آخر الأخبار

"فالذكر للإنسان عمر ثانٍ".. فلسفة الموت لدى الشعراء في الجاهلية والإسلام

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

يدهم الموت الإنسان في أيّ لحظة بدون أيّ مقدمات، فتنتهي حياته، أو تنقضي آجال أحبة من حوله، لكن يقال: "إن الأحبة لا يموتون وإن دُفنوا"، فما رأيكم بذلك؟

يعد حديث الموت من أقدم المسائل التي شغلت الفكر الإنساني، واحتلت مكانة واسعة في الأدب، فقد حضر الموت بقوة في الشعر العربي عبر العصور، وتناوله الشعراء والأدباء من زوايا متعددة، فمنهم من رأى أن الموت قدر محتّم تقتضيه طبيعة الحياة ونواميس الكون، لا سيما في العصر الجاهلي، ومنهم من رأى أنه أجلٌ مكتوب وقضاء نازل لا مفر منه مهما تعددت الأسباب واختلفت الأزمنة والأمكنة، استناداً إلى الإيمان وحقيقة الحياة والموت التي جاء بها الإسلام، ومنهم من رأى أنه إشارة تدل على عبثية الحياة، ومنهم من جعل من الموت مصدراً للقلق الوجودي.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 "ليس بعيدا عن رأس الرجل" لسمير درويش.. رواية ما بعد حداثية في تأبين البرجوازي الصغير
* list 2 of 2 الكاتبة السورية الكردية مها حسن تعيد "آن فرانك" إلى الحياة end of list

ويقال إن الموت هو الواعظ الصامت، ففيه تتجلى حقيقة الوجود، وتظهر هشاشة الإنسان، ويتبين ضعفه وهوانه، والموت هادم اللذات ومفرّق الجماعات، لا ينجو منه غني أو فقير، ولا كبير أو صغير، ولا سقيم ولا سليم، فأسبابه مهما كثُرت تبقى قاصرة عن استيعاب موت الفجأة الذي يدهم من لم تطله الأسباب، لا من قريب ولا من بعيد، حتى يستسلم الإنسان ويوقن بضعفه، ويؤمن بالقدر ويسلّم بانتهاء الأجل.

إن الموت أشبه بلحظة التحرر والتخلص من حجاب الجسد والانطلاق نحو حقيقة الحياة الأبدية، وقد أُثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: "الناس نيام فإذا ما ماتوا انتبهوا"، الذي يؤكد أن الموت محض لحظة للعبور والانعتاق.

فلسفة الموت ورُؤى الشعراء في الجاهلية

يبدو الموت في الشعر العربي حقيقة وجودية في أحيان، ومعادلاً للخلود في أحيان أخرى، وقد وظفه بعض الشعراء بوصفه معادلاً للتحرر من كل ما يتعلق بالبشرية والحياة الدنيا، ورآه البعض حقيقة تعكس عبثية الحياة فحسب!

الموت هو النهاية الحتمية لكل إنسان، وهذا ما جعله مصدر قلق وجودي، ومحطّ تأمل وتفكير، وتربة خصبة للدوران حول فلسفة الحياة وانقضائها، ففي العصر الجاهلي عبروا عن الموت بأنه رحيل وفناء لا مفر منه، إذ يدرك الإنسان أينما كان، فيقابله في بعده الفلسفي والمواجهة الحتمية بالوعي والقبول أو بالرفض والجزع.

إعلان

يقول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته:

رأيتُ المَنَايا خَبطَ عَشواء مَن تُصِبْ
تُمتْهُ، ومَن تُخطِئ يُعَمَّر فيَهرمِ

فالموت عند زهير عشوائي يبغت المرء بدون أسباب ولا مقدمات واضحة، وكأنه سِهام تُلقى فتتناثر في الهواء، فتصيب بعض الناس فتنتهي آجالهم، وتُخطئ آخرين فتُكتَب لهم أعمار جديدة. ثم يكمل زهير متحدثاً عن رؤيته للموت واعتقاده المطلق بحلول الأجل الذي لا مفر منه، فمهما حاول المرء أن يهرب من أَجَله لا سبيل ولا نجاة، وإن وصلت تدابيره عنان السماء:

وَمَن هابَ أَسبابَ المَنِيَّةِ يَلقَها

وَلَو رامَ أَسبابَ السَماءِ بِسُلَّمِ

ويؤكد هذه الفكرة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد في معلقته أيضاً، ويبدع في تشبيه الأَجَلِ بالحبل المُرخى الذي يُشدّ ساعة حلول الأجل فتنطفئ شعلة الحياة:

لَعَمرُكَ إنَّ المَوتَ ما أخطأَ الفَتى
لكالطِّوَلِ المُرخى وثِنياهُ باليَدِ

ومن منا لم يسمع قول الشاعر لبيد بن ربيعة، الذي يُظهر اعتقاده بزوال ما في هذا الكون من نعيم وأحياء، ويتسق فكراً ومعنى مع قوله تعالى في سورة الرحمن: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾:

ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باطِلٌ
وكُلُّ نَعيمٍ لا مَحالَةَ زائِلُ

وقد جاء في تفسير ابن كثير "يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب -تعالى وتقدس- لا يموت، بل هو الحي الذي لا يموت أبدا".

أما عنترة بن شداد، الشاعر الشهير التي تؤكد الأخبار وفاته قبل الهجرة بـ22 سنة، فلم يدرك الإسلام، لكنه حدثنا في شعره عن فلسفته ورؤيته للموت، فالفارس الشجاع الذي عز نظيره يرجح الموت على العيش بذل وهوان، ويفضل العيش في جهنم إن كان بعزٍّ وكرامة:

لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بذِلَّةٍ
بل فاسقِني بالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
ماءُ الحَياةِ بذِلَّةٍ كجَهَنَّمٍ
وجَهَنَّمٌ بالعِزِّ أَطيبُ مَنزِلِ

فالموت عند عنترة أَحبُّ وأحلى من العيش الذليل، وهو المنى والمراد والمبتغى إذا ما خُيّر بين ذُلّ الحياة وفقدها.

مصدر الصورة في العقيدة الإسلامية لا يُنظر للموت إلا بوصفه بوابة للعبور نحو الحياة الآخرة، الحياة الأسمى والحياة الباقية حيث الخلود (رويترز)

الموت.. بين شعر صدر الإسلام وما بعده

وفي صدر الإسلام يطالعنا شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت بأبيات يثبت فيها رؤية الإسلام للموت، فالموت في الإسلام نقطة انتقال وتحول من الحياة الدنيا، من دار الزرع والحرث، إلى دار الحصاد، حيث ستكون الحياة الباقية الخالدة التي وُعد بها المسلمون، كل بحسب عمله وما قدمت يداه، حيث لن يغني عنه يوم الحساب مال ولا بنون، والموت لدى المسلمين قدر مكتوب وكتاب مؤجل:

لِكُلِّ ابنِ أُنثى حتفٌ غيرُ واحدٍ
وإن كانَ ذا مالٍ وعِزٍّ ومَوكِبِ

ويؤكد الفكرة نفسها الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى في قصيدة البردة (بانت سعاد) حين يقول:

كلُّ ابنِ أُنْثى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ

يوماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ

والأبيات الآتية الشهيرة التي تُنسب لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه تؤكد هذه الفكرة أيضاً، إذ يقول فيها:

النَّفسُ تَبكي على الدُّنيا وقد عَلِمَت
أنَّ السَّلامةَ فيها تَركُ ما فيها
لا دارَ للمَرءِ بعدَ الموتِ يَسكُنُها
إلَّا التي كانَ قبلَ الموتِ بانيها

فهل ترانا نبكي على الدنيا وما فيها أم أننا ندرك ماهيتها وحقيقتها؟ وهل تركنا أنفسنا لأمواج الحياة تأرجحها يمنة ويسرة حيث شاءت، أم أننا نملك قياد أنفسنا على وجه الفعل والحقيقة؟ وهل ندرك معنى الموت وحقيقته ونتجهز له أم تأخذنا أوهامنا وآمالنا الطويلة والرجاء بتأخير الأجل؟

في العقيدة الإسلامية لا يُنظر للموت إلا بوصفه بوابة للعبور نحو الحياة الآخرة، الحياة الأسمى والحياة الباقية حيث الخلود، فيغدو الموت أشبه بلحظة انعتاق وتحرر من ربقة الجسد ومصاعب الحياة، وقد عبر الشعراء الصوفيون عن هذه الأفكار تعبيراً وفيراً، واستفاضوا في الحديث عنها. يقول جلال الدين الرومي "كلُ نفسٍ ذائقةٌ الموت لكن ليست كل نفسٍ ذائقةٌ الحياة"، فحقيقة الموت مفروضة على البشر، أما حقيقة الحياة فهي محل التفاضل بينهم، وقد قال في المثنوي: "موتوا.. موتوا لتنالوا روحا خالدة، وانقطعوا عن هذا التراب وتخلّصوا من حقول الأجساد لتلمسوا بأيديكم السماوات".

مصدر الصورة الموت راحة من آثار الهرم الشيخوخة التي تطال الإنسان فتصعّب عليه الحياة وترهق كاهله وتُحيجه للناس من حوله (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

الإسلام وفكرة الموت

الموت في الإسلام حق، وقد جاء في القرآن الكريم حديث الموت في مواضع وقصص متعددة، ففي سورة لقمان/34 يقول الله تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، فالموت واقع لا محالة لكننا نجهل مكانه وزمانه.

إعلان

ولأن الموت محل ابتلاء واختبار للبشر قال تعالى في سورة الملك/2: ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياةَ ليبلوَكُم ايّكُم أحْسَنُ عَمَلاً﴾، ثم يخاطب الله تعالى في سورة الفجر النفس المطمئنة، التي آمنت وأيقنت وجاهدت وكسبت، فيقول: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾؛ يقول الطبري في تفسير الآيات: "يأمر الله الأرواح يوم القيامة أن ترجع إلى الأجساد، فيأتون الله كما خلقهم أول مرّة".

وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: في القرآن الكريم: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ الزُّمر:30، وقد روى الحاكم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمَّد! عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميِّتٌ، وأحبِبْ من شئتَ فإنَّك مفارقُه، واعمَلْ ما شئتَ فإنَّك مجزِيٌّ به".

ويُذكر عند الحديث عن جميل حسن الظن بالله أن أعرابياً اشتد عليه المرض حتى قيل له: إنك تموت، فقال: وإلى أين يُذهب بي بعد الموت؟ فأجابوه: إلى الله عزّ وجلّ، فقال: فما أجمل الموت وما أجمل لقاء اللهّ!

فالموت في الاعتقاد الإسلامي نعمة من نعم الله على الإنسان، لأنه ينقذه من مصاعب الحياة وتكاليف المعيشة ومشاقها، وهو البوابة التي يلج منها المرء للقاء الأحبة الذين ماتوا قبله ففارقهم وغادروه، والموت هو الراحة العظمى، إذ تدخل الروح في كنف الخالق وتنعتق من ربق الجسد وسجنه، وتدخل في رحمة الله الواسعة وفسيح ما وعدت به من الجنان إن كانت من المتقين الأبرار، حيث لا خوف ولا ضيق ولا همّ ولا حزن ولا كدر.

والموت راحة من آثار الهرم الشيخوخة التي تطال الإنسان فتصعّب عليه الحياة وترهق كاهله وتُحيجه للناس من حوله، وراحة أكبر لمن ابتُلوا بأمراض لا يطيقون لها دفعاً، فالحمد لله على نعمة الحياة ونعمة الموت.

يقول الشاعر المخضرم أبو ذؤيب الهذلي في مطلع قصيدته الشهيرة التي رثى فيها بنيه الذين توفوا بالطاعون في جيوش الفتح الإسلامي:

أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ

وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ

قالَت أُمَيــمَةُ ما لِجِسـ مِكَ شاحِباً

مُنذُ اِبتَذَلتَ وَمِثلُ مالِكَ يَنفَعُ

وإذا المَنِيَّةُ أنشَبَتْ أظفارَها
أَلفيتَ كُلَّ تَميمَةٍ لا تَنفَعُ

نراه في أحلك لحظات عمره يتفيَّئُ ظلال الإيمان، ويعتلي عرش التصبر، ويخاطب نفسه معاتباً إياها على جزعها، مستنداً في خطابه إلى ما زال مترسباً في فكره من الجاهلية، مؤكداً أنه لا تميمة تنفع المرء في الحفاظ على أحبته أو دفع الموت عنهم.

هل يمكن أن يكون الموت وسيلة للمدح والرثاء والتندر؟

من فرائد الشعراء وبدائعهم أن جعلوا من الموت وسيلة للمدح والرثاء والتندر، فها هو الشاعر الأخطل يستثمر فكرة الموت ويجعلها سبباً مباشراً لانقطاع الجود والندى بين الناس، إذ أنشد حين حضر معاوية بن أبي سفيان الموت الأبيات الآتية:

إذا متَّ مات الجودُ وانقطعَ الندى

من الناس إلا من قليل مُصَرَّدِ

وردّت أكفّ السائلين وأمسكوا

عن الدين والدنيا بحزن مجدّد

وفي رواية أخرى يقال إن ابنته هي التي أنشدت هذه الأبيات قبل وفاته، وتنسب للشاعر الأشهب بن رميلة.

أما المثلث الأموي، فرسان الشعر وأصحاب الطبقة الأولى من شعرائه، الفرزدق وجرير والأخطل، فلا يمكن لهم أن يمروا على فكرة الموت مرور غيرهم من الشعراء، بل جعلوا الحديث عنه ساحة للمنافسة والتراشق الشعري، ومادة غنية تدور حولها نقائضهم، إذ يُحكى أن جريراً والفرزدق اجتمعا يوما في مجلس الخليفة عبد الملك بن مروان، فقال الفرزدق: زوجتي النّوار طالق مني ثلاثاً إن لم آتي ببيت أفحم به جريراً فلا يقدر أن ينقضه أبداً، ولا يجد إلى أن يزيده عليه مذهباً، فقال له الخليفة: هات ما عندك يا فرزدق، فقال:

فإني أنا الموت الذي هو واقع

بنفسك فانظر كيف أنت محاوله

فهل أَحدٌ يا اِبنَ المَراغَةِ هارِبٌ

من الموت إِنَّ الموتَ لا بُدَّ نائِلُه

فأطرق جرير قليلاً وفكر ثم قال: وزوجتي أم حرزة طالق مني إن لم أنقضه أو أزيد عليه، فقال عبد الملك:

إعلان

هات فقد -والله- طلق أحدكما زوجه لا محالة، فأنشد جرير:

أَنا البَدرُ يُعشي طَرفَ عَينَيكَ فَاِلتَمِس

بِكَفَّيكَ يا اِبنَ القَينِ هَل أَنتَ نائِلُه

أَنا الدَهرُ يُفني المَوتَ وَالدَهرُ خالِدٌ

فَجِئني بِمِثلِ الدَهرِ شَيئاً يُطاوِلُه

فقال عبد الملك مخاطباً الفرزدق: فضلك -والله- يا أبا فراس، أي غلبك وزاد على ما جئت به، فطلقت النوار حينها من الفرزدق كما جاء في الأخبار، وندم الفرزدق على فعلته ندماً شديداً وأنشد البيت الشهير:

ندِمتُ نَدامةَ الكُسعي لمَّا

غَدَت مِنّي مُطَلقةً نوارُ

ومن نوادر جرير والفرزدق والأخطل أيضاً في توظيف فكرة الموت في الشعر أنهم اجتمعوا في مجلس الخليفة عبد الملك بن مروان يوماً، فحمل بين يديه كيساً فيه خمسمئة دينار، وقال لهم: ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه، فأيّكم غلب فله هذا الكيس، فسارع الفرزدق فقال:

أنا القطران والشعراء جربى

وفي القطران للجربى شفاء

فأجابه الأخطل فقال:

فإن تك زق زاملةٍ فإني

أنا الطاعون ليس له دواء

فقال جرير:

أنا الموت الذي آتى عليكم

فليس لهاربٍ مني نجاء

فقال عبد الملك حاكماً لجرير بالفوز على خصميه: خذ الكيس، فلعمري إن الموت أتى على كل شيء.

ورأى بعض الشعراء أن الإبداع والشعر والذكر الحسن خير وسيلة للانتصار على الموت بالخلود، وخير من يمثل هذه الفكرة المتنبي، شاعر العربية مالئ الدنيا وشاغل الناس، إذ يقول:

ذِكرُ الفَتى عُمرُهُ الثاني وَحاجَتُهُما

قاتَهُ وَفُضولُ العَيشِ أَشغالُ

فنالت هذه الفكرة إعجاب الشاعر أحمد شوقي في العصر الحديث فأخذها وبنى عليها أبياتاً، فقال:

دقّات قلب المرء قائلة له

إن الحياة دقائق وثواني

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها

فالذكر للإنسان عمر ثانٍ

مصدر الصورة حث الإسلام على عدم تمني الموت أو السعي إليه برمي النفس في المهالك من غير تبصّر (رويترز)

ماذا عن الرغبة أو الدعاء بإطالة العمر؟

تثير مثل هذه الرغبة تعجبي وحيرتي حقيقة، ولا أراني إلا أتمثل قول أبي العلاء المعري حين أرى إقبال الناس على الحياة ورغبتهم بطول البقاء وإطالة الأعمار:

تعب كلها الحياة فما أَعْـجَبُ

إلا من راغب في ازدياد!

غير أن كثيراً من الناس حقيقة يتمنّون طول الأجل، ويدعون الله ليطيل في أعمارهم، قد يُفهم ذلك رغبة في إعمار الدين والدنيا والتزود من الطاعات والأعمال الصالحة، وللتجهز والتهيؤ للآخرة بشكل أفضل، وقد حث الإسلام على عدم تمني الموت أو السعي إليه برمي النفس في المهالك من غير تبصّر.

فقد جاء في الحديث الشريف المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَتَمَنَّ أَحَدُكم الموتَ، إِمَّا مُحسِنًا فلعلَّهُ يَزدادُ، وإمَّا مُسيئًا فلعلَّهُ يَستَعتِبُ"، هذا لفظ البخاري، وفي روايةٍ لمسلم: "لا يَتَمَنَّ أَحَدُكم الموتَ، وَلا يَدْعُ به من قبل أَن يَأتِيَهُ، إِنَّهُ إِذا مات انقطعَ عملُه، وإِنَّهُ لا يَزيدُ المُؤمنَ عُمرُهُ إِلَّا خَيرًا"، وقد أجاب الرسول الكريم أعرابياً سأله: من خير الناس يا رسول الله؟ فقال: "من طال عمُره، وحسُن عمله".

أما عدم الخوف أو الجزع من الموت ودنو الأجل فحديث آخر، واليقين بأن الموت كتاب مؤجل أمر لا يختلف فيه مؤمن أو كافر، يقول أبو العلاء المعري معبراً عن عدم خوفه من الموت، مشبهاً إياه بالشارب الذي سيُسقى منه كل آدميّ:

إِن يَقرُبُ المَوتُ مِنّي

فَلَستُ أَكَرَهُ قُربَه

كُلٌّ يُحاذِرُ حَتفاً

وَلَيسَ يَعدَمُ شُربَه

وإننا بوصفنا مسلمين نوافق المعري في مذهبه، إذ لا نجزع من الموت، وإنما نسأل الله حسن الحياة وحسن الممات، ونتمثل دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام: "اللهمّ أَحْيِني ما علِمتَ الحياةَ خَيرًا لي، وتَوفَّني ما علِمتَ الوفاةَ خَيرًا لي".

كان حضور الموت في الشعر العربي ثابتًا عبر العصور، وإن اختلفت فلسفته وتنوعت صوره ودلالته بحسب الرؤى والاعتقاد وتنوّع البيئات والحقب الفكرية. ففي الشعر الجاهلي تجلّى الموت باعتباره قَدَرًا محتومًا لا مهرب منه، يُذكّر الإنسان بفنائه وسط صخب الحياة وصراع البقاء.

وفي صدر الإسلام اكتسب الموت أبعادًا دينية وأخلاقية، وصار نقطة تحول وانتقال، ومدعاة للزهد والتأمل في الحياة والتجهز للآخرة، وفي العصور اللاحقة اتسعت دلالة الموت لتشمل الرؤية الصوفية التي نظرت إلى الموت بوصفه عبورًا نحو الحقيقة الأبدية، وصار الموت في العصر الحديث رمزًا للاغتراب والقلق الوجودي، يعكس وعي الإنسان بمحدودية وجوده، ومحاولاته المستمرة لمواجهة الفناء بخلود الأثر والكلمة.

إعلان
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار