في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
يتوسع الكون حولنا باستمرار، فالمسافة بين المجرات تزداد كل ساعة ويوم وسنة، لكن هل كان الكون يتسع بالوتيرة ذاتها منذ الانفجار العظيم؟ وهل تبقى الطاقة الغامضة التي تدفع بعض المجرات بعيدا عن بعضها ثابتة إلى الأبد؟
في دراسة جديدة أجراها فريق دولي من علماء الكونيات، فإنهم يقترحون أن الإجابة على تلك الأسئلة ربما تكون بالنفي.
في دراسة حديثة نُشرت في دورية "فيزيكال ريفيو دي"، استخدم باحثون من جامعة شيبا اليابانية، ومعهد الفيزياء الفلكية الأندلسي في إسبانيا، وأقسام الفلك بجامعتي ولاية نيو ميكسيكو وفيرجينيا بالولايات المتحدة، عمليات محاكاة فائقة الدقة لتتبع تطور الكون في حال كانت الطاقة المظلمة، تلك القوة الكونية الغامضة التي تسرّع تمدد الكون، تتأثر وتتغير بمرور الزمن وليست ثابتة كما اعتقدنا لعقود.
يقول توماكي إيشياما الأستاذ المشارك من جامعة تشيبا اليابانية، في تصريحات من حصلت الجزيرة نت على نسخة منها: "تُظهر عمليات المحاكاة الكبيرة لدينا أن الاختلافات في الخصائص الكونية، وخاصة كثافة المادة في الكون، لها تأثير أكبر على تكوين البنية مقارنة بالطاقة المظلمة المتغيرة مع الزمن".
منذ اكتشاف تسارع تمدد الكون أواخر التسعينيات، شكّل وجود الطاقة المظلمة أحد أكبر ألغاز الفيزياء الحديثة. يفترض النموذج الكوني القياسي أن الطاقة المظلمة هي ثابت كوني لا يتغير، ويمثل حوالي 70% من محتوى كوننا.
لكن مع تراكم البيانات من التلسكوبات والمسوح الكونية الضخمة، بدأت إشارات صغيرة تشير إلى أن هذه الطاقة قد لا تكون ثابتة كما نعتقد.
المصدر الأحدث لهذه الإشارات جاء من مشروع "ديزي"، وهو أضخم مسح طيفي للمجرات يُجرى حتى اليوم، يهدف إلى رسم خريطة ثلاثية الأبعاد دقيقة للكون. أظهرت نتائج "ديزي" ميلا طفيفا لصالح ما يسمى بـ "الطاقة المظلمة الديناميكية"، أي التي تتغير شدتها مع الزمن.
الكون ليس مختبرا يمكن إعادة تأسيسه لإجراء التجارب والقياسات، لذا يلجأ علماء الفلك والكونيات إلى الحواسيب العملاقة لتجسيد المراحل المختلفة من تطوره.
يقول الباحثون في ورقتهم: "تُعد المحاكاة الكونية أداة قوية لدراسة نمو البنية غير الخطية ولتقدير المقاييس الإحصائية بدقة عالية." هذه المحاكاة الرقمية تُقسّم الكون إلى مليارات الجسيمات الافتراضية التي تمثل المادة المظلمة، وتُترك لتتفاعل جاذبيا عبر الزمن.
نفّذ الباحثون 3 محاكات ضخمة يغطي كلٌّ منها مساحة كونية بحجم 2000 ميغا فرسخ فلكي، والميغا فرسخ هي وحدة قياس فلكية تستخدم لقياس المسافات الشاسعة بين المجرات في الكون، ويساوي حوالي 3.26 ملايين سنة ضوئية، إذ تساوي السنة الضوئية الواحدة ما يزيد على 9 تريليونات كيلومتر، أي أن 2000 ميغا فرسخ تعادل مئات ملايين المجرات.
استخدم الفريق الحاسوب الياباني العملاق "فوجاكو"، وهو أحد عمالقة الحوسبة وأسرعها في العالم، لتشغيل هذه الحسابات المعقدة والمقدار الهائل من البيانات التي تتطلب معالجتها ملايين الساعات في الحواسيب العادية الأخرى. فبحسب الباحثين، هذه المحاكاة أكبر بنحو 8 مرات من أكبر محاكاة في دراسة سابقة.
صمم الفريق 3 نسخ من الكون لمقارنتها، أولها هو النموذج القياسي الذي يمثل التصور التقليدي لكون تهيمن عليه طاقة مظلمة ثابتة كما نعتقد. ثم نموذج قياسي محافظ على القيم الكونية نفسها، لكن مع طاقة مظلمة متغيرة.
وأخيرا، نموذج "ديزي" مع طاقة مظلمة متغيرة، وفيه استخدموا القيم التي تشير إليها بيانات "ديزي" الحديثة، وهي قيم كونية أساسية متغيرة، مثل كثافة مادة أعلى بنسبة 10%، وثابت هابل أقل بنسبة 4%.
بهذه الأكوان الثلاثة، يمكن للعلماء تمييز ما إذا كانت الاختلافات في سلوك الكون ناتجة عن تغير طبيعة الطاقة المظلمة أم عن تغير القيم الأساسية للكون نفسها.
وقد وجد الفريق أن تأثير تغير الطاقة المظلمة في حد ذاته محدود للغاية على بنية الكون، إذا بقيت القيم الكونية ثابتة. أما إذا سمحنا للقيم مثل كثافة المادة أن تتغير كما تشير بيانات "ديزي"، فتصبح الاختلافات أكثر وضوحا.
عندما بدأ الكون متجانسا بعد الانفجار العظيم، كانت فيه تقلبات طفيفة في الكثافة. ومع مرور الوقت، جذبت الجاذبية المادة نحو المناطق الأكثر كثافة، فتكوّنت تجمعات أو عناقيد من المجرات والمادة المظلمة.
عند النظر إلى عدد العناقيد المجرّية بحسب كتلتها، وجد الباحثون أن النموذج المتغير يتنبأ بوجود عدد أكبر بكثير من العناقيد الضخمة.
فمبكرا في عمر الكون، أي منذ حوالي 10 مليارات سنة مضت، يظهر ما يصل إلى 70% من العناقيد المجرية الإضافية مقارنة بالنموذج الثابت، وحتى في الأزمنة المتأخرة، ينخفض الفارق إلى حوالي 40%.
هذا يعني أن الكون الذي تتغير فيه الطاقة المظلمة يبني هياكله بسرعة أكبر، وهو ما ينعكس على تكوين المجرات وتجمعاتها.
تتضمن الدراسة أيضا تحليل ما يعرف بـ "تذبذبات الباريونات الصوتية"، وهي بصمة موجية تركتها اهتزازات المادة والبلازما في بدايات الكون، وتُستخدم اليوم كـ "مسطرة كونية" لقياس تمدد الكون عبر الزمن.
أظهرت المحاكاة أن قمم هذه الموجات تتحرك بنسبة 3.7% نحو مسافات أصغر في نموذج الطاقة المظلمة المتغيرة، أي أن "المسطرة الكونية" أصبحت أقصر قليلا. هذا يتوافق تماما مع نتائج رصدية حصلت عليها تجربة "ديزي"، مما يعطي دعما إضافيا لفرضية الطاقة المظلمة المتغيرة.
رغم تأكيد النتائج على تغير طاقة مظلمة وليس ثباتها، لكن دعا الباحثون إلى الحذر. فبحسب الدراسة، حتى مع السماح للطاقة المظلمة بالتغير، تبقى معظم القيم الكونية الأساسية مقيدة بقوة ضمن حدود ضيقة جدا.
إحدى هذه القيم المهمة هو حاصل ضرب كثافة المادة الكونية في مربع ثابت هابل، الذي بقي ثابتا تقريبا في جميع النماذج عند قيمة محددة تقريبا. هذا يعني أن الكون، مهما اختلفت تفاصيل طاقته المظلمة، يحافظ على توازن دقيق بين كتلته وسرعة توسعه.
يختتم إيشياما: "في المستقبل القريب، من المتوقع أن تُحسّن مسوحات المجرات واسعة النطاق باستخدام مطياف سوبارو برايم فوكس وديزي قياسات القيم الكونية بشكل كبير. كما تُوفر هذه الدراسة أساسا نظريا لتفسير هذه البيانات المُستقبلية".
واليوم، وبعد عقدين من البحث، يبدو أن لغز الطاقة المظلمة لم يُحل بعد، لكنه أصبح أقرب إلى الواقع الملموس. الدراسة تشير إلى أن التغيرات الطفيفة في هذه الطاقة قد تكون كافية لتعديل نمط تشكل المجرات وتجمعاتها، لكنها لا تُحدث انقلابا في القوانين الكونية المعروفة.
بعبارة أخرى، الكون أكثر تعقيدا مما كنا نعتقد، لكنه لا يزال منضبطا بقواعد دقيقة لا تترك مجالا كبيرا للفوضى.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة