من استمع إلى المؤتمر الصحافي الذي تلا المحادثات بين الرئيس الأميركي
دونالد ترامب ورئيس الحكومة
الإسرائيلية بنامين نتنياهو في فلوريدا، أدرك أنّ كلّ التسريبات التي سبقتها حول بقاء الملف اللبناني "على الهامش" كانت صحيحة، أو أن الإدارة الأميركية لم تعد تصنّفه ضمن "أولويات المرحلة"، ولو أنّ القاصي والداني يدرك أنّ الملفّ حضر "بثقله" على طاولة اللقاء، الذي يحلو لكثيرين القول إنّ ما بعده ليس كما قبله.
كثيرة هي التي منحت اللقاء "الزخم" الذي أخذه، ولو أنّه ليس الأول من نوعه، إلا أنه بدا بمثابة "نقطة ارتكاز" في محاولة إعادة ترتيب الأولويات الأميركية في
الشرق الأوسط ، حيث كانت غزة العنوان الأول الذي شغل الرئيس الأميركي، الذي تحدّث مطوّلاً عن المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، وعن ضرورة منع انهياره، وعن نزع سلاح حركة حماس كشرط لأي تسوية مستدامة، فضلاً عن إعادة تثبيت سقف المواجهة مع
إيران .
أما
لبنان ، الذي يتحضر لسيناريوهات تصعيدية إسرائيلية يكثر الحديث عنها في الإعلام العبري، فلم يحضر في المؤتمر إلا من باب "إشارة عابرة" سلبية من ترمب عن "
حزب الله ". فهل يعني تجاهل لبنان في الخطاب العلني أنه خارج حسابات اللحظة الأميركية، أم أن اختصاره بجملة عابرة يحمل في طيّاته رسالة ضغط محسوبة؟ والأهمّ، ما صحّة الحديث عن مقايضة غير معلنة بين أولويات ترمب في غزة، وهوامش الحركة التي قد يُمنحها نتنياهو على جبهات أخرى؟
فلسطين والإقليم… ترتيب أولويات واشنطن
من يتابع بدقة خطاب ترامب بعد القمّة، يلاحظ أن تركيزه لم يكن على توسيع المواجهة، بل على إدارتها، فهو بدا معنيًا قبل أيّ شيء شيء بضمان الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة، لما تحمله من قيمة سياسية داخلية وخارجية، ولا سيما أنّ نجاح هذا المسار يسمح له بتقديم نفسه كرجل "إطفاء حرائق" كما يرغب، لا كرئيس فتح جبهات، ويمنحه ورقة تفاوضية في مواجهة خصومه في الداخل الأميركي.
بهذا المعنى، يمكن قراءة نبرة ترامب تجاه نتنياهو بوصفها مزيجًا من الدعم والضبط في آن واحد: دعمٌ سياسي واضح، وتفهّم لهواجس
إسرائيل الأمنية، وهو ما ترجمه بخطاب مباشر عن ضرورة نزع سلاح "حماس" خاتا مدة "قصيرة جدًا"، وتلويح بعواقب "باهظة" إذا لم يحصل ذلك، مقابل حرص على عدم الذهاب إلى مغامرات ميدانية واسعة قد تفرض على الإدارة الأميركية التدخل المباشر، أو تُحرجها أمام حلفائها وشركائها الدوليين
في المقابل، تُظهِر القمة أن الإقليم يُدار كسلة مترابطة بصورة أو بأخرى، فترامب تطرّق إلى
سوريا من زاوية "إصلاح الأمور" والسعي إلى ترتيب ما بين دمشق وتل أبيب، وفتح نافذة على دور
تركي ، في مشهد يشي بأن واشنطن تريد خفض التوترات التي تُعقّد خارطة ما بعد 2025، أو على الأقل ضبطها ضمن تفاهمات مصلحية، لتبقى إيران العنوان الذي يُستخدم لتثبيت "الردع" أكثر من فتح باب تسوية، وإن بقي الخياران مطروحَين.
لبنان.. "الغائب الحاضر"
بعيدًا عن غزة والإقليم، كانت لافتة الطريقة التي ذُكر بها لبنان في المؤتمر الصحافي. فترامب لم يتحدث عن الدولة
اللبنانية ، ولا عن الحكومة، ولا عن الجيش، بل اختصر الملف كله بجملة واحدة عن "حزب الله"، وبنبرة سلبية واضحة، ولو أنّها لا ترقى إلى مستوى إعلان سياسة جديدة أو رسم مسار تصعيدي واضح، بل يمكن القول إنّ أهميتها في ما قد يُفهَم "ضمنًا" منها، وهو أنّ المهلة الممنوحة للحكومة اللبنانية لم تنفد بعد.
فأن يقول ترامب إنّه "سيتابع" ما ستسفر عنه جهود حكومة لبنان لنزع سلاح الحزب، يمكن أن يُفهَم بطريقتين: ضغطٌ إضافي على الدولة لتقديم "نتائج ملموسة" في ملف شديد التعقيد، وفي الوقت نفسه إشارة إلى أن واشنطن لم تُغلق النافذة بعد وأنّ المهلة لم تنته. فلو كانت واشنطن قد حسمت خيارها بالذهاب إلى التصعيد في لبنان، أو بمنح إسرائيل غطاءً صريحًا لتوسيع عملياتها، لكان ذلك انعكس لغةً أوضح، ومواقف أكثر حدة، وربما تحديد سقوف أو مطالب مباشرة.
أما فرضية "المقايضة" بين غزة ولبنان، التي كثير الحديث عنها، بمعنى أن يمنح ترامب نتنياهو "الضوء الأخضر" لتوسيع عملياته في لبنان مقابل التزامه بالانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة، فتبقى في نطاق الاستنتاج السياسي لا المعلومة، علمًا أنّ المؤشرات المتاحة لا تمنح ربطًا بين الملفين. إلا أنّ ذلك حتى لو صحّ، لا يعني أن لبنان في مأمن، ولا أن الضغوط ستتراجع، بل يعني أن إدارة الملف ستبقى في المنطقة الرمادية: لا تهدئة شاملة، ولا حرب مفتوحة
ما بين سطور قمة ترامب-نتنياهو، يظهر لبنان كملف "مؤجَّل" لا "منسي"، وفي السياسة، حين لا تُقال الأمور كاملة، فهذا لا يعني أنها غير مطروحة، بل يعني أنها قيد التقدير والقياس. هذا الواقع يضع الدولة اللبنانية أمام اختبار مزدوج: استثمار الهامش المتاح، مهما كان محدودًا، لتثبيت الاستقرار ومنع الانزلاق، وفي الوقت نفسه إدراك أن هذا الهامش ليس دائمًا، وأن أي سوء تقدير قد ينقل الملف من جملة عابرة في مؤتمر صحافي، إلى بند رئيسي على طاولة قرارات لا تُصاغ في
بيروت .