لا يزال المشهد الإقليمي مفتوحا على احتمالات تصعيد إضافي، في ظل استمرار التوتر بين طهران وتل أبيب، وتعقد المسارات الدبلوماسية، وتراجع فرص الاحتواء في المدى المنظور. فبعد حرب الأيام الاثني عشر، تتباين التقديرات حول ما إذا كانت المواجهة قد بلغت ذروتها أم أنها لا تزال في طور إعادة التموضع. واشنطن، وفق قراءتها الاستخبارية، لا ترى أن
إيران قريبة من استئناف نشاطها النووي، ولا تعتبر أن برنامجها الصاروخي يشكل أولوية عاجلة في سلم تهديداتها، في حين تتعامل
إسرائيل مع هذا البرنامج باعتباره خطرا استراتيجيا مباشرا لا يقل أهمية عن البرنامج النووي، وتضع استهدافه في صدارة حساباتها. هذا التباين في المقاربة لا يلغي حقيقة أن أي إخفاق في إدارة هذا الخلاف قد يفتح الباب أمام مواجهة جديدة، خصوصا في ظل التصريحات الإيرانية التي تحذر من رد أشد في حال تكرار أي عدوان، ما يعكس مناخا إقليميا هشا وقابلا للاشتعال عند أي خطأ في الحسابات.
وبانتظار ما سيسفر عنه لقاء الرئيس الأميركي
دونالد ترامب ورئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فلوريدا اليوم، يقول المتابعون إن الإسرائيلي لن يذهب إلى حرب شاملة مع إيران، بما تحمله من مخاطر وجودية، إلا في حالة واحدة: تحييد
حزب الله تحييدا كاملا. ويتحقق ذلك إما عبر استسلام صريح ومعلن، أو من خلال فرض هدنة طويلة الأمد تخرجه عمليا من معادلة الصراع، وتفقده دوره كحليف استراتيجي لإيران، أو كما يسميه خصومه الذراع الإيرانية. وهذه النقطة تشكل العامل الجوهري والأكثر ضغطا على صانع القرار الإسرائيلي. فغياب هذا الشرط يعني أن أي مواجهة مع إيران ستتحول تلقائيا إلى رافعة سياسية وعسكرية لحزب الله، تمنحه شرعية التدخل، ولو في مراحله الأولى، تحت عناوين يصعب الطعن بها، مثل السيادة الوطنية، ومقاومة الاحتلال، وقضية الأسرى.
وعليه، تدرك إسرائيل أن فتح جبهة مع إيران من دون ضمان تحييد الجبهة الشمالية لا يعني توسيع ساحة الحرب فحسب، بل نقلها إلى مستوى استنزاف مفتوح، تتداخل فيه الجبهات وتفقدها القدرة على التحكم بسقوف التصعيد ونتائجه.
وضمن هذا الإطار، تتقدم ساحة الاشتباك في
لبنان ، إلى الواجهة، ليس فقط بحكم الموقع الجغرافي، بل بسبب موقع حزب الله في معادلة الردع الإقليمية. فالمقاربة الأميركية–
الإسرائيلية حيال لبنان تقوم على فصل مسارين متوازيين: مسار الضغط العسكري والسياسي والاقتصادي على الحزب، ومسار التفاوض مع الدولة
اللبنانية ، باعتبارها كيانا يمكن ضبطه وإدارته ضمن حدود معينة. هذا الفصل يسمح بمواصلة الضربات الإسرائيلية ضد الحزب في الجنوب والعمق اللبنانيين، مقابل الاكتفاء أميركيا بالمطالبة بعدم استهداف مؤسسات الدولة أو المس بالجيش ، الذي ييظر إليه كركيزة أساسية في مرحلة ما بعد ما يسمّى حصرية السلاح.
غير أن هذا التصور يصطدم بواقع لبناني داخلي بالغ الحساسية، وهو ما عبر عنه بوضوح الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، حين نبه إلى أن لبنان يقف أمام مفصل تاريخي، محذرا من أن الدعوة إلى حصرية السلاح في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية لا تعبر عن مقاربة سيادية، بل تندرج في إطار مشروع أميركي–إسرائيلي يهدف إلى فرض وصاية سياسية وأمنية على البلاد.
وفي قراءته، فإن الفصل بين استمرار العدوان من جهة، والمطالبة بإجراءات داخلية من الدولة اللبنانية من جهة أخرى، يفرغ مفهوم السيادة من مضمونه، ويحول الدولة إلى أداة ضغط على الداخل بدل أن تكون درعا في مواجهة الخارج.
ومن هذا المنطلق، يربط الحزب، وفق ما شدد عليه قاسم، أي نقاش حول استراتيجية الأمن الوطني أو مستقبل السلاح بانسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي اللبنانية، ووقف العدوان جوا وبرا وبحرا، وإطلاق الأسرى، وبدء مسار الإعمار. ويؤكد في هذا السياق أن "لم يعد مطلوبا من لبنان أي إجراء، على أي صعيد، قبل أن يلتزم العدو الإسرائيلي بما عليه من التزامات"، مضيفا: "لا تطلبوا منا شيئا بعد الآن، وليس مطلوبا من لبنان أن يكون شرطيا لدى إسرائيل".
في المقابل، بدأت ملامح الترجمة العملية لمطلب حصرية السلاح بالظهور في الخطاب الرسمي للدولة، إذ أكد رئيس الحكومة نواف سلام أن المرحلة الثانية من خطة الجيش اللبناني لحصر السلاح، والمفترض أن تبدأ قريبا، ستكون بين ضفتي نهر الليطاني جنوبا ونهر الأولي شمالا، على أن تليها مرحلة ثالثة في
بيروت وجبل لبنان، ثم مرحلة رابعة في البقاع، وصولا إلى استكمال الخطة في بقية المناطق. وهذا الإعلان، بتوقيته ومضمونه الجغرافي، يكشف حجم الضغوط الدولية المفروضة على الدولة اللبنانية، ويضعها في مواجهة مباشرة مع الاعتراض الذي عبر عنه حزب الله أمس، والذي يرى في المضي بهذه الخطوات، في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية، استجابة غير متكافئة لمعادلة مختلة، تحمل الداخل اللبناني التزامات إضافية فيما يبقى الخارج في موقع الإفلات من أي التزام مماثل.
ويأتي هذا السجال في لحظة تتكثف فيها الضغوط السياسية والاقتصادية على لبنان، ويتحرك فيها المسار الدبلوماسي العربي، ولا سيما عبر التنسيق القطري–السعودي بشأن الملف اللبناني، في محاولة لاحتواء التدهور ومنع انزلاق الوضع نحو فوضى شاملة. غير أن هذا الحراك، على أهميته، يبقى محكوما بحدود تأثيره في ظل غياب تسوية إقليمية أوسع، وفي ظل التعامل مع لبنان كساحة فرعية في صراع إقليمي أكبر.
وتتجلى حساسية هذه المرحلة ميدانيا مع التطورات الأخيرة في الجنوب، ولا سيما قيام الجيش بتفتيش منازل في قرى وبلدات جنوبية بناءً على طلب الميكانزيم، فرغم أن بعض هذه المنازل كان قد خضع للتفتيش سابقا أو تضرر خلال الحرب، إلا أن دلالة الخطوة تتجاوز بعدها الإجرائي، لتطرح أسئلة سياسية وأمنية عميقة حول حجم الضغوط المفروضة على المؤسسة العسكرية، وموقعها الدقيق بين الالتزامات الدولية ومتطلبات الحفاظ على السلم الأهلي وثقة البيئة الداخلية، في وقت لا تزال فيه الاعتداءات الإسرائيلية مستمرة.
في المحصلة، يقف لبنان اليوم عند تقاطع خطير بين تصعيد إسرائيلي لم تُحسم مساراته بعد، وضغوط دولية تسعى إلى إعادة تشكيل توازنات لبنان الداخلية، وانقسام داخلي عميق حول مفهوم السيادة وأولويات المرحلة. وبينما يدار الصراع الإقليمي بمنطق تفكيك الساحات وتجزئة الملفات، يبقى لبنان مهددا بأن يتحول مجددا إلى ساحة حرب.