في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
يشكّل كتاب "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" للشيخ محمد الطاهر بن عاشور واحدًا من النصوص القليلة التي أفردت لدراسة الاجتماع الإسلامي في ذاته، لا ملحقًا بالفقه أو الأخلاق، بل بوصفه نسقًا مدنيًا متكاملًا له ضوابطه وقواعده.
وباستثناء مقدمة ابن خلدون التي تعدّ النص المؤسس لعلم العمران، قلّ أن نجد في التراث الإسلامي مؤلفًا صرّح بمشروع اجتماعي شامل.
وقد جاء هذا الكتاب في النصف الأول من القرن الـ20، في سياق تحولات عميقة طالت العالم الإسلامي تحت وطأة الاستعمار وأسئلة النهضة. ومن ثمّ، فهو يمثل محاولة أصيلة لصياغة نظرية في الاجتماع تستند إلى المرجعية الشرعية، وتستجيب في الوقت ذاته لمقتضيات الاجتماع البشري الحديث، والكتاب صدر بنسخة حديثة منقحة عن مدارات للأبحاث والنشر.
يُعد الطاهر بن عاشور (1879-1973) من أبرز أعلام الإصلاح الديني والفكري في تونس والعالم الإسلامي الحديث، وقد جمع بين التفسير وأصول الفقه، وأفاد من الثقافة الحديثة، فكان قادرًا على مقاربة القضايا الحضارية بمناهج مركبة.
يقع الكتاب في نحو 240 صفحة، وقد بسط فيه المؤلف تصوراته حول الاجتماع الإسلامي، مستندًا إلى نصوص الوحي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومستحضرا فقه المقاصد.
وتكمن أهميته في أنه لا يقدّم تنظيرا فقهيا محضا، بل يحاول إرساء قواعد عامة لنظام اجتماعي يُبرز مدنية الإسلام ويكشف عن قابليته لبناء العمران.
ينطلق ابن عاشور من تمييز جوهري بين مرحلتي مكة والمدينة، ففي مكة ركّز الوحي على بناء الفرد عقيدةً وخلقًا، لأن المسلمين كانوا أقلية مضطهدة، وفي المدينة تحوّل الإسلام إلى كيان جماعي، وتشكّلت الدولة، فاقتضى الأمر تأسيس قواعد للمعاش والسلطة والعلاقات بين مكوّنات المجتمع.
وهذا التدرج التاريخي، في نظر المؤلف، برهان على أن الإسلام دين مدني في جوهره، يتجه إلى تنظيم الاجتماع البشري، ويؤسس لجماعة لها مقوماتها السياسية والاجتماعية.
يؤكد ابن عاشور أن صلاح العمران رهين بصلاح الأفراد، وأن إصلاح الأفراد لا يتم إلا من خلال إصلاح عقولهم، فالعقل هو مصدر السلوك القويم، ومن ثم فإن إصلاح التفكير مقدّمة لإصلاح الاجتماع، وخصص لبسط نظراته في ذلك فصلًا بعنوان "إصلاح التفكير والتجديد في العقل الإسلامي".
يضع ابن عاشور مفهوم الأخوّة في قلب مشروعه بوصفه الركيزة الأولى لتشكّل الأمة، فالرابطة الجامعة بين المسلمين ليست الدم ولا اللغة ولا العرق، بل ميثاق الإيمان المشترك.
هذه الأخوّة تقوم على التماثل في العقيدة والعمل، وهي تتيح تنوعا ثقافيا وحضاريا واسعا ضمن إطار ديني واحد، ومن ثمّ فهي تختلف عن الروابط القبلية أو العصبية التي تقوم على الأبوة أو الزعامة.
بهذا التصور، تصبح الأمة الإسلامية نموذجا فريدا لجماعة متعدّدة المكوّنات، لكنها متحدة بالمعنى الديني والرسالي.
يبرز ابن عاشور قيمة الحرية إلى جانب الأخوّة بوصفها أساس العمران الإسلامي، فالحرية شرط للتكليف، ولا معنى للمسؤولية دون اختيار. ويرى أن الشريعة في جوهرها متشوّفة إلى الحرية، أي أنها تميل إليها بطبعها وتضبطها بحدود الضرورة.
لكن ابن عاشور يرفض التوسع في تقييد الحرية، إذ يعتبر أن أي تضييق زائد ظلم يفضي إلى فساد النظام، بل يرى أن الحرية أثقل ما يرهق الظالمين، لذلك يسعون إلى خنقها عبر أدوات السلطة أو التأويلات الدينية، ومن هنا، يبين أن الحرية ليست قيمة إضافية في الاجتماع الإسلامي، بل هي ركيزة لا يستقيم البناء بدونها.
يبلور ابن عاشور ما يمكن وصفه بنظرية في "العقد الاجتماعي الإسلامي"، تستند إلى 4 أطراف:
بهذا التصور، يجمع ابن عاشور بين مرجعية الشريعة ومقتضيات المشاركة الشعبية، فيكون وصف الدولة الإسلامية بأنها ديمقراطية من حيث اعتمادها على إرادة الأمة، وثيوقراطية من حيث مرجعيتها الدينية.
ويعيد ابن عاشور في كتابه النظر في أساس فكرة الجزية، فابن عاشور يراها ضريبة مدنية ذات طابع عسكري، مقابل الإعفاء من المشاركة في القتال، لا جزاءً على بقاء غير المسلمين على دينهم، وبذلك، يكشف هذا الفهم عن مرونة الاجتماع الإسلامي في احتضان التعدد الديني ضمن إطار جامع.
ويلفت إلى عاملين رئيسيين يؤديان إلى تدهور الاجتماع:
ويقترب هذا التحليل من نظرية ابن خلدون في دورة العمران، غير أن ابن عاشور يصوغه بلغة معاصرة تُبرز أثر السلطة في إنتاج الاستقرار أو الانهيار.
يتوقف المؤلف عند ما يسميه "السلطان النفسي" للإسلام، أي تأثيره المعنوي والأخلاقي في نفوس الناس، وهو ما يعادل في لغة العصر مفهوم "القوة الناعمة".
فقد انتشر الإسلام في كثير من بقاع العالم بفضل سلوك تجاره وأمانتهم ومعاملتهم، قبل أن ينتشر بالقوة العسكرية، وهذا الوعي يكشف عن إدراك مبكر لأهمية الصورة الذهنية والقدوة الأخلاقية في بناء النفوذ الحضاري.
يكشف الكتاب عن شخصية مزدوجة، فقيه متمكن من التراث وقواعد الأصول، وعالم اجتماع يحاول قراءة العمران البشري في ضوء تلك النصوص، هذا التداخل منح الكتاب فرادته، إذ جمع بين صرامة المرجعية الشرعية وحيوية التحليل الاجتماعي.
كما أن اعتماد ابن عاشور على المقاصد مكّنه من تجاوز ظاهر النصوص إلى مقاصدها، مما يفتح الباب أمام قراءة مرنة وواقعية للنظام الاجتماعي في الإسلام.
وأخيرا، فإن كتاب "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" للطاهر بن عاشور ليس محض معالجة فقهية لمفردات الاجتماع، ولا هو اجتهاد جزئي في قضايا الأخلاق أو السياسة، بل هو مشروع متكامل لتأصيل رؤية إسلامية للمدنية والعمران.
فقد جمع المؤلف بين عمق الفقيه وأفق السوسيولوجي، بين عناية النص وروح المقاصد، ليضع لبنات نظرية في العقد الاجتماعي الإسلامي تقوم على الحرية والأخوّة والعدالة.
وإذا كان النص قد كُتب في سياق خاص، فإن القضايا التي طرحها تتجاوز زمانه ومكانه، إذ ما تزال إشكالات الحرية الدينية، وحقوق الأقليات، وعلاقة الفرد بالجماعة، وحدود سلطة الدولة، مطروحة بحدة في واقعنا المعاصر.
من هنا، يغدو الكتاب دعوة متجددة إلى التفكير في الاجتماع الإسلامي لا بوصفه تاريخًا مضى، بل على أنه مشروع مستمر يحتاج إلى قراءة نقدية، وتطوير منهجي، وتفعيل عملي.
لقد قدّم ابن عاشور نموذجا في فقه العمران يجاور مشروع ابن خلدون ويكمله، وفتح أفقا واسعا لإعادة بناء العلاقة بين النص والواقع، ولعلّ القيمة الحقيقية لهذا الجهد تكمن في أنه لا يكتفي بالتأصيل، بل يرسم ملامح طريق لاستعادة الحيوية في الفكر الاجتماعي الإسلامي، حيث يكون الإصلاح الفكري مدخلًا إلى إصلاح العمران، ويكون الاجتماع البشري مجالًا لتحقيق مقاصد الشريعة في الحرية والعدالة والأخوّة.