماني ستيفان كوزماني (صحيفة دير شبيغل) أن وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل لم يأت من جلوس على طاولة المفاوضات أو عن تخطيط مسبق، بل كان استجابة مباشرة لأوامر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الداعية لوقف إطلاق النار الفوري من الطرفين.
ويبرز الكاتب قلقه إزاء هذا التوقف العسكري الذي يصفه بالمفاجئ، خاصة في ظل غياب مساع تفاوضية حقيقية أو دور فاعل للجهات الأوروبية، مما يجعل هذا القرار يبدو غير نهائي، وبالتالي فإن العودة في أي لحظة، إلى الحرب واستمرار حالة عدم الاستقرار، أمر حتمي.
أما الصحفية الفرنسية كلود غيبال (كبيرة المحررين في القسم الدولي لإذاعة فرانس إنتر) فتسلّط الضوء على صمود النظام الإيراني في مواجهة الضربات الإسرائيلية والضغوط الاقتصادية حيث إن الضربات الأميركية لم تُحدث اختراقا في بنية النظام، وإن القيادة الإيرانية نجحت في امتصاص التصعيد بفضل تماسك داخلي مدعوم شعبيا، وردود محسوبة.
ومع ذلك، تُنبه غيبال إلى أن هذا التماسك لا يخفي هشاشة البنية الاقتصادية والسياسية في إيران، التي تجعل مستقبل النظام مرهونًا بتقلبات الداخل وسياسات الخارج، وخصوصا ما ستقرره الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة.
رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية اللواء عبد الرحيم موسوي يشكك في التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار الذي وضع حدا للحرب بينها وبلده الذي أكد جاهزيته "لرد قوي عليه في حال تكرار العدوان"
للمزيد: https://t.co/vzfSQ3Ugcl pic.twitter.com/kKmXF1VNb1
— Aljazeera.net • الجزيرة نت (@AJArabicnet) June 29, 2025
وفي المقابل، ركز الصحفي الألماني رونن شتاينكي (صحيفة زود دويتشه تسايتونغ) على الجانب الإجرائي من الهدنة، معتبرا إياها ظرفية أقرب إلى استراحة عمليات، وليست مدخلا إلى سلام مستقر حيث يوضح أن إيران، وإن بدت في موقع قوة، فإنها تعاني من ضغوط داخلية تفرض عليها قبول التهدئة مؤقتا، بينما تسعى إسرائيل إلى استغلال الوقف المؤقت للعمليات لإعادة ترتيب أوراقها الأمنية.
ويحذر شتاينكي من هشاشة الهدوء القائم، خاصة في ظل استمرار أنشطة الفاعلين الإقليميين غير الحكوميين، مثل حزب الله والمليشيات الحليفة لطهران التي تمتلك القدرة على تفجير الموقف من جديد، مشيرا إلى أن القوى الغربية، رغم احتفائها بالهدنة، لا تملك إستراتيجية متكاملة لمعالجة جذور الأزمة، مما يجعل من استمرار التوتر أمرا شبه محسوم.
أما الكاتب البريطاني جدعون رشمان (صحيفة فايننشال تايمز) فيقدم مقاربة تشكك بعمق في دوافع الهدنة، معتبرا أنها حدثت نتيجة ضغوط سياسية دولية ولا تعكس توافقا فعليا.
ويشير رشمان إلى أن الولايات المتحدة اندفعت نحو التهدئة خشية تداعياتها الانتخابية، وليس ضمن رؤية دبلوماسية ناضجة، ويصف الهدنة بأنها "إملاء جيوسياسي" أكثر من أن تكون اتفاقا نابعا من مفاوضات، مؤكدا أن الطرفين ما يزالان يراهنان على تحقيق مكاسب إستراتيجية لا الدخول في تسوية شاملة.
ويلفت إلى أن إسرائيل لم تخرج بانتصار حاسم، في حين تستثمر إيران التوتر لتأكيد موقعها الإقليمي، وأن الصراع لا يقتصر على الجانب العسكري بل يمتد إلى منافسة أيديولوجية وطائفية على النفوذ بالمنطقة، ويحذر من تجاهل دور الوكلاء الإقليميين كالمليشيات المدعومة من إيران التي قد تفجر الوضع في أية لحظة.
يقدّم الصحفي الإيطالي جيانلوكا ديفو (صحيفة لاريبوبليكا) مقاربة أكثر ميلا للتفاؤل الحذر بشأن وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، معتبرا إياه نقطة انطلاق محتملة نحو تهدئة مستدامة إذا ما تم استثمارها بحكمة.
وفي مقاله المعنون بـ"هدنة إيران وإسرائيل.. دور قطر واختيار ترامب: كيف تم التوصل إلى وقف إطلاق النار؟" يشير ديفو إلى أن هذا التوقف في الأعمال العدائية يمثل لحظة نادرة لالتقاط الأنفاس في منطقة أنهكتها المواجهات المستمرة.
ويبرز بشكل خاص الدور الخفي والفعال الذي أدّته قطر، عبر التوسط غير المباشر وتهيئة أرضية من الثقة خلف الكواليس، مما أتاح فتح قنوات تواصل ساهمت في بلورة التهدئة.
ويرى ديفو أن الإدارة الأميركية، وتحديدا الرئيس ترامب، لعب دورا تاريخيا في دفع الأطراف نحو وقف إطلاق النار، ليس فقط من أجل احتواء التوتر الإقليمي، بل أيضا لتسجيل حضور سياسي يعزّز صورته كلاعب مؤثر على الساحة الدولية.
ويلاحظ الكاتب أن الهدنة انعكست إيجابيًا على بعض الجبهات الاقتصادية، من بينها أسواق الطاقة، مما جعلها تحقّق بعض المكاسب الفورية على أكثر من صعيد.
ورغم هذه الإيجابيات، لا يُخفي ديفو قلقه من تدهور الأوضاع في كلا البلدين، مذكرا بأن هذه التهدئة مهمة جدا بل فرصة نادرة يجب ألا تُهدر، داعيا المجتمع الدولي إلى البناء عليها، وتحويلها من "فرصة ظرفية" إلى مسار دبلوماسي ناضج يفضي إلى نتائج ملموسة.
View this post on Instagram
في تحليل مشترك نُشر بصحيفة إلباييس، قدّم الصحفيان الإسبانيان إيكر سيسديدوس ولويس دي فيغا رؤية نقدية لتوقيت وظروف إعلان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، واصفين إياه بأنه "ترتيب فرضته الضرورة" أكثر من كونه مبادرة نابعة عن قناعة الأطراف أو تقارب في المواقف.
ويلفت الكاتبان إلى أن هذا الاتفاق جاء في سياق متوتر اختلطت فيه الاعتبارات السياسية بالأمنية، حيث دفعت التحذيراتُ الدولية من انزلاق واسع النطاق الأطرافَ إلى اتخاذ خطوة تهدئة لا تعبّر بالضرورة عن تحوّل جذري في النيات أو التوجهات.
ويشيران إلى أن إسرائيل دخلت الهدنة مثقلة بارتباك وضغط داخلي، بعد فشلها في تحقيق مكاسب ملموسة، مما غذى شعورا عاما بالخيبة والضغط السياسي لدى حكومة بنيامين نتنياهو . وفي المقابل، تعاملت طهران مع التهدئة كفرصة لتعزيز خطابها الدعائي، مستندة إلى شبكة علاقاتها مع الفصائل الإقليمية التي منحتها ورقة ضغط فعّالة على خصومها.
ويحذّر الكاتبان من أن غياب أية هندسة تفاوضية جدية، وتفاقم الانقسام الأيديولوجي والطائفي، يجعلان من وقف إطلاق النار لحظة مؤقتة محفوفة بالمخاطر. كما يسلطان الضوء على المزاج الشعبي العام، حيث لا ينظر السكان، في كلا الطرفين، إلى الهدنة كإنجاز، بل كمجرد فسحة زمنية هشّة في انتظار موجة جديدة من العنف.
ويشددان على أن الاستمرار في هذا المسار يتطلب أكثر من مجرد ضبط للنيران، بل يحتاج إلى إرادة سياسية صادقة، وإعادة تعريف الأولويات الإقليمية، وإدماج الأطراف الهامشية في أي حوار محتمل. فبدون ذلك، ستظل الهدنة -على حد وصفهما- حلا سطحيا مؤقتا مهددا بالانهيار عند أول اختبار جدي.
وفي النهاية، يؤكد المشهد الأوروبي أن الهدنة بين إيران وإسرائيل ليست سوى فصل مؤقت في قصة طويلة من الصراع الممتد، وأن الطريق إلى سلام حقيقي لا يزال معتمدا على نضج سياسي، وتفاهمات إقليمية ودولية عميقة، تضع مصلحة الشعوب فوق المصالح الأيديولوجية والتكتيكات العسكرية.