آخر الأخبار

جولة داخل مقبرة فيينا حيث يزدهر التنوع البيولوجي

شارك
مصدر الصورة

في فيينا، احتضنت ثاني أكبر مقبرة في أوروبا التنوع البيولوجي، دون إزعاج الموتى. يقبع في هذه المقبرة بعض العظماء كبيتهوفن وشوبرت وبرامز، بالإضافة إلى نجمة هوليوود المبدعة هيدي لامار، وكذلك أيقونة الروك النمساوية فالكو. هذا هو مثواهم الأخير.

لكن إذا تجوّلتم بحذر في مقبرة فيينا المركزية في ساعات الصباح الباكر، فقد تُلقون نظرة خاطفة على شيء يتحرك بين شواهد القبور البالية، وهذا الشيء ليس أشباحاً، بل حيوانات الهامستر (حيوان يشبه الفأر من فصيلة القوارض) الأوروبية، منتفخة الخدين، وهي في غاية الحيوية.

تعيش هذه الثدييات الجذابة في حديقة "بيس أند باور" شمال المقبرة، وتكشف المسارات الضيقة على الأرض عن أماكن هروبها مؤخراً. اعتُبرت حيوانات الهامستر، في السابق، آفة، وهي الآن مُهددة بالانقراض بشدة في أوروبا.

وقد أدى التوسع العمراني والزراعة الصناعية إلى تدمير موطنها في العقود الأخيرة، وإذا استمرت أعدادها في الانخفاض، فمن المرجح أن تنقرض بحلول عام 2050، وفقاً للقائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة.

وتتمسك حيوانات الهامستر في الوقت الحالي بالحياة هنا، في ثاني أكبر مقبرة في أوروبا. ورغم أن الأمر قد يبدو مُستبعداً، إلا أن هذا المكان موطن مثالي لها، ويحرص منسقو المناظر الطبيعية (الأشخاص الذين يصمّمون حدائق أو مساحات واسعة من الأرض) على عدم إزعاجها داخل جحورها. كما يحب الزوار ترك وجبات خفيفة لها.

وفي فصل الشتاء، عندما ينخفض مخزون غذائها الطبيعي، غالباً ما تقوم حيوانات الهامستر بسرقة الشموع من القبور القريبة لتناول الشمع الغني بالزيت.

تُعدّ المقابر الحضرية أو العمرانية مراكز مهجورة للتنوع البيولوجي، على الرغم من أنها تساوي في قيمتها الحدائق العمرانية من حيث الحفاظ على الأنواع أو الفصائل المهددة بالانقراض.

وقد حدّدت مراجعة أُجريت عام 2019 للتنوع البيولوجي في المقابر، 140 نوعاً من أنواع الحيوانات المحمية من الانقراض في المقابر حول العالم، بدءاً من بساتين الفاكهة في المقابر التركية، وصولاً إلى النباتات السهبية (نباتات تنمو في مناطق السهوب، وهي مناطق عشبية واسعة تتسم بمناخ قاري وجاف) التي تنمو بشكل متزايد في تلال الدفن (تلال صناعية من الأرض والحجارة مبنية على رفات الموتى) في أوراسيا.

وباعتبارها أماكن هادئة ذات أهمية ثقافية وروحية كبيرة لكثيرين، فقد فاتت المقابر إلى حدٍّ كبير آثار التحضّر التي شهدتها المدن المحيطة بها خلال القرون الأخيرة.

وعلى هذا النحو، فإنها تمثل ملاجئ للحياة البرية المحلية، ويمكن أن تكون بمثابة مساكن حجرية متدرجة، أي رقع صغيرة من الطبيعة تستخدمها الحيوانات للهجرة بين المناطق الطبيعية الأكبر.

ويُعدّ هذا أمراً بالغ الأهمية، لاسيما في المدن، حيث تتقلص المساحات الخضراء وتتفكك أماكن سكن الحيوانات بشكل متزايد.

مصدر الصورة

يُراقب توماس فيليك، الباحث في جامعة الموارد الطبيعية وعلوم الحياة في فيينا، سكان البرية في مقبرة فيينا المركزية الشاسعة، والتي تمتد على مساحة كيلومترين مربعين و400 متر.

وأثناء سيره في رقعةٍ مليئة بالعُشب الأخضر أصبحت موطناً لحيوان الهامستر الأوروبي، يُشير توماس فيليك إلى جحورهم الصغيرة داخل العشب الطويل.

ويقول فيليك: "لقد تحدثنا إلى البستانيين حول العمل بطريقة تحمي التنوع البيولوجي، وعدم قصّ أجزاء كبيرة من الأعشاب والنباتات".

ويُضيف قائلاً: "من المهم أن نفكر في دورات حياة الحيوانات، فهي تبدأ بالنباتات. ثم تجلب الحشرات، وبعدها تجلب الحشرات الطيور، وهكذا".

يُوثّق فيليك التنوع البيولوجي المحلي بمساعدة علماء مواطنين هنا منذ عام 2021، كجزء من مشروع أوسع يسمى "التنوع البيولوجي في المقبرة"، والذي يشمل مقابر أخرى في أنحاء النمسا.

ويُشير مصطلح "علم المواطن" إلى المشاريع العلمية التي تتضمن مشاركة فعّالة من قبل الجمهور في المساعي العلمية، ومن الممكن أن يُشارك العلماء المواطنون في جميع مراحل البحث.

يتلقى المشروع، الذي يقع مقره في جامعة الموارد الطبيعية وعلوم الحياة في فيينا، أكثر من 3000 تقرير مشاهدة للحيوانات من علماء المواطنين عبر مقابر مختلفة كل عام.

وبجانب احتضانها لحيوان الهامستر، تُعد مقبرة فيينا المركزية أيضاً موطناً لفصائل من الحيوانات المهددة بالانقراض والتي تحميها توجيهات الاتحاد الأوروبي الخاصة بحماية هذه الأنواع، بما في ذلك الضفدع الأخضر الأوروبي، وخنفساء الألب ذات القرون الطويلة، والسنجاب الأرضي الأوروبي.

وقد اتخذ كذلك الهدهد الأوراسي، المنتشر في أوروبا لكنه مهدد بالانقراض محلياً، من هذه المنطقة موطناً له. وقد أحصى فيليك ومتطوعوه، في المجمل، أكثر من 240 نوعاً مختلفاً من الحيوانات والنباتات منذ انطلاق المشروع عام 2021.

يُعدّ التنوع البيولوجي داخل المقبرة مجالاً متخصصاً للدراسة، حيث يركّز الباحثون غالباً على أنواع أو أقسام محددة منها. وهذا الأمر يجعل المقارنات بين الحيوانات في البلدان الأخرى أمراً صعباً.

ويعترف فيليك بأن مشاريع علم المواطن لها نقاط ضعفها الخاصة، إذ يقول: "يميل الناس إلى ملاحظة الحيوانات الكبيرة التي تطير، لكنهم يُلاحظون أقل الكائنات الصغيرة".

لمواجهة هذا، فإنهم يعملون مع طلاب جامعيين يُجرون أبحاثاً حول المناطق المهجورة، مثل المخلوقات الصغيرة التي تستعمر الخشب الميت، كجزء من مشروع أطروحتهم.

اشتهرت المقبرة البرية قبل وقت طويل من بدء فيليك في توثيقها، وهي مكان شهير لمراقبي الطيور، ومصوري الحياة البرية، ومحبي الطبيعة.

في هذا اليوم الربيعي المفعم بالرياح، يمتلئ الهواء بأصوات الطيور بينما يطارد سنجابان مرحان بعضهما بعضاً عبر القبور إلى شجرة قريبة.

ولم تُشاهد غزلان أو ثعالب أو أرانب في هذه الزيارة، فهي تُفضل البقاء بمفردها وغالباً ما تلجأ إلى أقسام أكثر هدوءاً من المقبرة أثناء النهار.

مصدر الصورة

يقول إنجو كواريك، عالم البيئة الحضرية والأستاذ المتقاعد في الجامعة التقنية في برلين، والذي قاد أحد أول المسوحات الشاملة عن التنوع البيولوجي في المقابر في مقبرة فايسينسي اليهودية في برلين عام 2016، إن المقابر "تمثل فسيفساء من مواطن مختلفة للحيوانات".

ويضيف: "هذا يعني أن أنواعاً من الغابات، والسياجات الشجرية، والمراعي، وحتى الحقول، قد تجد مواطن بديلة لها هناك. كما أن المعالم التي صنعها الإنسان، مثل الأضرحة وشواهد القبور والجدران، قد تدعم أيضاً النباتات والحيوانات التي قد تستوطن الكهوف والصخور وواجهات المنحدرات في البرية".

ومع ذلك، فإن مثل تلك السمات قد تُسبب ارتباكاً للحيوانات أيضاً. إذ وجدت دراسة أُجريت عام 2007 في مقبرة مجرية أن شواهد القبور السوداء تجذب اليعاسيب، لأن سطحها العاكس يشبه الماء.

كما يمكن أن تكون المقابر التي تم التخطيط لها أو صيانتها بشكل سيئ مصدراً لتلوث التربة والمياه الجوفية، وخاصة في البلدان التي يكون فيها التحنيط والدفن في التوابيت أمراً شائعاً، في حين يُساهم حرق الجثث في تلوث الهواء.

في مقبرة فيينا المركزية، حُجزت رقعة مليئة بالعشب الأخضر بالقرب من مقر حيوان الهامستر لدفن الموتى بشكل طبيعي، بجوار صفوف القبور التقليدية المغطاة بألواح حجرية، وأزهار مزخرفة، وشموع لذيذة.

وتوجد في الجوار بقاع من الغابات الكثيفة، حيث توجد أماكن الراحة الأخيرة، التي تتميز بالأشجار الشاهقة، والتي ترتادها الغزلان في كثير من الأحيان.

ويقول كواريك: "هناك صدىً للماضي التاريخي"، في إشارة إلى قدرة المقابر بصفة عامة على الحفاظ على الحياة البرية ومواطن الحيوانات، حتى مع انتشار المدن حولها.

وبينما كان يعمل مدرساً مؤهلاً وحديث التخرج في علم الأحياء، قرر فيليك النظر عن كثب إلى الحياة البرية في مدينته.

إذ يقول: "إن قليلاً منا سيتمكن من زيارة بورنيو لرؤية إنسان الغاب"،

ويضيف: "أردت أن أُظهر لطلابي ما يمكن فعله هنا".

ولكن، في البداية، لم يتمكن فيليك من العثور على معلومات كثيرة حول فصائل الحيوانات التي كانت تسكن المقبرة المركزية.

لقد تغير ذلك بفضل حوار مع فلوريان إيفانيتش، وهو منسق مناظر طبيعية يعمل في المقبرة منذ عام 1982. وقد قاد إيفانيتش جهوداً لتحويل عشرة أفدنة (40 ألف متر مربع) من الأراضي غير المستخدمة في المقبرة إلى حديقة طبيعية في عام 2011.

هناك، تُترك النباتات والحيوانات لأجهزتها الخاصة قدر الإمكان، مع وجود الصخور، والبرك، وأكوام من الخشب الميت التي توفر مساكن صغيرة إضافية للحيوانات.

يقول إيفانيتش: "كان من المهم بالنسبة لي أن يكون لدينا مكان ما مُخصص للحيوانات فقط. فمن السهل بناء الحدائق، إذ يخطط لبنائها معماري للمناظر الطبيعية، وبعد ذلك يُقص العشب فقط. لكن الحدائق وحدها ليست كافية، بل علينا أن نترك شيئاً للطبيعة".

انبهر فيليك على الفور بالمعرفة التي يمتلكها إيفانيتش.

يقول فيليك: "إنه يعرف المقبرة عن ظهر قلب، ويُقدرها حق قدرها. أخبرته أن لديّ فكرة لمشروع يُسلط الضوء على المقابر كمراكز للتنوع البيولوجي، وكان داعماً جداً لهذه الفكرة".

مصدر الصورة

عمل فيليك مع موظفي المقبرة المركزية على توسيع التركيز على التنوع البيولوجي خارج حدود الحديقة الطبيعية.

وقد شمل ذلك تركيب صناديق تعشيش ومغذيات للطيور، بالإضافة إلى تحديد بعض المناطق للأخشاب الميتة والصخور.

وفي أماكن أخرى، تُترك مساحات من العشب لتنمو طويلاً وتُنتج بذوراً. ويقول فيليك إن هذه الإجراءات يمكن تطبيقها في أي مقبرة.

ويضيف: "يمكنك توفير مساحة للطبيعة خلف القبور".

وتوضح اللافتات الإرشادية المنتشرة في أنحاء المقبرة أهمية هذه التدابير كمساكن للحيوانات المختلفة، وتُرفَق بصور للحيوانات التي تتردد عليها.

ويقول فيليك إن المقبرة تُقدم أيضاً جولة إرشادية لاستكشاف أماكن حيوانات الهامستر المُفضلة، و"بدأ الناس يقدّرون وجود شيء مُميز هنا".

ويضيف: "إنه يخلق تلاحماً بين موظفي المقبرة والمواطنين والعلماء، الذين يعملون جميعاً معاً من أجل شيء يستحق الحماية".

وقد بدأ كل هذا الجهد يؤتي ثماره، إذ رُصدت داخل المقبرة أنواع جديدة من فصائل الحيوانات منذ بدء مشروع التنوع البيولوجي، مثل الهدهد الأوراسي المهدد بالانقراض محلياً.

ويوضح فيليك أن المناطق ذات الأعشاب الخضراء المفتوحة والأشجار القديمة في المقبرة تعكس الموطن المفضل لدى هذه الطيور.

ويستدرك قائلاً: "بالصدفة، وربما أيضاً بسبب التغيرات في البيئة، انتهى الأمر باستقرار زوجين من الطيور المتكاثرة هنا".

والآن، أصبح خمسة منها حاضرين بانتظام في المنطقة، وقد أنشأ عمال المقبرة صناديق تعشيش لتشجيع المزيد منها على القدوم.

ومؤخراً، تلقى فيليك أول تأكيد على مشاهدة السنجاب الأرضي الأوروبي داخل المقبرة، وهو نوع مهدد بالانقراض على مستوى العالم ومحمي بموجب القانون النمساوي.

مصدر الصورة

عندما تُخفر قبور جديدة، تطلب إدارة المقبرة المشورة من فيليك، في محاولة لتقليل الإزعاج للحياة البرية.

فعلى سبيل المثال، يُسمح فقط بالدفن الطبيعي بالقرب من جحور حيوان الهامستر، وفقط في الأماكن التي لن تتعرض فيها للإزعاج.

لكنّ جهود الحفاظ على التنوع البيولوجي تحتاج إلى أن تتوافق مع توقعات الزوار حول شكل المقبرة التي يُفترض أن تكون "مُعتنى بها".

ويقول كواريك: "يريد بعض الأشخاص أن يكون مظهر المقبرة أكثر أناقة، ويجب أن نأخذ هذا الأمر على محمل الجد".

ويضيف: "لا عيب في ذلك على الإطلاق، لأن المناطق المُعتنى بها بعناية فائقة تُشكل جزءاً من هذا التنوع البيئي. ويكمن سرّ التنوع البيولوجي في المقابر في أن تصبح الكثير من الأشياء ممكنة".

بالإضافة إلى ذلك، لا تزال بعض هذه الأماكن تُدار في نهاية المطاف كشركات تجارية، ما قد يؤدي إلى مشاكل كبيرة.

ويقول كواريك إنه في برلين، حيث تُدار معظم المقابر من قبل القطاع الخاص، كالمجتمعات الدينية أو جمعيات المقابر، يعاني كثيرون من صعوبات مالية، لأن الناس يختارون الدفن في الجرار بدلاً من التوابيت، وينفقون أموالاً أقل على قطع الأراضي المخصصة للدفن.

ولا تتلقى المقابر الخاصة تمويلاً من المدينة للحفاظ على مناطقها الخضراء، لذا ينتهي الأمر بالقائمين عليها، في بعض الأحيان، إلى بيع أراضيهم غير المستخدمة لتطوير العقارات.

ويقول كواريك: "نحن بحاجة إلى مزيد من المساحات الخضراء في المدن، لا إلى تقليصها. ينبغي استخدام الأموال العامة لمواصلة دعم الوظائف البيئية والاجتماعية الحيوية للمقابر".

وتقول ليزا بيرنكوبف، المتحدثة باسم شركة "فريدهوف فيينا" المحدودة، التي تُدير المقابر العامة في فيينا: "المقبرة، بالنسبة لنا، أكثر من مجرد موقع دفن ومكان للذكرى. إنها أيضاً ملجأ للأشخاص والحيوانات والنباتات".

وتضيف: "لقد أدركنا مدى أهمية مساحاتنا الخضراء، وخاصة أننا نهدف إلى القيام بشيء لصالح المناخ الحضري والتنوع البيولوجي".

ويأمل فيليك أن تُصبح بعض أجزاء المقبرة، في نهاية المطاف، محمية بموجب قوانين حماية الطبيعة.

وقد ناقش فكرته بالفعل مع مسؤولي المدينة، قائلاً: "لقد جمعنا البيانات".

ويضيف: "نحن نعلم ماذا لدينا هنا، وعلينا الآن حمايته، والتأكد من بقائه محمياً".

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار