في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
كان يوما ميدانيا للأحلام الكروية وقلبا نابضا بالحياة في العاصمة السورية. أما اليوم، فما هو إلا شاهد صامت على ندوب الحرب حيث تحولت مدرجاته التي ضجت يوما بالهتافات إلى أطلال، وأرضيته الخضراء إلى ساحة تحتضن بقايا القذائف والألغام.
وعلى العشب الذي شهد أمجاد أندية ومنتخبات، ترقد الآن حكايات الدمار. وهنا ملعب العباسيين، أقدم منشأة رياضية في سوريا، والذي لم يعد مجرد صرح رياضي، بل تحول إلى ذاكرة جريحة تختزل سنوات من الصراع الذي مزق البلاد. فمنذ تأسيسه عام 1957، كان الملعب مسرحا لأعظم المباريات الدولية والاحتفالات الجماهيرية، لكن موقعه الاستراتيجي الذي يربط قلب دمشق بأحيائها الثائرة كالقابون وجوبر وزملكا، حكم عليه بمصير مغاير.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، لم يتردد نظام بشار الأسد في تحويل هذا الصرح الرياضي إلى قاعدة عسكرية متقدمة، نصبت فيه بطاريات المدفعية الثقيلة التي أمطرت أحياء الغوطة الشرقية بنيرانها، وتحولت أروقته إلى مركز مؤقت للاعتقال، لتكتب على جدرانه فصول من القمع بدلا من فصول المنافسة الشريفة.
اليوم، وبعد سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، تكشف بقايا الملعب عن حجم الكارثة. فأرضيته التي كانت مسرحا لأقدام اللاعبين أصبحت مرتعا للألغام والحفر، ومستودعاته التي كانت تحتضن المعدات الرياضية باتت تحتفظ ببقايا الذخائر وشظايا القذائف، في مشهد يجسد عمق الجرح الذي خلفته سنوات الحرب.
ويرى المواطن إياد الأسعد الذي يسكن إلى جوار الملعب أن آلة الإجرام والقتل كانت حاضرة داخل الملعب، فبعد أن كان وجهة الرياضيين والمشجعين "فجأة أصبح الدخول إليه ليس لمشاهدة المباريات وتشجيع الأندية بل للتعذيب أو القتل، وهو مكتظ بالأليات الثقيلة وعناصر الشبيحة والأمن".
وأضاف للجزيرة نت أن "ضجيج المباريات الذي كنا نسمعه نحن جيران الملعب تحول على مدار سنوات إلى صوت القصف العنيف الذي يهز المكان جراء قصف الراجمات على حي جوبر وأحياء الغوطة الشرقية التي خرجت بالمظاهرات ضد النظام السابق".
ويؤكد إسماعيل مصطفى نائب رئيس الاتحاد الرياضي العام في سوريا -للجزيرة نت- البدء في ترتيب البيت الداخلي في المكتب التنفيذي واتحادات الألعاب واللجان التنفيذية والمدن الرياضية، وصولا إلى المنتخبات الوطنية مع الحرص على استمرارية التدريب والاستعداد لا سيما في الألعاب التي تنتظرها استحقاقات قادمة.
يستحضر نبيل السخني، اللاعب السابق في المنتخب السوري لكرة القدم، بمرارة وحنين تلك الأيام التي كانت فيها مدرجات العباسيين تضج بالحياة. يوقول في حديثه لمراسل الأناضول "عشنا هنا ذكريات جميلة لا تنسى. خضنا أكثر من مباراة نهائية، ولعبت 3 نهائيات لكأس الجمهورية وسط حضور جماهيري غفير وأجواء دراماتيكية. وكان لهذا الملعب طابع خاص وروح فريدة".
وبأسف عميق، يروي كيف تحول هذا المكان، الذي ارتدى على أرضه قمصان عدة أندية سورية، إلى ثكنة عسكرية منذ عام 2012، ليخرج تماما عن الخدمة الرياضية. ويضيف بصوت يغلفه الحزن "تحول الملعب إلى مكان لقصف الأبرياء. لا أحد يعرف عدد الضحايا الذين سقطوا داخله أو نتيجة القصف الذي كان ينطلق منه".
ولم يكن ملعب العباسيين استثناء، فالضرر طال معظم البنية التحتية الرياضية في البلاد. ويوضح السخني "باستثناء ملعبي الجلاء والفيحاء، تحولت معظم المرافق الرياضية إلى أماكن للحرب والقمع، وهو ما ألحق ضررا بالغا بالناس والرياضة على حد سواء".
الخطر لم يزل بزوال النظام، فالملعب اليوم أشبه بحقل ألغام. ويحذر السخني من أن "البنية التحتية الرياضية كلها خارج الخدمة. الملعب انتهى تقريبا، ويحتاج إلى إعادة بناء شاملة" مشيرا إلى الخطر المستمر الذي تشكله الذخائر غير المنفجرة المنتشرة في أرضيته.
ورغم حجم الدمار، يتشبث السخني وزملاؤه بالأمل في إعادة إحياء الرياضة السورية. ويؤكد أن إعادة تأهيل المنشآت الرياضية تمثل أولوية قصوى في المرحلة الحالية. ويقول "نسعى لإعادة تأهيل البنية التحتية الرياضية بما يليق بسوريا. هذا المشروع ليس من أجل البلاد فقط بل من أجل كل من ضحى".
ويكشف عن وجود تحركات جادة بهذا الاتجاه، مضيفا "نحن الآن في طور العمل على هذا الملف. وزير الرياضة يجري مباحثات مع دول الجوار ودول الخليج لدعم هذه الجهود. نشكر كل من يمد لنا يد المساعدة".
وبنبرة ملؤها التفاؤل بالمستقبل، يختتم السخني حديثه بالقول "نحن اعتزلنا كرة القدم، لكن الأجيال القادمة ستعيش تلك الأيام الجميلة من جديد، بمشيئة الله وفضله". ليبقى ملعب العباسيين رمزا لذاكرة وطن يتوق إلى لملمة جراحه والعودة إلى الحياة، تماما كما يتوق جمهوره إلى سماع صافرة البداية من جديد على أرضه.