آخر الأخبار

مقاومة الاحتلال بين الكفاح المسلح والحراك المدني في كتاب "سيكولوجية المقاومة"

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

يأتي كتاب "سيكولوجية المقاومة" الصادر مؤخرا في العاصمة الأردنية عمّان للباحث الدكتور عصام نجيب محمود الفقهاء أستاذ التربية وعلم النفس، في محاولة علمية جادة لتلبية حاجة المكتبة العربية والفلسطينية لدراسات جادة معمقة حول ظاهرة المقاومة وحول الخطاب المقاوم وتجلياته الثقافية والأدبية، بحيث تتجاوز الخطاب الاحتجاجي والتناول السريع والعاطفي.

وبهذا يتسع المجال أمام هذا الضرب من التناول العلمي الرصين، الذي يتأمل الماضي والحاضر تأملا نقديا منصفا، للاستفادة من مثل هذه المراجعة لمراحل الطريق الطويل الذي ما زال يمتد ويمتد حتى تحرير فلسطين وتفكيك الاستعمار الصهيوني المحتل.

أما المقاومة التي يقصدها الكتاب بصورة مقربة فهي المقاومة الفلسطينية المنظّمة التي بدأت بانطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني في ستينيات القرن الماضي وحتى معركة طوفان الأقصى في غزة التي لا تزال تجري وتجري معها دماء الإنسان الفلسطيني أمام أنظار العالم.

ويجهد المؤلف في التركيز على المسائل الجوهرية الجامعة في ظاهرة المقاومة، بغض النظر عن الحركات أو التنظيمات السياسية والنضالية التي تتبناها، وينأى بدراسته ورؤيته عن الانطلاق من رؤية أحادية أو ضيقة، ذلك أنه يرى المقاومة في صورتها الإنسانية المشرقة وفي أهدافها التحررية ويطمح إلى تعميق التأمل فيها والاستفادة من دروسها على امتداد عقود صعودها وهبوطها.

الخطاب المقاوم من منظور علم النفس الثقافي

ينطلق المؤلف من أصالة روح المقاومة في النفس البشرية وانطلاقها لمواجهة العدوان ورد الظلم وحماية الذات، وذلك أن المقاومة بحسب هذا الكتاب "جهد فكري اجتماعي ثقافي مقصود، هدفه التخلص من الظلم، وتدل المقاومة في مجملها على جملة أنشطة تشمل الكفاح المسلح والحراك المدني والشعبي المتمثل بالإضرابات والمقاطعة والممانعة والمعاوقة والتخريب الإستراتيجي والعصيان المدني وسلسلة من ممارسات رفض الامتثال لنظم الاحتلال، وقد تكون المقاومة قانونية أو غير قانونية وعلنية أو سرية وعنيفة مسلحة أو مدنية سلمية". (ص6).

إعلان

وهذه الأشكال والمستويات المتنوعة من الفعل المقاوم تتكامل -في رأي المؤلف- ويتمم بعضها بعضا، ولكل منها أوانه وسياقه، بحسب ما تحتمه ظروف الصراع وأحوال الفلسطينيين.

أما الأسس التي تحتاجها المقاومة من منظور تربوي نفسي فتشمل: الوعي وقوة الإرادة وبذل الجهد والصبر والأمل بالنصر، وهناك 4 مرتكزات أولاها المؤلف اهتمامه، ورأى أنها المرتكزات المهمة والفاصلة للمقاومة حسب منظوره، وتشمل:


* المرتكز الأول: علاقة المقاومة بالقوى المؤثرة فيها، وهي تشمل قوى ذات صلة بالبنية التحتية أهمها: الكفاءة الاقتصادية وإنتاجية العمل وحقوق الإنسان والتكافل الاجتماعي، إلى جانب القوى المتعلقة بالبنية الفوقية وتشمل: القيم الثقافية، والتنظيم السياسي، والممارسة الديمقراطية.
* المرتكز الثاني: ضرورة إلقاء الضوء على التباين بين نظرتي الثقافتين العربية والعبرية لمفهوم القتل، ففي الثقافة العربية يعد القتل لنشر الظلم جريمة، وأما في سبيل التحرير فهو جهاد مشروع.
* المرتكز الثالث: يتصل بالنقد البناء، ذلك أن عدم الإنصات للنقد يولد أزمات.
* المرتكز الرابع: التباين الثقافي في إستراتيجيات التفكير على شكل عاملين: أولهما التضاد في النظرة إلى المكان والزمان والإنسان، فالعقل الصهيوني سمته إنكار الزمان مما يجعل المكان مصمتا، أما العقل العربي فتتسم نظرته إلى الزمان باعتباره الحيز الذي يمكن أن ينهض الفرد العربي فيه ليحرر ذاته وأمته.

ومعنى هذا أن المقاومة ليست مستوى واحدا، وليست لونا ثابتا على امتداد تاريخها، ولا بد لمن يتبنونها من تفهم السياقات والمراحل والمواقف لاختيار الأسلوب أو الإستراتيجية التي تتلاءم مع كل مرحلة.

كما ينبه المؤلف إلى أن الإيمان بفكرة المقاومة أمر طيب وأساسي ولكنه ينبغي أن يتبع بتربية خاصة ونوعية، بحيث يتم تأهيل المقاومين وتحصينهم وتدريبهم بما يتلاءم مع صعوبة المقاومة ومع دخول المقاومين في تجارب قاسية وصعبة في مواجهة الذات ومواجهة الآخر أو العدو.

فليست الأعمال بالنيات في مثل هذا الحال، بل تتوقف النية عند البدايات، ويأتي بعد ذلك دور صقل الشخصية المقاومة وتعريفها بتعقيد دورها وفعلها التحرري المستمر.

مصدر الصورة الحق الفلسطيني يواجه بالزيف المدجج بالقوة وأدوات الاستعمار بما فيها السرديات التوراتية والصهيونية، التي تجد وسائل لا حصر لها في تعميمها ونشرها (أسوشيتد برس)

المقاومة الثقافية والاجتماعية

يهتم المؤلف على امتداد فصول الكتاب وصفحاته بالمقاومة الثقافية والفكرية، ويرى أن مقدرة الشعب الفلسطيني على الصمود والمجابهة تعد من أبرز مؤشرات قوة المقاومة الثقافية، وما تنطوي عليه من روح الإصرار والتحدي والحفاظ على الهوية.

ذلك أن الاستعمار والاحتلال بكل أفعاله يهدف إلى محو الوجود الفلسطيني، وطمس الهوية، بينما تنهض المقاومة الثقافية بدور الحفاظ على الوجود وتثبيت الهوية، ومنع إزاحتها أو تضبيبها أمام المستعمر وهويته الاحتلالية النزّاعة إلى الطرد والتهجير وكل ما يمكن أن يخلصه من "الكابوس الفلسطيني المؤرق".

كما تجلت المقاومة الثقافية أيضا في التماسك الاجتماعي والحضاري لهذا الشعب، وفي خلق صور إبداعية للمقاومة الرافضة للاستعمار الصهيوني بشكل متطور وفاعل، وبالرغم من قسوة الاستعمار واعتماده سياسة الإبادة والاجتثاث فإن قوة الشعب الفلسطيني لم تهن بل ظل محافظا على نسيجه الثقافي وعلى هويته وارتباطه المتين بالأرض وبالجذور التي تصله بها، مثلما تصله بالعناصر الثقافية المختلفة ليمثل الحفاظ عليها وتوارثها لونا من ألوان المقاومة ورفض الذوبان والإمحاء.

إعلان

ولا شك في أن البعد الاجتماعي للمقاومة هو بعد تربوي يعتمد على عوامل التنشئة وتبادل خبرات الأجيال، واهتمام الأسرة الفلسطينية بتناقل سردياتها الشفاهية والكتابية حول النكبة وحكاية الشتات ومبدأ أمره ومنتهاه، مما يسهم في تبني الأجيال الفلسطينية الجديدة للمقاومة الثقافية، واستمرار حضور ثوابتها على امتداد التجارب والأجيال.

وتنطوي المقاومة الثقافية على ما يسميه الدكتور عصام نجيب بحرب الأساطير والحكايات الثقافية، أو حرب السرديات بمصطلح آخر متداول، ومن صورها ما روّجته الصهيونية من أقاويل عن حق اليهود في "أرض الميعاد"، واستنادها إلى تزييف التاريخ واختلاق ما يلائمها والسعي لحذف تاريخ الشعب الفلسطيني وسرقته، ويترافق هذا مع فعلها الاحتلالي الاستيطاني بعيدا عن التفكير في حقوق الفلسطينيين.

الحق الفلسطيني يواجه بالزيف المدجج بالقوة وأدوات الاستعمار بما فيها السرديات التوراتية والصهيونية، التي تجد وسائل لا حصر لها في تعميمها ونشرها، للتشويش على سردية أصحاب الأرض، والاستيلاء عليها وعلى الأرض نفسها، ولا شك في أن الإنتاج الأدبي والفكري، وإعادة تمحيص التاريخ وتفكيك الأساطير المؤسسة للصهيونية يقع في باب حرب السرديات التي ستستمر طويلا ضمن تجليات هذا الصراع ومراحله الممتدة.

تجليات المقاومة في الإبداع

وقد عني كتاب سيكولوجية المقاومة بتجليات المقاومة في مجالات متعددة يمكن أن نبرز ما يتعلق منها بالإبداع الأدبي والفني، إذ يقدّر المؤلف هذا النوع من تجليات المقاومة، ويرى أن ثقافة المقاومة قد تجلت في أشكال الشعر العربي المعاصر، والتعبير عن التمرد والدعوة إلى اجتثاث الظلم، وطلب الحرية للوطن، كما اقترب المؤلف من تنوع شعر المقاومة وتجليه في صور متعددة منها السياسي الأيديولوجي ومنها الإعلامي الحماسي ومنها التمثيلي الفني.

إلى جانب ذلك تأمل الدكتور نجيب مسائل فنية وتقنية واجتهد في ربطها بما تمثله من وجوه القول في وعي المقاومة، من مثل تحليله لمسألة عدد التفعيلات العروضية ودور موسيقى الشعر في فهم العمل الشعري وشخصية الشاعر من منظور نفسي، وبالرغم من صعوبة وضع قانون لتعدد التفعيلة في الشعر الحر فإن اجتهاد المؤلف اجتهاد محمود في هذا الجانب، مع التنويه بأن ذاتية الشعر وتعدد تجاربه تسمح بتعدد الدلالات والمعاني وصعوبة حصرها في دائرة نفسية واحدة.

واهتم المؤلف في هذا المجال بإبراز تجليات المقاومة في الأناشيد الوطنية وألوان الشعر الشعبي، وحقا نهض الشعر الشعبي الفلسطيني بألوانه وأوزانه المتنوعة بدور وطني مقاوم وما زال ينهض بهذا الدور، كما نذكّر بأن الاتجاهات الوطنية قد أسهمت في تحوير كثير من القوالب الغنائية والشعرية لتغدو قوالب وطنية مقاومة، مع توظيف جذورها الغنائية والشعبية لإيصال الرسالة المقاومة التي تنطوي عليها.

كتاب سيكولوجية المقاومة يمثل مساهمة جادة في رفد مكتبة ثقافة المقاومة بمؤلفات ودراسات جادة، تفيد من مكتسبات العلوم المختلفة ومنهجياتها في صقل ظاهرة المقاومة وتحليلها وتوجيهها، فمثل هذه الثقافة التحررية التي لا مفر منها في طريق تحرير الوطن والإنسان ينبغي أن تظل حية بالكلمة والنغم والصوت واللون وبكل وسيلة ممكنة، فكل التقدير للدكتور نجيب على هذه المساهمة المهمة في هذا الظرف العصيب من اشتداد العسف، وحرب الإبادة على جزء من شعبنا الفلسطيني الصامد في غزة وعموم فلسطين.

ونحسب أن كتابه القيم الذي استثمر فيه خبرته وتخصصه التربوي والنفسي مرجع أساسي جديد يفيد في تنمية روح المقاومة وتربيتها في زمن نحتاج فيه إلى هذا النوع من التأليف المقاوم، ويجدد المؤلف نجيب محمود من خلال هذا الجهد المقاوم انتماءه إلى مدرسة عمّه الشهيد الشاعر عبد الرحيم محمود (1913-1948)، ابن قرية عنبتا/ طولكرم ، المعلم والشاعر الذي قرن القول بالفعل وحمل روحه على راحته وشارك في ثورة 1936 وفي حرب النكبة عام 1948 حتى قضى شهيدا خالدا في معركة الشجرة شمال فلسطين بتاريخ 13 يوليو/تموز 1948 لتظل أشعاره وتضحياته الخالدة مصداقا لكل من يؤمن بالمقاومة:

سأحمل روحي على راحتي .. وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تسر الصديق .. وإما ممات يغيظ العدا

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار