يوجينيو كان الإسباني الوحيد الذي شهد لحظة رحيل صديقه صاحب المدرسة التكعيبية، وقف يوجينيو هناك كطفل فقد أمه وتيتّم، بعد أن بكى طويلا لف جثمان صديقه بعلم إسبانيا الذي أرسلتْه إليه أمه بعد أن غادر بلاده طريدا ملاحقا من جنود الطاغية فرانكو، لف جسد صديقه بعناية وكأن الوطن كله يحضنه في ساعة الفقد.
ظل بجانبه طوال الليل كحارس وفيّ، يحدثه عن ذكرياتهما معا لا كحلاق ورسام لكن كصديق عزيز. حدثه عن مصارعة الثيران، عشقهما الأبدي، حدثه عن مساعدته للاجئين الإسبان في فرنسا، سهر جواره طوال الليل يسامره.
الجمهورية الإسبانية الثانية هي نظام حكم تأسس في إسبانيا في 14 أبريل/نيسان 1931 بعد أن غادر الملك ألفونسو الثالث عشر البلاد في أعقاب فوز مرشحي الحزب الجمهوري بأغلبية الأصوات في الانتخابات البلدية.
استمر حكم الجمهوريين حتى 1 أبريل/نيسان 1939 بعد استسلام آخر قواتهم أمام الجنرال الطاغية فرانكو خلال الحرب الأهلية الإسبانية.
الحرب الأهلية الإسبانية كانت نزاعا عسكريا بين الجمهوريين والقوميين بعد فشل انقلاب يوليو/تموز 1936 الذي قام به فصيل من الجيش الإسباني بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو ضد حكومة الجمهورية الثانية اليسارية بدعم من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
ظل يوجينيو قابعًا هناك بجانب جثة صديقه طوال الليل، يبكي تارة ويضحك تارة أخرى ضحكته المميزة تلك وهو يسترجع ذكرياتهما معاً قائلا:
"هل تذكر يا صديقي حبيباتك السبع!! لقد عشت جيدا يا صديقي وعرفت النساء وعرفوك، هل تذكر فرنانده!! يضحك يوجينيو حتى يهتز جسده، تلك الفتاة الصغيرة الممشوقة القوام الفاتنة، عشت معها سنواتك الأولى في شقة مونمارتر باريس.
لقد كان مزاجك حادا يا صديقي آنذاك، كنت تردد حينها دائما "أنا إسباني لذلك أنا بدائي وحاد المزاج" وتسبب مزاجك المتقلب في فرارها مع ذلك الشاب الإيطالي الوسيم، لعلها كانت فاشية يا صديقي ونحن لم نكن نعلم. ثم يطلق ضحكة صاخبة".
هرب آرياس من إسبانيا بعد هزيمة الجمهوريين في الحرب الأهلية، وانتهى به المطاف في فرنسا، حيث انضم إلى صفوف المقاومة، وافتتح صالونًا للحلاقة بداخله مكتبة صغيرة في بلدة بياريوس، يقص فيه لحى ورؤوس المقاومين، ويقص معهم ذكريات الحرب والنفي.
هناك التقى بابلو بيكاسو ولكنه لم يكن يتقاضى منه أجرًا لقاء تهذيب لحية صديقه ورأسه، كان يرفض دائمًا بشدة ويردد على مسامعه، "تكفيني صداقتك أجرًا". في المقابل كان الرسام الكبير يحضر له في كل مرة لوحات ورسومًا وخزفيات من صنعه، تحوّلت مع السنين إلى كنز فني يروي حكاية صداقة قبل أن يكون مجموعة فنية.
في بلدة صغيرة تُدعى بويتراجو ديل لوزويا شمال مدريد، وُلد عام 1909 فتى يدعى يوجينيو آرياس هيرانز، والده بيدرو آرياس كان خياطا للملابس ووالدته كانت راعية أغنام في قريتها. ترك مقاعد الدراسة في عمر الحادية عشرة رغم تفوقه فيها وأرسله والده لتعلم صنعة الحلاقة عند عمه الذي يملك صالونا للحلاقة.
هناك، في صالون عمّه تعلم في سن مبكرة صنعة الحلاقة وتعلم القراءة، لم يكن صالون الحلاقة مجرد صالون للحلاقة فقط، فقد خصص عمه جزءًا من المكان كمكتبة صغيرة حتى يقرأ رواد دكانه وهم في انتظار دورهم للحلاقة.
هناك قرأ يوجينيو الصغير لفيكتور هوغو ولثربانتس وقرأ كتب الفلسفة والماركسية والنقد الفني والشعر. كان ذلك الصالون مدرسة يوجينيو الثقافية.
يُطرق يوجينيو قليلا ويمسح ابتسامة علقت بين شفتيه ويقول مخاطبا صديقه المُسجَّى في نعشه:
"لعلك تذكر ماري تيريزا، حبيبتك السويسرية ذات السبعة عشر ربيعا وأنت في الخمسين ساعتئذ، لقد أَنْسَتْكَ تلك الفتاة مشاكل زواجك بأولغا كولكوفا. يا لها من فتاة بارعة أنجبت لك ابنتك الأولى أمايا وساهمت في تطوير طريقة رسمك لأجساد النساء".
ويتابع "تسببت غيرة زوجتك راقصة البالية الروسية أولغا المتطرفة في علاقتك بتلك السويسرية لكنها رغم علمها بتلك العلاقة لم تغادر واختارت البقاء معك زوجة وفيه لنذورها".
في صباح ممطر عام 1948 دخل الرسام الأسطوري بابلو بيكاسو محلا للحلاقة في مدينة فالوريس جنوب شرق فرنسا، ولم يكن يعرف أنه يدخل إلى صداقة ستدوم 26 عامًا. كان بيكاسو يجلس على الكرسي لا ليقصّ شعره فقط، بل ليقصّ على آرياس أخبار الفن والمنفى والسياسة.
كان الحلاق يوجينيو يصغي ويهز رأسه إيذانا ببداية واحدة من أكثر الصداقات غرابة ودفئًا في تاريخ الفن. صداقة في قلب المنفى الفرنسي، صداقة الحلاق الإسباني يوجينيو آرياس مع عبقري القرن العشرين الإسباني بابلو بيكاسو. لم يكن آرياس مجرّد حلاق عابر في حياة الرسام، بل رفيق منفى، يجمعهما الحنين إلى وطن فقداه، والحلم بالحرية.
ومنذ ذلك الوقت أصبح يوجينيو يلتقي بيكاسو أسبوعيا في صالونه ويتجاذبان الحديث حول إسبانيا والثورة والحياة في باريس وأحيانا يرافقه لمشاهدة مصارعة الثيران. أصبح يوجينيو الشخص الوحيد المسموح له بدخول منزل بيكاسو في أي وقت لتتواصل سهراتهما ونقاشاتهما حول الأدب والفن والحب وأحوال اللاجئين الإسبان في فرنسا.
يتابع يوجينيو بعد أن يمسح دموعا غزيرة غطت عيناه وهو ينظر إلى جسد صديقه المسجى:
"هل تذكر يا عزيزي لوحة زوجتك جاكلين التي أهديتني إياها!! يا لك من مجنون يا صديقي، أيتزوج الناس في سن الثمانين!! ويطلق يوجينيو ضحكة بذيئة ويواصل بعدها، هل تذكر أنكما أنت وجاكلين كنتما شهود زواجي بحبيبتي ورفيقة النضال سيمونا فرانكوال!!".
الحلاق الذي لم يكن مجرد صاحب مهنة، بل صاحب مكتبة في صالون حلاقة صغير، حيث كانت الكتب تزين الجدران مثل صور الزبائن. لم يكن يعلم أنه سيصبح جامعًا لإرث من اللوحات والإهداءات التي ستصبح يومًا ما متحفا كاملا وسيغدو شاهدًا على منفى، وصديقًا لفنان قلب مقاييس الفن في القرن العشرين.
مع تصاعد المد اليساري وإرهاصات الجمهورية في إسبانيا أسس يوجينيو أول خلية شيوعية في بلدته عام 1931 وخلق صلات عميقة مع كثير من القادة العسكريين. لاحقا حارب في صفوف الجمهوريين وأصيب في قدمه بإصابةٍ جعلته يقضي بقية حياته أعرج.
بعد سقوط الجمهورية في إسبانيا وهزيمتها عام 1936، طارد الجنرال فرانكو النشطاء من الجمهوريين فهرب يوجينيو إلى فرنسا بقلب حزين وساق عرجاء
في 8 أبريل/نيسان 1973، بعد أن دفن يوجينيو صديقه بيكاسو في شاتو بالقرب من مقاطعة "إيكس إن" في قطعة أرض كان قد مُنِحَت له عام 1958، رفض رفضا قاطعا بيع تلك الأعمال الفنية رغم الإغراءات المالية الضخمة التي قُدِّمَت له.
أصرّ يوجينيو أن تعود كل هدايا بيكاسو له والتي بلغت 60 لوحة والعديد من التحف إلى مسقط رأسه في قرية "بويتراجو ديل لوزويا" حيث افتتح بها عام 1985 "متحف بيكاسو – مجموعة آرياس"، شاهدًا على تلك الصداقة التي امتدت أكثر من ربع قرن، وجمعت بين حلاق بسيط وعملاق رسم وجّه الفن الحديث. وحتى وفاته عام 2008، ظلّ آرياس رمزًا لوفاء نادر، وحارسًا لذاكرة فنية وإنسانية لا تقدر بثمن.