في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
غزة- في زاوية من ساحة ترابية غرب مدينة غزة ، تجلس الحاجة أم ناصر الوادية، السبعينية التي أنهكها البرد والجوع، وسط خيمة مهترئة نسجتها من أقمشة بالية.
لم تعد أم ناصر تبصر جيدا أو تسمع بوضوح، لكن كلماتها القليلة تخرج بثبات "الموت أهون من النزوح". على وجهها تجاعيد حفرتها سنوات الحروب، وعلى جسدها آثار عمر ثقيل، لتروي قصتها بلا كلمات، بأن هذه المرأة فقدت كل شيء.
بعد أن نزحت من حي الزيتون قبل 3 أسابيع، اضطرت أم ناصر للرحيل مرة أخرى من منطقة الكرامة، ثم تركت خيمتها التي أقامتها في دير البلح ، حتى استقرت اليوم في مخيم عشوائي جديد تملؤه روائح القاذورات وصراخ الأطفال، وسط غياب أبنائها الذين لا تعرف عن مكانهم شيئا.
تقول وهي تشير إلى السماء خلال حديثها للجزيرة نت "كل يوم نسمع عن وقفٍ لإطلاق النار، لكننا نفاجأ بأن الحرب تشتد أكثر، وبالتالي نقول ل بنيامين نتنياهو إن قررت اجتياح غزة فإننا لن نغادر هذا المكان، فنحن لسنا قطع أثاث لينقلونا حيث يشاؤون".
تعبّر الحاجة أم ناصر عن إحساس جماعي يعيشه الغزيون الذين باتوا يعتبرون الخيمة أرضا أخيرة، لا مغادرة بعدها، حتى لو كان الثمن حياتهم، في حديثها شيء من الإصرار، لكن فيه أيضا كثير من الانكسار، وكأنها تتحدث باسم مدينة كاملة قررت ألا تُقتلع من جذورها مهما حصل.
بينما كانت الحاجة أم ناصر تتحدث عن الموت، كان بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يؤكد ما كان يخشاه الجميع بأن الحكومة الأمنية الإسرائيلية وافقت على اقتراح رئيس الوزراء باحتلال غزة بالكامل.
القرار يعني ببساطة أن قرابة 900 ألف إنسان في غزة مهددون بالإخلاء، وأن المدينة ذاتها ستتحول إلى ساحة مواجهة مفتوحة، بلا أي ضمانات للمدنيين.
لكن أبناء غزة، وعلى الرغم من الخوف والتجربة الطويلة مع النزوح، لا يبدو أنهم مستعدون للخروج من القطاع هذه المرة، فالنزوح أصبح بالنسبة لهم مرادفًا للموت، لكن بأشكال متعددة، كفقدان الأحبة، إلى الجوع، والتيه الجغرافي والنفسي.
ويؤكد كثير من سكان غزة أن ما يواجهونه اليوم ليس مجرد خطر قادم، بل هو استمرار لمعاناة ممتدة، فقبل أسبوعين فقط، نزح أغلب السكان من حي إلى آخر، ومن منطقة إلى مخيم، والآن يُطلب منهم مرة جديدة أن يرحلوا نحو المجهول.
قال أحد المتطوعين المحليين في خدمة النازحين منطقة الرمال ، للجزيرة نت "الناس لا تملك الطاقة النفسية ولا الجسدية للنزوح مرة أخرى، هم منهكون حد التلاشي"، ويضيف "في كل نزوح هناك موت، سواء بفعل القصف، أو الطريق، أو منازل مدمرة نُجبر على السكن فيها مؤقتا".
ولم يقابل القرار الإسرائيلي باجتياح مدينة غزة بالفرار، بل بما يمكن وصفه بثبات يائس، فسكان مدينة غزة يدركون أن الموت قادم، لكنهم يفضلون استقباله في خيامهم بدلا من العيش لاجئين بلا قرار.
وفي خيمة ضيقة تتوسط مخيما عشوائيا أقيم مؤخرا غرب مدينة غزة، تعيش الحاجة فاطمة القصاص، وهي امرأة في الـ60 من عمرها، تشهد على مآسي الحرب بتجاعيد وجهها وعينيها الغائرتين.
تقول للجزيرة نت بصوت خافت "الموت أهون من النزوح، لن ننزح مجددًا، سنموت في أماكننا إذا اقتضى الأمر".
فاطمة كانت قد نزحت من حي الدرج منذ أكثر من 10 أيام بعد إنذار إخلاء أطلقته طائرات الاحتلال، ثم اتجهت إلى حي الزيتون، وهناك طالها القصف، فوجدت نفسها تنتقل مرة أخرى إلى العراء.
ولم يعد الخوف من الموت بالقصف مهيمنًا على السكان بقدر الخوف من فقدان آخر شبر يمكن أن يُعتبر ملاذًا، حتى لو كان قطعة أرض قاحلة.
في النهاية، تختم الحاجة فاطمة حديثها بجملة تعكس عمق الإحباط واليأس "دعهم يقتلونا مرة أخرى، لقد متنا ألف مرة".
وكان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قد أصدر تقريرا في يوليو/تموز الماضي يرصد فيه المأساة الإنسانية في قطاع غزة، وجاءت نتائجه صادمة ومثيرة للغضب.
وبحسب التقرير، لم تُبقِ إسرائيل للفلسطينيين سوى أقل من 15% من المساحة الكلية للقطاع، أي نحو 55 كيلومترًا مربعًا فقط، يُحتجز فيها أكثر من 2.3 مليون إنسان بمساحة لا تزيد للفرد الواحد عن 24 مترا مربعا، وهي أقل من تلك المخصصة لسجناء معتقل غوانتنامو.
ووصف المرصد ما يحدث بأنه ليس مجرد قصف أو قتل بل "عملية محو شاملة" تستهدف اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم ومحو وجودهم، بحيث تمضي إسرائيل في سياسة ممنهجة لتحويل القطاع إلى مناطق مغلقة عبر أوامر إخلاء متكررة وسيطرة عسكرية مشددة.
بهذا المعنى، فإن ما يحدث في غزة ليس فقط كارثة إنسانية، بل محاولة فعلية لنسف البنية المجتمعية والجغرافية، وتحويل غزة إلى سجن جماعي لا مخرج منه، خاصة مع خطة الاجتياح الجديدة.
وفي خيمة تقع بالقرب من منطقة المواصي ب خان يونس ، كان يوسف النجار، وهو أب لـ4 أطفال، يتحدث بحذر بالغ وهو يراقب السماء التي لا تكف عن إرسال الموت، يقول بصوت منخفض "كل يوم نفقد أولادنا وأحبابنا، الله يستر من هذا الاجتياح".
واضطر يوسف للنزوح 3 مرات في غضون أسبوعين، يصف قسوة التنقل المستمر من مكان إلى آخر هربا من القصف الذي لا يلبث أن يلاحقه، ليجد نفسه محاصرا من جديد، ويؤكد في حديثه للجزيرة نت "الاجتياح لا يعني سوى المزيد من الشهداء، والمزيد من التشريد، والمزيد من الحصار والجوع".
وحين سألناه إن كان سيغادر غزة إذا بدأ الاجتياح، أجاب بالقول "نحن ماذا فعلنا لنلقى هذا المصير؟، إلا أننا لن نغادر، بل سنبقى هنا، وإذا قُدر لنا الموت فليكن بين أهلنا وبيوتنا لا في التيه".