"من خمسة شيكل قفز سعرها ليصبح سبعين شيكل - حوالي 19 دولار، وأُسرتي الصغيرة تضم أربع فتيات وأنا معهن، كل منا تحتاج لعُلبة شهرياً، فكيف لنا تحصيل هذا المبلغ؟".
أم العبد من مدينة غزة تحكي عن معاناتها وبناتها لتوفير الفوط الصحية شهرياً، فبعد أكثر من سبعمئة يوم من الحرب، تلقي المعاناة بظلالها القاتمة على كل تفاصيل الحياة في قطاع غزة.
لكن بعض فصول المعاناة الإنسانية لا تحظى دائماً بالاهتمام الكافي، ومن بينها ما تواجهه مئات الآلاف من النساء والفتيات كل شهر في صمت، ففي غزة لم تعد الدورة الشهرية عملية بيولوجية طبيعية، بل تحولت إلى كابوس محفوف بالقلق والخجل والألم، في ظل انعدام شبه تام للفوط الصحية وارتفاع جنوني في أسعارها إن وُجدت.
هذا الارتفاع الكبير في الأسعار لم يترك للنساء خياراً سوى اللجوء إلى بدائل بدائية، يعلمن جيداً أنها محفوفة بالمخاطر الصحية.
تقول أم العبد عن هذه البدائل: "نقوم بانتشال ما نقدر على انتشاله من ملابسنا الموجودة تحت ركام منازلنا المقصوفة، ثم نقوم بقصها وتكوين طبقات منها، أضعها أنا وبناتي فوق ملابسنا الداخلية في أيام الحيض، هذه القطع المقصوصة تعرف محلياً لدينا باسم "الشرايط" وباتت كل النساء في غزة على معرفة وثيقة بها، فهي حيلتهم الوحيدة في أيام الحيض".
وبحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان في قطاع غزة ما يقرب من 700 ألف امرأة وفتاة في سن الحيض يواجهن هذه الأزمة بشكل مباشر في القطاع المحاصر.
وأشار الصندوق الأممي في بيانه الأخير عن هذه الأزمة إلى أن ما هو متوفر داخل القطاع من فوط صحية نسائية لا يغطي سوى أقل من رُبع احتياجات الفوط الصحية الشهرية للنساء فيه، بالإضافة إلى عدم كفاية المياه ومستلزمات النظافة الشخصية والمراحيض.
وبالرغم من شيوع "الشرايط" كفوط نسائية بديلة في القطاع، إلا أن أم العبد تتحدث عن آثارها الجانبية قائلة: "والله بستحي أحكي إيش اللي بتعمله في أجسامنا، التهابات وتسلخات، وأشياء بخجل أحكي عنها، والله تعبنا ومتنا كوننا نساء في هذه الحرب، والله تعبنا".
وتضيف الأم في معرض حديثها عن بناتها الأربع: "أنا امرأة كبيرة مش مشكلة بقدر أتحمل.. مش مشكلة أعاني؛ أما بناتي، فأجسامهن حساسة للغاية لا تتحمل الأثر السلبي لهذه البدائل لكن ما باليد حيلة، تخيلوا أصبحنا نتمنى الحرب تنتهي فقط لتتمكن كل منا من الحصول على علبة فوط صحية خاصة بها كل شهر، هذه أصبحت من أهم أمنيات الفتيات في قطاع غزة.. تخيلوا!".
إن ما تستحي أم العبد الحديث عنه هو ما حذّر منه آخر تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان عن معاناة النساء مع الحيض في غزة منذ اندلاع الحرب، إذ أشار إلى أن شح الفوط الصحية مع غلاء أسعارها دفع النساء والفتيات إلى اللجوء إلى بدائل مؤلمة وغير آمنة مثل المناديل المستخدمة للحمام، والإسفنج وقطع من الملابس القديمة أو الأقمشة الممزقة، وعادة ما يُعاد استعمالها دون غسيل مناسب، ما يؤدي إلى التهابات في الجهاز التناسلي والمسالك البولية، ومضاعفات صحية خطيرة، خاصة في ظل غياب الماء النظيف والصابون والخصوصية في مراكز الإيواء.
من أم العبد في مدينة غزة إلى أم أسامة في مواصي خان يونس لم يختلف الوضع كثيراً، فتقول أم أسامة إنها في بداية الحرب لجأت لبديل لم تلتفت له الكثير من النساء وهو استخدام حفاضات الأطفال خاصة أنها نحيفة ولكنها سرعان ما حُرمت من هذا البديل بعدما وصل سعر علبة حفاضات الأطفال الواحدة لحوالي 500 شيكل - حوالي 150 دولاراً أمريكياً - ما دفعها إلى العودة بالزمن لعشرات السنين، وأن تفعل مثل جدتها التي كانت تحوّل ملابسها القديمة إلى فوط نسائية، وفق قولها.
لكن أم أسامة كانت قد خسرت غالبية ملابسها في منزلها الذي قُصف، وما بقي لها من ملابس فرّت بها أثناء نزوحها من المنزل قبل قصفه، لا تقوى على المغامرة بما تبقّى من ملابسها والاستغناء عنها بتحويلها إلى فوط صحية.
تقول أم أسامة: "الخيمة التي نسكن فيها مهترئة للغاية، وجيراننا في مركز الإيواء حصل ابنهم على تحويلة للعلاج بالخارج قبل غلق المعبر، فأهدوني خيمتهم، وخطر على بالي أن أحوّل قماش خيمتي المهترئة لفوط صحية، وانتقلنا للعيش في خيمة جارتي التي هي أحسن حالاً من خيمتي".
"كلما استخدمت قماش الخيمة بدلاً من الفوط الصحية أتذكر جدتي، لكنها كانت أفضل حالاً مني، إذ كان باستطاعتها أن تقوم بغسل هذا القماش بعد استخدامه جيداً، وتعقيمه بتعريضه للهواء والشمس في شرفة منزلها، أما أنا فكيف لي أن أغسل هذه القطع جيداً ونحن بالكاد نحصل على مياه للشرب، وكيف لي أن أقوم بنشرها في مخيم يكتظ بالنازحين.. أحياناً أذهب إلى البحر فجراً، وأضع مع هذه الأقمشة بعض الملابس كنوع من التمويه، كي أقوم بغسل فوطي الصحية ضمن ملابسي في البحر فلا يلحظ أحد ما أقوم بغسله".
تقول منظمة "أكشن إيد"، وهي منظمة دولية غير حكومية تُعنى بحقوق الإنسان ومكافحة الفقر، وتركز بشكل خاص على دعم النساء والفئات المهمّشة في الأزمات والصراعات إن النقص الحاد في الفوط الصحية، اضطر النساء في غزة لقطع أجزاء صغيرة من الخيام لاستخدامها كبدائل، وسط انعدام المياه والصابون اللازمين للنظافة الشخصية، ما يعرضهن لمخاطر صحية جسيمة تشمل التهابات المسالك البولية والجهاز التناسلي، والالتهابات الجلدية والروائح الكريهة، مع مضاعفات صحية قد تؤدي إلى مشاكل طويلة الأمد. بالإضافة إلى ذلك، يسبب غياب الخصوصية وعدم القدرة على الحفاظ على النظافة حالة من الإحراج، والضغط النفسي، ما يؤثر على كرامتهن النفسية والاجتماعية.
الأزمة لا تقتصر على الجانب الصحي والنفسي فحسب، بل تمتد لتشكل عبئاً اقتصادياً ونفسياً هائلاً على العائلات.
يروي أبو أحمد، وهو أب لسبع بنات، كيف تحولت مستلزمات النساء إلى عبء مادي يضغط عليه حد الانفجار، لأنه غير قادر على توفير أبسط متطلبات الحياة الآدمية لزوجته وبناته، يقول: "كنت أنفق على مستلزمات النساء والبنات هذه أكثر من الأكل والشرب، لكن هذا الإنفاق الإضافي، في ظل انعدام الدخل وتوقف عجلة الاقتصاد، وضعني أمام خيارات مستحيلة: تأمين الطعام أو شراء المستلزمات الصحية الأساسية، وهنا لم أجد حلاً سوى أن أعطي ملابسي الداخلية القطنية لزوجتي كي تصنع منها فوطاً نسائية لها ولبناتنا".